الإصحاح التاسع والعشرون

 

الإصحاحات 29، 30، 31 لها تسلسل

        إصحاح (29) يكلمنا عن أيوب وأيامه السعيدة.

        إصحاح (30) يكلمنا عن تعاسة أيوب.

        إصحاح (31) يكلمنا عن رفضه لتهم أصحابه.

فهو يحكي لأصحابه كيف كان عظيماً، كاملاً، في كرامة، شهماً. ثم كيف اصبح فقيراً معدماً، وهذا كله لكي يجعل أصحابه يشفقون عليه. ثم يبرر نفسه أمامهم حتي لا يظنوا أن التهم التي إتهموه بها لاصقة عليه. ونلاحظ الآتي:-

1.     كان خطأ أيوب أن يظل يشكي ويشكي من آلامه، وهذا يزيد مرارة النفس، ويضاعف من آلامه وأحزانه، خصوصاً حين يذكر أيام إزدهاره. وبينما يظن المتألم أنه يعزي نفسه حين يشكو حاله، إذ به يزيد مرارة نفسه دون أن يدري.

2.     نلاحظ في كلام أيوب أنه يتكلم عن نفسه كثيراً، وعن عظمته، ولا يأتي بأي سيرة عن الله، أو أن الله هو الذي أعطاه، لذلك نجد أن الله بحكمة يجرد أيوب من كل شئ، ليري نفسه علي حقيقتها ويذكر أن عظمته مصدرها هو الله.

3.     إذا فهمنا أن إصحاح "28" يكلمنا عن أقنوم الحكمة. يأتي إصحاح "29" ليكلمنا عن المسيح البار في حياته إذ كان بلا خطية يلومه أحد عليها، فأيوب في كماله كان يرمز للمسيح. ثم يأتي إصحاح "30" ليكلمنا عن المسيح المتألم. وفي هذا نعلم أن أيوب كان يرمز للمسيح في آلامه. ويأتي إصحاح "31" ليشرح أن آلام المسيح كانت بلا سبب "من منكم يبكتني علي خطية. هذا من الناحية الرمزية، ولكن من يبرر نفسه هكذا يخطئ.

 

الأيات (1-5):-" 1وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: 2«يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي الشُّهُورِ السَّالِفَةِ وَكَالأَيَّامِ الَّتِي حَفِظَنِي اللهُ فِيهَا، 3حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي، وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ الظُّلْمَةَ. 4كَمَا كُنْتُ فِي أَيَّامِ خَرِيفِي، وَرِضَا اللهِ عَلَى خَيْمَتِي، 5وَالْقَدِيرُ بَعْدُ مَعِي وَحَوْلِي غِلْمَانِي،"

 ياليتني كنت. . . . أيام عظمتي وثروتي لكنت في فرح، وكان تعييركم لي قد توقف. ونسب هنا أيام راحته لحفظ الله له. وكانت علامات حفظ الله له كثرة ثروته. "إسم الرب برج حصين يلجأ إليه الصديق ويتمنع". . ويحتمي به. وسراج الله هو علامة رضاه. والنور علامة علي أن أيامه كانت مفرحة ومشرقة. وكانوا يعلقون السراج وسط الخيمة فتضئ كلها، أي أن حياته كلها وكل أموره كانت مزدهرة. وقد أعطي الله أيوب تأكيدات بأنه راضي عنه= رضا الله علي خيمتي= فهو فهم أن ثروته وأولاده وصحته كانوا علامات رضا الله. فلما إختفوا، كان مما زاد ألمه أن شعر بأن الله لم يعد راضياً عليه. ولنلاحظ ان الله يعطينا الأن من علامات محبته ما هو عربون ما سنحصل عليه في السماء. ايام خريفي= تترجم في (اليسوعية) عنفواني أي أيام شبابي ونضجي. والقدير بَعْدُ معي= كان تصور أيوب الخاطئ أنه في أيام إزدهاره كان الله معه، أما في آلامه فالله قد تخلي عنه. بعد معي= ما زال معي

 

الأيات (6-25):-" 6إِذْ غَسَلْتُ خَطَوَاتِي بِاللَّبَنِ، وَالصَّخْرُ سَكَبَ لِي جَدَاوِلَ زَيْتٍ. 7حِينَ كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى الْبَابِ فِي الْقَرْيَةِ، وَأُهَيِّئُ فِي السَّاحَةِ مَجْلِسِي. 8رَآنِي الْغِلْمَانُ فَاخْتَبَأُوا، وَالأَشْيَاخُ قَامُوا وَوَقَفُوا. 9الْعُظَمَاءُ أَمْسَكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. 10صَوْتُ الشُّرَفَاءِ اخْتَفَى، وَلَصِقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِأَحْنَاكِهِمْ. 11لأَنَّ الأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي، وَالْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي، 12لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ. 13بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ. 14لَبِسْتُ الْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي. 15كُنْتُ عُيُونًا لِلْعُمْيِ، وَأَرْجُلاً لِلْعُرْجِ. 16أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا. 17هَشَّمْتُ أَضْرَاسَ الظَّالِمِ، وَمِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ خَطَفْتُ الْفَرِيسَةَ. 18فَقُلْتُ: إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ الرُّوحَ، وَمِثْلَ السَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّامًا. 19أَصْلِي كَانَ مُنْبَسِطًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالطَّلُّ بَاتَ عَلَى أَغْصَانِي. 20كَرَامَتِي بَقِيَتْ حَدِيثَةً عِنْدِي، وَقَوْسِي تَجَدَّدَتْ فِي يَدِي. 21لِي سَمِعُوا وَانْتَظَرُوا، وَنَصَتُوا عِنْدَ مَشُورَتِي. 22بَعْدَ كَلاَمِي لَمْ يُثَنُّوا، وَقَوْلِي قَطَرَ عَلَيْهِمْ. 23وَانْتَظَرُونِي مِثْلَ الْمَطَرِ، وَفَغَرُوا أَفْوَاهَهُمْ كَمَا لِلْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ. 24إِنْ ضَحِكْتُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوا، وَنُورَ وَجْهِي لَمْ يُعَبِّسُوا. 25كُنْتُ أَخْتَارُ طَرِيقَهُمْ وَأَجْلِسُ رَأْسًا، وَأَسْكُنُ كَمَلِكٍ فِي جَيْشٍ، كَمَنْ يُعَزِّي النَّائِحِينَ."

هنا يشرح أيوب حاله أيام إزدهاره وفيها كثير من إنتفاخ الذات.

غسلت خطواتي باللبن= من وفرة الإنتاج في المراعي. والصخر سكب لي جداول زيت= كان الزيت وفيراً جداً كأن الصخر يسكبه. حين كنت أخرج إلي الباب= الباب هو مكان العظماء. فكان أيوب يذهب إليه لينصف المظلوم. ويتضح من هنا عظمة مركز أيوب وأن الناس كانوا يهابونه. (وإختيار الباب (باب المدينة) ليجلس فيه القضاة هو لتسهيل مهمة أن يصل كل مظلوم للقضاة لينصفونه). رآني الغلمان فإختبأوا= من هيبته وربما كانوا يخشونه لأنه يعاقب المخطئ. الأشياخ قاموا= إحتراماً. (وإن كان يجب إحترام الشخص المهم فكيف ينبغي أن نقف أمام الله في الصلاة). العظماء أمسكوا عن الكلام= إحتراماً، ولكي يسمعوا أقواله فهو إذا تكلم كانت له القدرة أن يظهر الحكمة ويحل المشاكل، ويظهر الحق. لأن الأذن سمعت فطوبتني= الرؤساء سمعوا حكمته فطوبوه والمساكين حين أنصفهم بعدله طوبوه أيضاً. بركة الهالك= أي الذي أنقذه من الهلاك بأن أنصفه، فبركته أي دعائه حل عليه. لبست البر فكساني أي عدله وبره ظهروا دائماً عليه فكانا كثوبه لا يظهر بدونه. وعمامة كان عدلي= العمامة تشير لأفكاره وقرارته وكلها عدل. عيوناً للعمي= أي مرشداً لمن فقد طريقه ولا يعرف ماذا يفعل. أرجلاً للعرج= أي من يعرف طريقه ولكنه ليس لديه القدرة علي حل مشكلته.

دعوي لم أعرفها فحصت عنها= أي أنه أنصف حتي الغرباء الذين لا يعرفهم. فهو يبذل كل جهد لينصف أي مظلوم. وكان يعاقب الظالم= هشمت أضراسه. أي حرم الظالم من وسائل ظلمه التي بها يفترس ضحيته= ومن بين أسنانه خطفت الفريسة.

وفي آية (18). كان مما سبب إنتعاشاً لأمال أيوب أنه تصور أن إزدهاره مستمر. حتي لو تعرض لتجارب، كان متأكداً أنه سيمر منها بسلام وكان يتعشم بأن تكون أيامه طويلة كأيام السمندل (phoenix). وهو طائر خرافي يتغذي علي نبات سام قاتل ولا يموت، يعيش 500 سنة وبعدها يحرق نفسه وعشه ومن خلال الرماد ينهض كأجمل ما يكون ليعيش 500 سنة أخري وهلم جرا. إني في وكري أسلم الروح اي سيظل آمناً في عشه وحتي لو أصابته التجارب سيخرج أقوي مما كان كالسمندل والسمندل يترجم أيضاً العنقاء. ولتشبيه حالته وإستقراره شبه نفسه كشجرة علي مياه كثيرة، لا خوف من أن تنضب وبالتالي لا خوف من أن تموت الشجرة فالمياه من الأرض متوفرة وكذلك الطل من السماء. كرامتي بقيت حديثة= أي أن الله كان مستمراً في إحساناته عليه. وكان من حوله لهم كل يوم شيئاً جديداً يقولونه لمدحه وكرامته. وكانت إحسانات الله عليه متجددة كل يوم. قوسي تجددت= أي قوته ظلت مستمرة يزعج بها أعداؤه وينصف بها المظلومين. وفي (21-23) يشير لأن أقواله كانت تقطر حكمة. لم يثنوا= لم يجدوا نقصاً فيما قلت فيكملونه أو خطأ يصححونه. ونلاحظ أن الله أعطي لأيوب الكثير وهو أعطي الأخرين. وكل رجال الله وخدامه يجب أن يكونوا هكذا يأخذون من الله ليعطوا الأخرين. كما أن السماء تأخذ من الأرض بخار الماء لتعيده للأرض مطراً. إن ضحكت عليهم لم يصدقوا= إن تبسمت إليهم (حسب اليسوعية). كان من يبتسم لهم يحسبون أنفسهم سعداء. وكانوا يبادلونه نفس الإبتسامات والمشاعر، وكان هذا يفرحه’= ونور وجهى لم يعبسوا= أي كان في سلام كامل، سعيداً بحب الناس له. كنت أختار طريقهم= كان دليلاً ومرشداً للمظلوم وكان بسلطانه هو المسيطر الذي ينصف الجميع.

في هذا الإصحاح أيوب كان رمزاً للمسيح الذي هو كلمة الله وحكمته تجسد لنراه مثلنا إنساناً كاملاً باراً يعزي النائحين، هو الذي يتكلم فتغلق كل الشفاه. وهو الحي أبداً لا يموت، حتي وإن مات كان لابد وسيقوم(هذا ما تشرحه قصة السمندل) رمزاً لقيامة المسيح وطول أيامه، ورمزاً لقيامة كل الموتي المؤمنين الذين ظلمهم إبليس.