يقول
القديس أثناسيوس وغريغوريوس الناطق بالإلهيات أن داود ألف هذا المزمور بإلهام
الروح القدس وأعطاه ليدوثون الذي انتخبه داود للتسبيح.
غالباً
كان داود في ألم عظيم وهو يكتب هذا المزمور، ولكنه قرَّر أن يضبط عواطفه ويبقيها
داخله، لا يتذمر ولا يشتكي أمام أعدائه، ولكن يتكلم ويفضي بما في داخله أمام الله
فقط. ونجد داود هنا يشعر أن الإنسان كبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل، فتساءل، ولماذا
كل هذا الصراع على الدنيا والكل سينتهي سريعاً. وفي ألمه يردد ما قاله أيوب من
قبل.. إذا كانت أيامي ستنتهي سريعاً فهل أحيا هذه الحياة القصيرة وأنا متألم بكل
هذه التأديبات.
آية
(1):- "1قُلْتُ: « أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ الْخَطَإِ
بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيمَا الشِّرِّيرُ مُقَابِلِي»."
نرى
قرار داود بأنه لن يتكلم، فهو لن يتهم أعداؤه، ولن يبرئ نفسه أمام الأشرار، ومن
يحفظ لسانه يحفظ نفسه (يع3). ولكنه لن ولم يصمت أمام الله.
آية
(2):- "2صَمَتُّ صَمْتًا، سَكَتُّ عَنِ الْخَيْرِ، فَتَحَرَّكَ
وَجَعِي."
هنا
تصوير آخر، أنه امتنع عن كلمات الخير أمام الأشرار إذ هم يسخرون مما يقول، فقرر أن
لا يلقي درره قدام الخنازير (مت6:7). ولكن عدم شهادته لله أوجعته.
آية
(3):- "3حَمِيَ قَلْبِي فِي جَوْفِي. عِنْدَ لَهَجِي اشْتَعَلَتِ
النَّارُ. تَكَلَّمْتُ بِلِسَانِي:"
نرى
المرنم هنا في صراع بين أن يتكلم وأن يسكت، له حنين أن يشهد لله، ولكنه مقتنع أن
كلامه سيزيد الشرير هياجاً وسخرية. فلجأ لله ليرشده = تَكَلَّمْتُ
بِلِسَانِي.
الآيات
(4-6):- "4«عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي
كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. 5هُوَذَا جَعَلْتَ
أَيَّامِي أَشْبَارًا، وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ
إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ. سِلاَهْ. 6إِنَّمَا كَخَيَال يَتَمَشَّى
الإِنْسَانُ. إِنَّمَا بَاطِلاً يَضِجُّونَ. يَذْخَرُ ذَخَائِرَ وَلاَ يَدْرِي
مَنْ يَضُمُّهَا."
إذ
دخل المرنم في حوار مع الله اكتشف تفاهة الحياة البشرية وقصرها. عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي = عرفني أنني
لن أبقي هنا كثيراً في هذه الشدائد والضيقات وسخرية من يسمع (ما قاله في آية2).
ومن يدرك ما أعده الله له في الأبدية يدرك تفاهة هذه الأيام الأرضية. الإِنْسَانٍ إِنَّمَا
كَخَيَال = هل يستطيع أحد أن يمسك ظل الأشياء، هكذا كل من يحاول أن
يتمسك بأمور هذا العالم= بَاطِلاً يَضِجُّونَ
= باطلاً يتعبون ليكنزوا الماديات.
الآيات
(7-13):- "7«وَالآنَ، مَاذَا انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ؟ رَجَائِي فِيكَ
هُوَ. 8مِنْ كُلِّ مَعَاصِيَّ نَجِّنِي. لاَ تَجْعَلْنِي عَارًا عِنْدَ
الْجَاهِلِ. 9صَمَتُّ. لاَ أَفْتَحُ فَمِي، لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ. 10ارْفَعْ
عَنِّي ضَرْبَكَ. مِنْ مُهَاجَمَةِ يَدِكَ أَنَا قَدْ فَنِيتُ. 11بِتَأْدِيبَاتٍ
إِنْ أَدَّبْتَ الإِنْسَانَ مِنْ أَجْلِ إِثْمِهِ، أَفْنَيْتَ مِثْلَ الْعُثِّ مُشْتَهَاهُ.
إِنَّمَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْخَةٌ. سِلاَهْ. 12اِسْتَمِعْ صَلاَتِي
يَا رَبُّ، وَاصْغَ إِلَى صُرَاخِي. لاَ تَسْكُتْ عَنْ دُمُوعِي. لأَنِّي أَنَا
غَرِيبٌ عِنْدَكَ. نَزِيلٌ مِثْلُ جَمِيعِ آبَائِي. 13اقْتَصِرْ عَنِّي
فَأَتَبَلَّجَ قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ فَلاَ أُوجَدَ»."
المرنم
إذ أدرك تفاهة هذا العالم، وضع رجاؤه كله في الله، وليضمن نصيبه الأبدي صلي= مِنْ كُلِّ مَعَاصِيَّ نَجِّنِي ، ويعترف أن
الخطية تجعله عاراً عند الجاهل. وفي (9) نجده يُسَّلم نفسه تماماً بين يدي الله،
ويقبل منه كل تأديب حتى يخلصه من خطاياه. ولكنه في ضعف وانسحاق يرفع عينيه إلى
الله ليرفع عنه تأديباته = ارْفَعْ عَنِّي
ضَرْبَكَ. ونلاحظ أن الله يسمح بهذه الضربات والتأديبات حتى يقتنع
أولاده بتفاهة الأرضيات وأنها زائلة. فالله بتأديباته يفني شهواتهم مثل العث.
ويقتنع الإنسان أنه نَفْخَةٌ أي هو زائل
سريعاً فلماذا التمسك بالأرضيات. فآية (11) تشير لفائدة الآلام. وفي (12) صلاة لله
حتى يقبله ويسمع صراخه ودموعه ويكتفي بهذه التأديبات، ويكون توقف التأديبات علامة
على قبول الله ورضاه عليه، وهو يطلب هذا في (13) أن يكف الله عن تأديباته ويعلن
قبوله قبل أن يموت، فبعد الموت لا توجد فرصة للتوبة. ولاحظ شعوره بالغربة في هذا
العالم. أَتَبَلَّجَ= أفرح.