في
الإصحاح السابق قال الحكيم أنا أخبركم "ما الحكمة.." (آية24). ويبدأ هنا
يحدثنا عن الحكمة. وبكونه أحكم إنسان وإشتهرت حكمته في العالم بدأ قوله بأنه إنما
هو إنسان بسيط مثله مثل كل البشر، ولكن مصدر الحكمة عنده هو الله، فهو ليس مولوداً
بهذه الحكمة، إنما هي هبة من الله (آيات 7،15). وهو كحكيم كان رمزاً للمسيح أقنوم
الحكمة، فنرى الوحي يقوده إلى أن يتكلم عن المسيح أقنوم الحكمة الذي تجسد.
الآيات (1-6):- "1 إنكم انا إنسان يموت مشاكل لسائر الناس من جنس أول من جبل من الأرض
وقد صورت جسدا في جوف أمي. 2 وفي مدة عشرة اشهر صنعت من الدم بزرع
الرجل واللذة التي تصاحب النوم. 3 ولما ولدت انتشيت هذا الهواء الشائع
وسقطت على هذه الأرض المشتركة وأول ما استهللت بالبكاء على حد الجميع. 4 وربيت في
القمط وباهتمام كثير. 5 فانه ليس
لملك بدء مولد غير هذا. 6 بل دخول الجميع إلى الحياة واحد
وخروجهم سواء."
هو
إنسان عادي مثل باقي البشر= مشاكل لسائر الناس
أي مشابه لهم. من جنس آدم= أول من
جبل من الأرض. وولدت بطريقة طبيعية. وتبدو هنا مشكلة أنه قال في مدة عشرة أشهر صنعت= وقطعاً فهذه ليست خطأ،
فمن من البشر، بل أجهل البشر لا يعرف أن فترة الحمل هي تسعة أشهر. لكن العبرانيون
كانوا يستعملون الشهور القمرية التي تتراوح بين (28-30) يوماً وهو إختار أقل
الأيام أي 28يوماً للشهر، ومعروف علمياً أن مدة الحمل 40أسبوعاً × 7= 280يوماً.
فيكون عشرة أشهر هي 280يوماً. وهو ولد مثل أي طفل بالغريزة الطبيعية بين رجل
وامرأة= زرع الرجل واللذة التي تصاحب النوم=
أما أولاد الله المولودين من الماء والروح فهم "ولدوا ليس من دم، ولا من
مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو13:1). المقصود من هذا كله أنه
نال أكبر قسط من الرعاية لأنه طفل ضعيف جداً. والمخلوق البشرى عموماً فى منتهى
الضعف. فهو المخلوق الوحيد الذى يحتاج لكل هذه الرعاية. فبعض الحيوانات تلد وتترك
وليدها ومع هذا يعيش. أما سليمان هنا فيقول أنه نال أطول مدة من الرعاية فى بطن
أمه وأقصى أنواع الرعاية كابن ملك. فهو إنسان طبيعى جداً وضعيف جداً. أما الحكمة
فجاءته حينما طلبها من الله.
ولما ولدت إنتشيت= إستنشقت
الهواء وإنتشيت. وأستهللت بالبكاء على حد الجميع=
بدأت حياتي على الأرض بالبكاء كباقي الأطفال. وربيت
في القمط= هي ملابس الأطفال حديثي الولادة. وبإهتمام كثير= فلولا الإهتمام الكثير ما عاش طفل (إشارة لضعف
الطفل الشديد وإستحالة حياته دون إهتمام كثير من أهله). إذاً الكل يشترك في هذا
حتى أحكم الملوك.
الآيات (7-14):- "7 حينئذ تمنيت
فأوتيت الفطنة ودعوت فحل علي روح الحكمة. 8 ففضلتها
على الصوالجة والعروش ولم احسب الغنى شيئا بالقياس إليها. 9 ولم اعدل
بها الحجر الكريم لأن جميع الذهب بازائها قليل من الرمل والفضة عندها تحسب طينا. 10 وأحببتها
فوق العافية والجمال واتخذتها لي نورا لأن ضوءها لا يغرب. 11 فأوتيت
معها كل صنف من الخير ونلت من يديها غنى لا يحصى. 12 فتمتعت
بهذه كلها لأن الحكمة قائدة لها ولم اعلم إنها أم جميعها. 13 تعلمتها
بغير مكر وأشرك فيها بغير حسد وغناها لا استره. 14
فإنها كنز للناس لا ينقص والذين استفادوا منه أشركوا في محبة الله لأن مواهب
التأديب قربتهم إليه."
حينئذ تمنيت فأوتيت الفطنة= هذا
ما حدث لسليمان، فهو سأل الله، والله أعطاه الحكمة (1مل9:3،12). وحينما إختبر الحكمة
وجدها أفضل من الملك= فضلتها على الصوالجة=
جمع صولجان وهو القضيب الذهبي الذي يمسكه الملك كرمز للملك والسلطة. وفضلها عن
الغنى والحجر الكريم والعافية والجمال وإتخذتها لي
نوراً لأن ضوءها لا يغرب= هي مرشد له في كل تصرف فلا يخطئ، وهي موجودة
دائماً. طالما الروح القدس يملأ الإنسان، فهو روح الحكمة-= فحلَّ عليًّ روح الحكمة (آية7) وقارن مع
(إش2:11). ولذلك فأهم ما نطلبه هو الإمتلاء من الروح القدس. ولاحظ لماذا فضل
الحكمة على كل شئ ضوءها لا يغرب بينما
المال والجمال.. بل الحياة بكل ما فيها ستنتهي. بل من ليس له حكمة حتى وإن إمتلك
كنوز الدنيا سيضيعها. والمرأة الجميلة إن كانت بلا حكمة فهي لا تطاق. بل أن سليمان
حين سأل الله الحكمة، فرح به الله وبطلبه وأعطاها له واعطاه ايضا الغني الذي لم
يطلبه (1مل13:3) ولكن وضع الله شرطاً لسليمان ليستمر هذا كله (2مل14:3) "إن
سلكت في طريقي.."
فأوتيت معها كل صنف من الخير..=
(1مل13:3).
الحكمة قائدة لها= لو كان سليمان بلا
حكمة لأضاع كل هذا الغني في حروب مثلاً لا داعٍ لها. أُم
جميعها= بالحكمة يستطيع الإنسان أن يصير له الغنى. وبالجهل يضيع
الإنسان ماله من غني. والحكيم هنا يضع شروط الإمتلاء من الحكمة= تعلمتها بغير مكر= فالمكر هو حكمة لكنها أرضية
نفسانية شيطانية (يع15:3) وأُشرِكُ فيها بغير حسد=
كل ما أعطاه الله لسليمان أعطاه للناس بكل حب= أشرك
فيه بغير حسد= والحسد ضد الحب فإن كان مصدر الحكمة هو الروح القدس،
فكيف يظل الإنسان حكيماً أي ممتلئاً من الروح القدس وهو مملوء حسداً، فلا شركة
للنور مع الظلمة. كان يمكن لسليمان أن يحتفظ لنفسه بحكمته ولكنه في حب صاغ حكمته
في أمثال (3000مثل) وأناشيد (1005) وشرح للناس كل شئ عن الأشجار والخليقة
الحيوانية (1مل32:4،33). وغناها لا أستره= لم
يحجب عن الناس ما عرفه من غني الحكمة. ثم يضيف الحكيم أن ما يزيد الحكمة هو قبول
التأديب.
فإنها كنز الناس لا ينقص= قد
يظن خادم أنه حين يمنع بعض المعلومات عن الآخرين لتكون ملكاً خاصاً له، أنه ينقص
حين يعرف الآخرين ما عرفه، لكن سليمان يقول لا. الحكمة كنز لا ينقص. وكلما أعطيت
كلما إمتلأت "فالمروِي هو أيضاً يروَى" (أم25:11). وكل من يستفيد من
الحكمة التي عندك يشترك معك في محبة الله= أشركوا
في محبة الله. لأن مواهب التأديب قربتهم إليه= والله يكمل عمل الحكمة
بالتأديب أي بالتجارب والضيقات فتزداد الحكمة.
إذاً الملخص: الحكمة هي
أفضل ما نقتنيه/ لا تتوقف على إبن من أنت ولا على مركزك/ هي تُطلب من الله/ هي أُم
كل غني وبركة/ تنمو وتزدهر بالتأديب/ إذا أشركنا الناس فيها لا تنقص بل يشترك الكل
بها في محبة الله.
الآيات (15-16):- "15 وقد وهبني
الله أن أبدي عما في نفسي وان اجري في خاطري ما يليق بمواهبه فانه هو المرشد إلى
الحكمة ومثقف الحكماء. 16 وفي يده نحن وأقوالنا والفطنة كلها
ومعرفة ما يصنع."
هناك
من له حكمة ولكنه لا يستطيع التعبير عنها ولكن الله أعطى لسليمان موهبة حسن
التعبير فكتب قصائد وأمثال وعَلَّم الناس لأجيال عديدة وحتى اليوم. إذاً التعبير
عن الحكمة هو موهبة من الله. والفكر يجده سليمان في خاطره، الله وضعه، وأعطاه
أيضاً أن يبدي عما في نفسه.
الآيات (17-21):- "17 ووهبني علما
يقينا بالأكوان حتى اعرف نظام العالم وقوات العناصر. 18 ومبدأ
الأزمنة ومنتهاها وما بينهما وتغير الأحوال وتحول الأوقات. 19 ومداور
السنين ومراكز النجوم. 20 وطبائع الحيوان وأخلاق الوحوش وعصوف
الرياح وخواطر الناس وتباين الأنبتة وقوى العقاقير. 21 فعلمت
جميع المكنونات والظواهر لأن الحكمة مهندسة كل شيء هي علمتني."
هنا
نرى الحكمة تمتد فتعطي سليمان معرفة بالأكوان=
علم الفلك. وقوات العناصر= التي
تتكون منها المواد. ومبدأ الأزمنة ومنتهاها=
أي الأزلية والأبدية (وهذه لابد أن يكون مصدرها الله). تغير الأحوال= من حرارة إلى برودة وتحول الأوقات= الفصول ومداور الأزمنة= دوران وتعاقب السنين ودوران
الكواكب= مراكز النجوم. وكل شئ عن
الحيوانات والرياح بل وخواطر الناس والنباتات=
الأنبتة. وقوة
العقاقير= (الطب والصيدلة). فعلمت جميع
المكنونات= الأسرار أي ما هو مخفي والظواهر.
ثم يشرح أن الحكمة علمته كل هذا. الحكمة
مهندسة كل شئ هي علمتني= العالم كله تقوده الحكمة، فبلا حكمة يتخبط
العالم وينتهي. ولكن قوله مهندسة، فالمهندس يصمم وينفذ ويصون. من هذه الآية بدأ
الكلام يتخذ شكلاً موحي به من الله، ونجد الحكمة شخص خلق الكون، هو مهندس هذا
الكون وكل الخليقة. هذا ما قال عنه يوحنا "به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما
كان" (يو3:1) ويمتد الكلام بعد ذلك في الآيات التالية عن المسيح أقنوم الحكمة
مهندس الكون الأعظم.
الآيات (22-30):- "22 فان فيها
الروح الفهم القدوس المولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة اللطيف السريع الحركة
الفصيح الطاهر النير السليم المحب للخير الحديد الحر المحسن. 23 المحب
للبشر الثابت الراسخ المطمئن القدير الرقيب الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة
اللطيفة. 24 لأن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك
فهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء. 25 فأنها
بخار قوة الله وصدور مجد القدير الخالص فلذلك لا يشوبها شيء نجس. 26 لأجل
ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته. 27 تقدر على
كل شيء وهي واحدة وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها وفي كل جيل تحل في النفوس
القديسة فتنشئ أحباء لله وأنبياء. 28 لأن الله
لا يحب أحدا إلا من يساكن الحكمة. 29 إنما
أبهى من الشمس وأسمى من كل مركز للنجوم وإذا قيست بالنور تقدمت عليه. 30 لأن
النور يعقبه الليل أما الحكمة فلا يغلبها الشر."
الكلام
هنا عن الإبن الكلمة أقنوم الحكمة الذي كان سليمان رمزاً له، بل هو الذي علم
سليمان كل هذه الحكمة. ويعطي لأقنوم الحكمة صفات كثيرة.
فيها (في
الحكمة) الروح الفهم القدوس= فالإبن في
الروح القدس والروح القدس في الإبن هم إله واحد له ثلاثة أقانيم. وقوله القدوس فهو
يشير لله. فكلمة قدوس لا تقال سوى عن الله. أما البشر فيقال عنهم قديس. وحكمة الفَهِم= أي المملوء حكمة فهو روح الحكمة. المولود الوحيد= هو المولود أزلياً من الآب
ومولود جسدياً من العذراء. هو الوحيد الجنس. ذا
المزايا الكثيرة= ففيه كل الفضائل. اللطيف=
قال عن نفسه تعلموا منى فإني "وديع ومتواضع القلب" (مت29:11). السريع الحركة= هو وديع ولطيف ولكنه في نجدة
أولاده سريع الحركة، أما في العقوبة فهو طويل الأناة. الفصيح=
الفصاحة هي تعبير عن الحكمة، وكل أعمال المسيح كانت دلالة على أنه أقنوم الحكمة،
بل الحكمة وقد تجسدت. الطاهر= الذي قال
"من منكم يبكتني على خطية" (يو46:8). النير=
هو نور العالم (يو12:8). السليم= الذي
بلا خطأ، هو الحق الذي بلا عيب. المحب للخير=
ونصلي له قائلين "صانع الخيرات". الحديد=
وفي ترجمة أخرى "حاداً" فهو يضع حدوداً لكل شئ في العالم، هو ضابط
الكل. الحر= هو الله حريته مطلقة أما
حرية البشر فنسبية. المحسن= هذه طبيعة
الله منذ الأزل، خلق كل العالم وجعله جنة ليحيا الإنسان ولما فقدنا الجنة، جاء
بفدائه ليعطينا الملكوت. مروراً بكل الخيرات التي يهبنا إياها ونحن على الأرض، وكل
ذلك لأنه المحب للبشر. الثابت الراسخ المطمئن= "ليس عنده تغيير
ولا ظل دوران" (يع17:1) ولا يندم على قرار فهو لا يخطئ. المطمئن= لا يقلق فهو يرى المستقبل كما يرى
الماضي والحاضر وهو كلي القوة، بل يعطي طمأنينة لعبيده وهذا لأنه قدير= قوته غير محدودة. الرقيب= هو يرى كل شئ ويراقب كل إنسان. الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة= هو
لا يراقب فقط من الخارج، بل "هو فاحص القلوب والكلي" (رؤ23:2). وحيث أنه
ينفذ إلى جميع الأرواح فهو يسكن في أحبائه (أف17:3+يو23:14). الحكمة أسرع حركة= فلا تقيدها خطية ولا يعوقها
جسد مادي= "كلمة الله .. خارقة إلى مفرق النفس والروح" (عب12:4). بخار قوة الله= هي تدخل كل مكان لا يعوقها شئ
كالبخار، والبخار أبيض إشارة لنقاوة الكلمة حكمة الله، ولكن عمله قوي= قوة الله. والبخار المنطلق من الماء المغلي لا
يأخذ معه شيئاً من نجاسة الإناء= لا يشوبها شئ نجس.
إشارة للمسيح القائم من الأموات بقوة وصاعد للسماء كالبخار ولم يلصق به شيئاً من
خطايا الأرض.
صدور مجد القدير الخالص= في
ترجمة أخرى "إنبعاث خالص من مجد القدير" هو مولود من الله له نفس مجد
الآب.
لأنها ضياء النور الأزلي ومرآة عمل
الله النقية وصورة جودته= هذا نفس ما
قاله بولس الرسول عن المسيح
"هو
بهاء مجده ورسم جوهره" (عب3:1) حامل كل الأشياء بكلمة قدرته= تقدر على كل شئ. لذلك قال السيد المسيح "من
رآني فقد رأى الآب" (يو9:14). وقال القديس يوحنا الإنجيلي "الله لم يره
أحد قط. الإبن الوحيد الذي في حضن الآب هو خَبَّر" (يو18:1). وهي واحدة= فالله واحد. وتجدد كل شئ= الله يجدد كل تائب، وبفدائه جدد
البشرية (كل من آمن وإعتمد وعاش حياة التوبة تجدده النعمة). وهي ثابتة= الله لا يتغير ولا يتجدد. هو يجدد
الإنسان ولكنه هو لا يتجدد. وهذه الحكمة تحل في
النفوس القديسة فتجددها فتمتلئ محبة لله= فتنشئ
أحباء لله وأنبياء= أنبياء تشمل من يتنبأ عن المستقبل كإشعياء ومن يعظ
ويكلمنا عن السماء وطريق السماء الذي تذوقه حين أحب الله.
لأن
الله لا يحب أحداً إلاّ من يساكن الحكمة= أما
من يحب شهوات العالم تاركاً الحكمة فقد قيل عنه "محبة العالم عداوة لله"
(يع4:4). والحكمة تتقدم على النور (نور الشمس) لأن الشمس تغيب ويأتي بعدها الليل.
والليل رمز للشر= أما الحكمة فلا يغلبها الشر.
والحكمة (الإبن كلمة الله) أسمى من النجوم= فهو خالقها، فبه كان كل شئ.