نجد هنا تسبحة
يونان في جوف الحوت. وهي تسبحة حمد رائعة. لقد أجتاز يونان لحظات صعبة جداً، فقد
كان وهو في جوف الحوت كمن دخل قبر. ولكن يبدو أن الله دفع يونان لكل هذه الضيقات
حتى يصلى هذه الصلاة والتي يقدم فيها توبة فيتصالح مع الله. وهو لم يصلي وهو في
جوف السفينة، ولكنه ها هو يصلي في جوف الحوت. هذه فائدة من فوائد التجارب، فحينما
نبتعد عن الله يسمح لنا الله أن ندخل إلى عمق تجربة (بطن سفينة هائجة في بحر هائج)
فإن ظل الحال كما هو عليه (نوم عميق كما نام يونان) يدخلنا الله إلى عمق تجربة أشد
(جوف الحوت) حينئذ نصرخ مع داود "من الأعماق صرخت إليك يا رب" ونصرخ مع
يونان بهذه الصلاة الرائعة التي يمتزج فيها الشكر والإيمان بل الشعور بتعزية
الهية.بل شعر بالإستجابة ولذلك نجد الصلاة بصيغة الماضي. وربما يكون يونان حافظاً
لكلمات مزامير داود فصلاته شبيهة بصلاة داود وهذه فائدة أن نحفظ أقوال الكتاب
المقدس ونستخدمها في ضيقاتنا.
في نهاية
الإصحاح السابق نجد الله عاد ليونان بمراحمه وأنقذه من الموت سواء في البحر أو في
جوف الحوت. وهنا نجد يونان يعود لله بالصلاة. بل أن هذه الصلاة جاءت معبرة عن عمل
السيد المسيح الخلاصي في لحظات موته على الصليب ودفنه في القبر، لذا تتغنى بها
الكنيسة في بدء الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة، بعد أن تنشد بلحن
الحزن مراثي أرمياء. فإن كانت المراثي تعلن عن مرارة ما فعلته خطايانا بالسيد
المسيح، فتسبحة يونان تكشف عن نصرة الرب على الجحيم والموت وعمله الكفاري الذي
يرفعنا للسماويات.
آية (1):- "1فَصَلَّى يُونَانُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِ مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ،"
= أخيراً جاء
العلاج الذي استعمله الله بالشفاء ليونان.
آية (2):- "2وَقَالَ: «دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي.
صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ، فَسَمِعْتَ صَوْتِي. "
جَوْفِ
الْهَاوِيَةِ = كلمة جوف المستخدمة هنا هي غير كلمة جوف الحوت.
لذلك نفهم أنه اعتبر نفسه وهو في جوف الحوت ميت، وأن هذا قبره، فهو يقول جوف
الهاوية أي القبر. وبهذا التشبيه نرفع أعيننا لا ليونان بل للمسيح الذي في بطن القبر.
فيونان كان رمزاً للمسيح. ولاحظ صيغة الماضي = فَسَمِعْتَ
صَوْتِي = كأن يونان شعر باستجابة الله لصلاته ، ولكن كيف شعر بهذه
الاستجابة ؟ من التعزيات التي شعر بها في قلبه . ولو طبقنا هذه الصلاة على المسيح
فهو قد صرخ وصلي ليقيمنا نحن من موت الخطية واستجيب له (عب7:5) فالمسيح نزل إلى
حياتنا ليرفعنا معه.
آية (3):- "3لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ،
فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. "
أدرك يونان أن الله هو الذي طرحه
وليس الملاحون
3لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ
جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. = وهذا تعبير عن الآلام التي اجتازها المسيح في
آلامه سواء في حياته أو على الصليب. ولججك تشير بالذات للموت، فلا حياة وسط اللجج
والتيارات لأي إنسان. وعلى الرغم من آلامه
فَأَحَاطَ
بِي نَهْرٌ = النهر رمز للروح القدس المعزي (يو38:7،39). أي أن
يونان وسط هذه الضيقة الرهيبة ملأه الرب من تعزياته بالرغم من ألامه " عند
كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" كأن الله حَوَّل مياه البحر المالحة
لنهر، مياهه حلوة. كما أن المسيح بصليبه وهبنا نهر روحه القدوس يروي نفوسنا ويهبها
ثماراً (كما حدث للفتية في أتون النار).
آية (4):- "4فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلكِنَّنِي
أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. "
كأنه واثق أنه سيخرج ويرى الهيكل ثانية. وكان
اليهود يوجهون نظرهم للهيكل حينما يصلون. وكأن يونان في صلاته كان له نفس الشعور
فهو وجه قلبه للهيكل. 4فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ
إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ = هو صورة لعمل المسيح فقد صار كمطرود إذ صرخ
قائلاً "إلهي إلهي لماذا تركتني". ولكنه حملنا فيه ودخل إلى الأقداس
السماوية "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات " (أف6:2).
آية (5):- "5قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ.
الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ بِرَأْسِي. "
طريقة الحوت في إبتلاع طعامه هي أن يجري فاتحاً
فمه فيدخل الماء حاملاً معه كل ما فيه من طعام (أسماك) وأعشاب بحرية. ثم يدفع
الماء من فتحة في رأسه ويتبقى الطعام لذلك وجد يونان نفسه محاطاً بالأعشاب والماء
ولكن قوله قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى
النَّفْسِ = تشير لآلامه النفسية بجانب آلامه الجسدية. وهذه نبوة عن
آلام المسيح في موته ونزوله إلى الجحيم فصار كمن اكتنفته المياه إلى النفس. ولكن
كما نجا يونان ولم يغرق في هذه المياه هكذا قام المسيح ولم ينتصر الموت عليه. بل
هو حَرَّرَ من أسرتهم المياه وأغرقتهم.
آية (6):- "6نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ
إِلَى الأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ
إِلهِي. "
أَسَافِلِ
الْجِبَالِ. = كان القدماء يعتقدون أن الأرض مؤسسة على عمق عظيم
(مز2:24). وأنها مؤسسة على المياه. وهنا يتصور يونان أنه نزل إلى أعماق عظيمة، حتى
وصل إلى أعماق المياه حيث أساسات أو أسافل الجبال. وأنه لا أمل له ثانية في أن
يخرج كأن مَغَالِيقُ الأَرْضِ =أي كل
المغاليق التي في الأرض قد أغلقت عليه. إذاً لا أمل في الخلاص. هنا يشبه يونان
المكان الذي هو فيه بهاوية أو غرفة تحت جبال الأرض ومغلقة بكل المغاليق = الترابيس
التي لا يمكن فتحها أو الوصول إليها. وهذا وصف للهاوية التي يذهب لها البشر بعد
الموت (قبل المسيح). ولا يستطيع إنسان الخروج من هذا المكان. فكان البشر قبل
المسيح بلا رجاء. حتى جاء المسيح وكَسَّرَ هذه المغاليق وأصعدنا من هذه الهاوية
التي كان لا رجاء لنا في الخروج منها.
وهذا معنى صلاة
يونان: ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي
أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي."
والوهدة معناها الحفرة وفي هذه نبوة عن قيامة
المسيح وهي توازي (مز10:16) " لا تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى
فساداً". فالمسيح قام وأقامنا معه وأنقذنا من الهاوية.
آية (7):- "7حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ، فَجَاءَتْ
إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ.
7حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ =
فقد يونان كل رجاء في ذراع بشري يخلصه من جوف الحوت. وليس من يخلصه سوى الرب، فلجأ
للرب. وهذه الآية تشبه قول المسيح " نفسي حزينة جداً حتى الموت"
"إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس".
آية (8):- "8اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ
نِعْمَتَهُمْ. "
8اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ =
ربما يقصد نفسه أنه في هربه بحثاً عن راحته وذاته ترك نعمته. وربما يقصد الوثنيين
مثل شعب أشور الذين يعبدون أباطيل تاركين الله ويكون في هذا الكلام تبرير خفي لعدم
ذهابه لنينوى. وفي هذه الآية نبوة عن اليهود الذي صدقوا كهنتهم وصلبوا المسيح.
ومازالوا حتى الآن يراعون أباطيل كاذبة تاركين المسيح الحقيقي القادر أن يفيض
عليهم من نعمته. وسيقبلوا ضد المسيح الباطل ليخسروا كل نعمة.
آية (9):- "9أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ أَذْبَحُ لَكَ، وَأُوفِي بِمَا
نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ. "
كل مؤمن مملوء
من الروح القدس، وكل تائب شاعر بغفران الله لا يستطيع إلا أن يعبر عن فرحه
بالتسبيح بعد أن يملأه الروح فرحاً وتعزية.
آية (10):-
"10وَأَمَرَ الرَّبُّ
الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرِّ. "
درس
آخر ليونان في الرحمة. فها هو الحوت يلقيه دون أن يؤذيه. فكيف يرفض هو خلاص أهل
نينوى. البحارة أعطوه درساً والحوت أعطاه درساً آخر. لكن هذه الآية نبوة عن قيامة
المسيح. فما كان ممكناً للقبر أن يظل مغلقاً عليه " لأنك لا تترك نفسي في
الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً" (مز10:16) ويونان رمز للمسيح.