المزمور المئة والتاسع

 

ربما كتب داود هذا المزمور وهو متألم من خيانة شاول أو أحد رجال شاول (دواغ) أو بسبب خيانة أخيتوفل، هذا غير واضح، إنما الواضح أنه بروح النبوة كتبه وعينه على خيانة يهوذا والأمة اليهودية كلها للمسيح، ونبوته عن الخراب الذي سيلحقهم بعد هذه الخيانة. ونفهم أن المزمور عن المسيح، فهكذا طبق بطرس آية (8) من المزمور في (أع20:1) وكل المصير الصعب الذي قيل عن الخائن كان نبوة ضد يهوذا واليهود كشعب.

 

الآيات (1-5):- "1يَا إِلهَ تَسْبِيحِي لاَ تَسْكُتْ، 2لأَنَّهُ قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَفَمُ الْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كِذْبٍ، 3بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي، وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. 4بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةٌ. 5وَضَعُوا عَلَيَّ شَرًّا بَدَلَ خَيْرٍ، وَبُغْضًا بَدَلَ حُبِّي."

يظهر هنا داود المحب كرمز للمسيح الذي كان يجول يصنع خيراً. وأعداء داود تأمروا عليه ولفقوا ضده التهم، وهكذا حدث مع المسيح. فَمُ الشِّرِّيرِ وَفَمُ الْغِشِّ = إبليس الذي تكلم على فم يهوذا وعلى فم الفريسيين والكهنة.. أو كرمز لذلك دواغ أو أخيتوفل. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةٌ = ماذا يفعل الإنسان أمام مؤامرات الأعداء الغاشة، كيف يتعزى أو يشعر بإطمئنان إن لم يلتصق بالله في صلاة بلا انقطاع. وإذا استجاب الله وأنقذه ماذا يفعل إلا أن يسبحه ويشكره ويستمر في صلاته حتى لا ينجح الأشرار في إيذائه. وهكذا نلاحظ فالتلاميذ كانوا لا يكفون عن الصلاة (أع4:6) وكانوا حين يصلون بنفس واحدة يمتلئوا من الروح القدس. وصموئيل النبي اعتبر أنه لو كف عن الصلاة لأجل الشعب فهذه خطية (1صم23:12). أما أنا فصلاة، تشير لأن الفكر والقلب في صلة مع الله بلا انقطاع خلال العمل وخلال الفراغ، خلال اليقظة وخلال النوم.

 

الآيات (6-15):- "6فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيرًا، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. 7إِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِبًا، وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. 8لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً، وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. 9لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَامًا وَامْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً. 10لِيَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَانًا وَيَسْتَعْطُوا، وَيَلْتَمِسُوا خُبْزًا مِنْ خِرَبِهِمْ. 11لِيَصْطَدِ الْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ، وَلْيَنْهَبِ الْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ. 12لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً، وَلاَ يَكُنْ مُتَرَأِفٌ عَلَى يَتَامَاهُ. 13لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ. فِي الْجِيلِ الْقَادِمِ لِيُمْحَ اسْمُهُمْ. 14لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى الرَّبِّ، وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ. 15لِتَكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا، وَلْيَقْرِضْ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ."

هي نبوة ضد من خان داود أو ضد يهوذا الخائن أو ضد شعب اليهود. وهذه الآيات لا تحسب دعاء على شخص، بل هي بوحي من الروح القدس قالها داود كنبوة، والرسل فهموها هكذا وطبقوا الآية وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ حرفياً فانتخبوا متياس عوضاً عن يهوذا. لأن يهوذا انتحر= وكُانتْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً. وهكذا بعد أن صلب اليهود الرب، قلت أيام دولتهم، بل انتهت، ووظيفتهم كشعب لله أخذها المسيحيين وفي خراب دولتهم على يد تيطس ترملت نساؤهم وصار أولادهم يتامي (9) وتشتتوا بعد ذلك في كل الأرض (10). كل هذا الخراب لأنهم أسلموا أنفسهم للشيطان (اليهود أو يهوذا) فتركهم الله في يده = فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيرًا، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ = وهذا معناه تسليمهم في يد الشيطان. فإن كان أيوب بكل محبته لله، حينما أراد الله أن يؤدبه سمح للشيطان أن يؤذيه ففعل به ما كان مضرباً للأمثال. فماذا يحدث لشعب اليهود وليهوذا الخائن فاقدي القداسة والحب حين يسلمهم الله ليد إبليس. يقال أن تيطس الروماني في سنة 70م حين أحرق أورشليم قتل 1.5 مليون وصلب 120.000 وأشعل فيهم النيران. وإِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِبًا = إذا حوكم يوم الدينونة دنه يا الله ولا تبرره. وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً = وهل يقبل الله صلاة من إنسان إمتلأ قلبه شراً وخبثاً. مثل هذا صلاته تعتبر خطية. والله ذكر لهم خطايا وتمرد أبائهم في مصر وفي البرية وفي أرض الميعاد، فالله يذكر خطايا الآباء في حالة عدم توبة الأبناء. وعوضاً عن أن يكونوا مثمرين يقرض الرب من الأرض ذكرهم.

 

الآيات (16-20):- "16مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً، بَلْ طَرَدَ إِنْسَانًا مِسْكِينًا وَفَقِيرًا وَالْمُنْسَحِقَ الْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ. 17وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. 18وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ، فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ. 19لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِهِ، وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِمًا. 20هذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَأُجْرَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرًّا عَلَى نَفْسِي."

سبب هذه الضربات أنهم لم يَصْنَعَوا رَحْمَةً بَلْ طَرَدَوا إِنْسَانًا مِسْكِينًا وَفَقِيرًا وَمُنْسَحِقَ الْقَلْبِ وِأُماتَوه = هو المسيح الوديع والمتواضع القلب، الذي ليس له أين يسند رأسه الذي افتقر لأجلنا وهو غني (2كو9:8 + لو58:9 + مت29:11 + مت38:26 + 1بط23:2) وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ = من يختار طريق الخطية والمعصية فهو اختار وأحب طريق اللعنة. ومثل هذا تحيط به اللعنات= لَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ. كل ما تمتد إليه يده فهو ملعون. وتتسلل اللعنة إلى حياته الداخلية فيشعر بأنه ملعون= دَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ = يشعر بها في نفسه داخلياً وفي أفكاره ومشاعره. وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ = حتى في صحته تجد اللعنة قد تسللت كما يتسلل الزيت من خلال ثقوب القماش للداخل. وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا = الإنسان يتمنطق حينما يقوم ليعمل. ولنتصور أنه في كل عمله يتمنطق باللعنة. واللعنة تكون في كل ما تمتد يده إليه.

 

الآيات (21-31):- "21أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ السَّيِّدُ فَاصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي. 22فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي. 23كَظِلّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ. انْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ. 24رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ. 25وَأَنَا صِرْتُ عَارًا عِنْدَهُمْ. يَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ.

26أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلهِي. خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ. 27وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هذِهِ هِيَ يَدُكَ. أَنْتَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ هذَا. 28أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ. قَامُوا وَخَزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ. 29لِيَلْبِسْ خُصَمَائِي خَجَلاً، وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ. 30أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي، وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ. 31لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكِينِ، لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ."

هنا تعبير عن آلام داود رمز لآلام المسيح= قَلْبِي مَجْرُوحٌ من الخيانة. وداود اقترب من الموت ونجاه الله، أما المسيح فمات فعلاً= كَظِلّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ. انْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ = من الآلام النفسية. رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ = داود صام فعلاً في حزنه. أما المسيح فعاش فترة قصيرة على الأرض ولم يعشها ليأكل ويشرب. وَأَنَا صِرْتُ عَارًا عِنْدَهُمْ وهذه نبوة عن الصلب + أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ. فالكتاب يقول ملعون كل من علق على خشبة (تث23:21). وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ = تحققت في (مت40:27 + مر29:15). وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هذِهِ هِيَ يَدُكَ = ليعلم الناس يا رب أنك أنت دبرت كل هذا لأجل خلاصهم. هذه تتفق مع قول يوسف لإخوته "أنتم قصدتم لي شراً. أما الله قصد به خيراً" (تك20:50) هم قصدوا أن يلحقوا اللعنة بالمسيح، والرب قصد بهذا بركة للعالم كله (آية28). أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي = فم المسيح هو المؤمنين الذي يسبحون الله على خلاصه. أَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ = والآب كان عن يمين المسكين حتى أقامه من الموت. والمسيح يكون عن يمين كل مسكين في شعبه ليعطيه الخلاص.