اختيار
الأمم أيضًا
إن كان
الرسول بولس
كيهودي حقيقي
فنّد بروح الحب
حجج اليهود،
لا ليحط من
امتيازاتهم
في العهد
القديم، إنما
ليرفعهم فوق
روح التعصّب وضيق
الأفق، فيتمتّعوا
مع سائر الأمم
ببرّ المسيح،
بل ويشعروا
بالتزامهم
بالكرازة به
أكثر من غيرهم،
الآن كرسولٍ
للأمم يحذّر
بذات روح الحب
أيضًا الأمم
المتنصّرين
لئلاّ يفقدوا
برّ المسيح
خلال
كبريائهم أو
استخفافهم بإخوتهم
اليهود،
موضحًا خطّة
الله الفائقة
نحو الكل.
1. لا يرفض
الله شعبه1-10.
2. قبولهم
خلال توبتهم11-16.
3. الأمم
زيتونة برّية17-24.
4. انتظار
توبة اليهود25-32.
5. خطّة
الله الفائقة33-36.
1. لا
يرفض الله
شعبه
مرة أخرى
أودّ أن أؤكد
أن حديث
الرسول هنا
كما في
الأصحاحات
السابقة خاص
بالشعوب ككل
لا بالأفراد.
هذا من جانب،
ومن جانب آخر
فإن كانت الأصحاحات
السابقة (4-10)
موجهة إلى
الشعب اليهودي
كي لا يستكبر
بسبب انتسابه
الجسدي
لإبراهيم،
واستلامه
الناموس
الموسوي،
واختياره
كشعب الله،
فإنه في هذه
الأصحاح
يتحدّث مع
الأمم فيحذّرهم
من إساءة فهم
الحديث
السابق لئلاّ
يستكبروا
ويستخفوا
باليهود،
معلنًا أنهم
لابدّ أن
يقبلوا السيد
المسيح في
أواخر
الدهور، ويتراجعوا
عن الجحود
الذي
يمارسونه
الآن. بمعنى
آخر حين يُحدّث
اليهود
يوبّخهم
ليفتحوا
قلوبهم بالحب
للأمم، وحين
يُحدّث الأمم
يوبّخهم
ليفتحوا
قلوبهم
لليهود
الراجعين
بالإيمان
لله، يودّ أن
يرى البشريّة
كلها تسند
بعضها البعض بروح
الحب
والتواضع
لئلاّ يهلك
أحد بسبب التشامخ
والعجرفة.
في هذا
الأصحاح يعطي
الرسول رجاءً
لليهود ليتخلّوا
عن جحودهم
للمسيّا
وتعصبهم
البغيض، كما
يقدّم
تواضعًا
للأمم الذين
دخلوا إلى الإيمان
بالتطعيم في
الشجرة
الأصيلة.
بدأ
الرسول حديثه
بسؤال مع
إجابة سريعة
قاطعة يليها
شرح تفصيلي:
"فأقول:
ألعلّ الله
رفض شعبه؟
حاشا.
لأني أنا
أيضًا
إسرائيلي من
نسل إبراهيم
من سبط
بنيامين.
لم يرفض
الله شعبه
الذي سبق
فعرفه.
أم لستم
تعملون ماذا
يقول الكتاب
في إيليا؟
كيف
يتوسّل إلى
الله ضد
إسرائيل
قائلاً:
يا رب
قتلوا
أنبياءك،
وهدموا
مذابحك،
وبقيتُ
أنا وحدي وهم
يطلبون نفسي؟
لكن ماذا
يقول له
الوحي؟
أبقيتُ
لنفسي سبعة
آلاف رجل لم
يحنوا ركبة لبعل.
فكذلك في
الزمان
الحاضر أيضًا
قد حصلت بقية
حسب اختيار
النعمة" [1-5].
خشى
الرسول لئلا
يُساء فهم
اقتباسه من
إشعياء النبي:
"أمّا من جهة
إسرائيل،
فيقول: طول
النهار بسطتُ
يديّ إلى شعب
معاند ومقاوم"
(رو 10: 21؛
إش 65: 2)، فيحسبون
أنه يغلق
الباب على
إسرائيل مزدريًا
به، لذلك أسرع
بهذا السؤال:
ألعلّ الله رفض
شعبه؟ وجاء
بإجابة حاسمة:
حاشا!
جاءت
الإجابة بعد
ذلك بدقة
بالغة
وبدلائل، إذ
يلاحظ فيها
الآتي:
أولاً:
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم[299]
أن الرسول
عند إجابته لم
يقل "شعبه"
فحسب بل قال: "شعبه
الذي سبق
فعرفه" [2]. فإن
الذين قبلوا
الإيمان من
اليهود هم
قليلون لكنهم
"معروفون"
لدى الله، هذا
هو شعبه! كأن
وعد الله قائم
وقد تحقّق حتى
في اليهود وأن
الذين تمتعوا
به قليلون. لا
يشغل الله
ضخامة العدد،
لكنه يطلب أبناء
أمناء وإن
كانوا قلّة.
شعب الله
معروف لديه،
يعرف عددهم،
ويناديهم بأسمائهم،
وإن كانوا
قلّة مخفيّة
كما في أيام
إيليا حيث
انحرف الشعب
إلى العبادة
الوثنيّة
وقتلوا
الأنبياء
وهدموا مذبح
الله، لكن الشعب
الحقيقي كان
محصيًا لديه (7000
رجل) لم يحنِ
ركبة لبعل بل
هو أمين في
عبادته، لم
يعرفه حتى
إيليا نفسه
الذي ظن أن
الشعب كله قد
هلك، فطلب
لنفسه الموت،
قائلاً: "بقيت
أنا وحدي وهم
يطلبون نفسي
ليأخذوها" (1
مل 19: 4، 14).
في كل جيل
يوجد "شعبه
الذي سبق
فعرفه"،
السبعة آلاف
رجل الذين لا
يحنون ركبهم
لبعل،
المعروفون
لله بأسمائهم.
أمّا كونهم 7000،
فلأن رقم 7
يُشير إلى
الكمال، لأن
الإنسان أكمل
خليقة الله
على الأرض يحمل
نفسًا على
صورة
الثالوث،
وجسدًا من هذا
العالم (أربعة
أركان
العالم)،
فيرمز
للإنسان بكليته
(3+4) برقم 7. وأمّا
رقم 1000 فيشير
للحياة
السماويّة أو
الروحيّة لأن
يومًا عند
الرب كألف (مز 84:
10). كأن رقم 7000
يُشير إلى
جماعة
الكاملين
روحيًا،
الذين تقدست
نفوسهم وأجسادهم
بالروح القدس
ليعيشوا بفكر
روحي وعلى مستوى
سماوي. أمّا
كونهم رجالاً
فلا يعني تمايز
الجنس، وإنما
يعني أنهم
يحملون الحياة
الناضجة
البعيدة عن
لهو الأطفال
وعجزهم وعن
تدليل النساء
وترفّههم. لذا
جاءت الوصيّة
الرسولية: "كونوا
رجالاً" (1 كو 16:
13).
ثانيًا:
يقدّم الرسول
بولس ثلاثة
أدلة على عدم
رفض الله
لشعبه:
أ. يقدّم
نفسه دليلاً
على ذلك، إذ
يقول: "لأني
أنا أيضًا
إسرائيلي من
نسل إبراهيم
من سبط
بنيامين" [1].
بقوله "أيضًا"
يعني به غيره
من اليهود
المؤمنين
بالسيد المسيح
سواء في كنيسة
رومية أو
غيرها، فقد
أوضح أن الله
لا يزال يحقّق
مواعيده
لشعبه، وأنه هو
إسرائيلي
حقًا من سبط
بنيامين من
نسل إبراهيم
وليس دخيلاً،
وقد نال الوعد
بل وصار
كارزًا به.
وكما يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم: [يقول
أنا المعلم
والكارز... لو
أن الله رفضهم
لما اختير هو
نفسه الذي من
هذا الجنس
ليقوم بالكرازة
والاهتمام
بشئون العالم
وكل الأسرار والتدبير
الشامل[300].]
ب. أمّا
الدليل الثاني
فهو ما ورد في
سفر ملوك
الأول (ص 19) عن
إيليا النبي
الذي ظن في
نفسه أنه لم
يعد يوجد بعد
شعب مختار لله
إذ يقول: "يا
رب قتلوا
أنبياءك
وهدموا
مذابحك،
وبقيت أنا
وحدي وهم
يطلبون نفسي" [3].
لقد اختفت
الكنيسة حتى
عن عينيّ
إيليا النبي
الغيور،
لكنها لن
تختفي عن عيني
الله. وكان
هذا نبوّة
ورمزًا للشعب
اليهودي الذي
قاوم السيد
المسيح
وقتلوا
تلاميذه وأرادوا
تحطيم مذابحه
الحيّة، وظهر
الكل كهالكين،
لكن من بينهم
كان التلاميذ
الذين من أصل
يهودي وقد
قبلوا الرب
وشهدوا له،
وأيضًا وُجد
كثيرون آمنوا
وإن كانوا إن
قورنوا بالجاحدين
يُحسبون قلّة.
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم: [إن كنتم
لا تعرفونهم
فهذا ليس
بالأمر العجيب،
فإن النبي
الذي كان
رجلاً عظيمًا
وصالحًا لم
يعرفهم، لكن
الله دبرّ كل
الأمور لنفسه
حتى عندما لم
يعرف النبي...
الآن يقرأ لهم
الرسول العبارة:
"قتلوا
أنبياءك
وهدموا مذابحك"
ليظهر لهم في
ألم أن ما
فعلوه
بالمسيح
والرسل ليس
بالأمر
الغريب، إذ
اعتادوا على
ممارسة ذلك...
لاحظ كيف
يوجّه إليهم
اتهامًا
قويًا لا خلال
بولس ولا بطرس
ولا يعقوب ولا
يوحنا بل خلال
من له أعظم
تقدير عندهم،
رئيس
الأنبياء، وصديق
الله، الغيور
عليهم جدًا (1
مل 19: 14) حتى سلّم
نفسه للجوع من
أجلهم، والذي
لا يزال حيًا
حتى اليوم...
بهذا المعنى
أيضًا يقول
الرسول
بعبارة أخرى حين
كتب إلى أهل
تسالونيكى: "لأنكم
تألّمتم أنتم
أيضًا من أهل
عشيرتكم تلك
الآلام عينها
كما هم أيضًا
من اليهود،
الذين قتلوا
الرب (يسوع)
وأنبياءهم
واضطهدونا
نحن، وهم غير
مرضيّين لله،
وأضداد لجميع
الناس" (1 تس 2: 14-15)[301].]
ج. الدليل
الثالث على
تتمة وعود
الله لشعبه الذي
سبق فعرفه فقد
أورده في
الأصحاح
السابق، إذ
أعلن كلمات
الرب على فم
موسى النبي: "أنا
أغيركم بما
ليس أمة،
بأمّة غبيّة
أٌغيظكم" (10: 19)،
الأمر الذي
يشرحه بإسهاب
في هذا
الأصحاح [11-36]،
موضّحًا أن ما
حدث من جحود
بالنسبة
لأغلبية
اليهود يفتح
باب مراحم
الله أمام
الأمم حتى متى
يتم مِلء
الأمم، في آخر
الأزمنة،
يرجع اليهود
عن كبريائهم
وجحودهم
ليقبلوا
الإيمان
بالسيد
المسيح.
ثالثًا:
إذ أوضح
الرسول
بالدليل
القاطع، خلال
نفسه كمثالٍ
وخلال شهادة
الأنبياء،
خاصة موسى وإيليا
أنّ وعد الله
قائم، وإن كان
الذين تحقّق فيهم
الوعد قلّة،
فإن سرّ
جحودهم هو
"قساوة القلب"
أو بمعنى آخر
فساد العين
الداخليّة
(القلب)
وعجزها عن معاينة
الله
والتعرّف على
أعماله
الخلاصيّة. هذا
ما أعلنه
الرسول بقوله:
"فكذلك
في الزمان
الحاضر أيضًا
قد حصلت بقية
حسب اختيار
النعمة.
فإن كان
بالنعمة فليس
بعد
بالأعمال،
وإلا
فليست النعمة
بعد نعمة،
وإن كان
بالأعمال
فليس بعد
نعمة،
وإلا
فالعمل لا
يكون بعد عملاً.
فماذا؟
ما يطلبه
إسرائيل ذلك
لم ينله،
ولكن
المختارون
نالوه، وأمّا
الباقون فتقسوا.
كما هو
مكتوب: أعطاهم
الله روح سبات
وعيونًا حتى
لا يبصروا،
وآذانًا
حتى لا يسمعوا
إلى هذا
اليوم.
وداود
يقول: لتصر
مائدتهم فخًا
وقنصًا وعثرة ومجازاة
لهم.
لتظلم
أعينهم كي لا
يبصروا،
ولتحن
ظهورهم في كل
حين" [5-11].
هكذا
يقدّم لنا
الرسول صورة
واقعية لحال
إسرائيل، إذ
رفض غالبيتهم
الإيمان،
وقبِل القلّة
أن يتمتّعوا
بالوعد كشعب
الله
الحقيقي، مقدّمًا
تفسيرًا لسرّ
جحود
الغالبية،
مدعمًا ذلك
بشهادة العهد
القديم نفسه
عنهم.
يلاحظ في
هذه العبارات
الرسولية
الآتي:
أ.
البقيّة التي
تتمتّع
بالخلاص،
تتمتّع به خلال
نعمة الله
المجّانية،
وليس خلال
حرفيّة أعمال
الناموس ولا
أعمال البرّ
الذاتي.
هذه الأعمال
تضاد النعمة:
أعمال الحرف
القاتل التي
بلا روح،
والأعمال
النابعة عن
الذات، أمّا
الأعمال
الروحيّة
التي هي من
صنيع الروح
القدس فينا
فليست مضادة
للنعمة بل
تتجاوب معها.
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم: [هنا مرة
أخرى يثبت
الرسول
النعمة ويظهر
قوّتها، هذه
التي بها يخلص
الإنسان على
الدوام وبدونها
يهلك. لنقدّم
التشكّرات
أننا ننتسب للذين
يخلصون، وليس
للذين يحسبون
أنهم قادرون
على الخلاص
بأعمالهم
الذاتية بل
بعطيّة الله.
ونحن
بتقديمنا
نقدّم التشكّرات
لا بالكلام بل
بالعمل
والتصرفات.
لأن هذه
التشكّرات
أصيلة، إذ
نمارس الأمور
التي يتمجّد
الله بها
بالتأكد،
ونهرب من
الأعمال التي
تحرّرنا منها[302].]
هكذا
يحدّثنا القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم بإفاضة
عن ارتباط
النعمة
بالعمل
الروحي الذي
يضاد أعمال
البرّ الذاتي
وأعمال الحرف. فإن الشكر
الذي نقدمه
لله على عطيّة
النعمة المجّانية
إنما يقدّم
خلال الأعمال
الروحيّة
المقدّسة
بالرب
والهروب من
الشرّ الذي تحرّرنا
منه. وكأن
العمل الذي
نمارسه سواء
إيجابيًا
بممارسة
الحياة
الفاضلة
بالروح القدس
أو سلبيًا
برفض الشّرور
التي حررتنا
منها النعمة
الإلهية، هذا
العمل لا يضاد
النعمة الإلهية
بل يمجد الله
فينا.
إن كانت
النعمة
الإلهية تجعل
من الإنسان
الترابي
الأرضي
كائنًا سماويًا،
فالمرتّل
يُعلن "السماوات
تحدّث بمجد
الله" (مز 19: 1)،
لا بالكلام بل
بالحياة
العاملة
المجيدة. هذا
هو ما فعلته
النعمة في نفس
بولس الرسول التي
صارت متلألئة
بالمجد
الإلهي خلال
الحياة
العاملة
بالرب، تجتذب
الكثيرين
إليها لمجد
الله. وكما
يقول الذهبي
الفم:
[كان
لبولس نفسًا
لا تقل عن
السماء،
قادرة أن تجتذب
إليها كل
البشر. نفوسنا
لا تعادل
الأرض، إنما
كانت نفسه
تعادل
السماوات!...
يتخطى سمو
نفسه
السماوات
كلها لتتدخل
في حديث مع
المسيح نفسه!
جمالها فائق
يُعلن عنه
الله نفسه!
دهشت
الملائكة
عندما خُلقت
الكواكب (أي 38: 7)،
أمّا بالنسبة
له فالله يعجب
به، إذ يقول: "لأن
هذا لي إناء
مختار" (أع 9: 15).
السماء
تظلِّلها
السحب عدة
مرات، أمّا
نفس بولس فلم
تظللَّها
تجربة قط!
وحتى وسط
العواصف كانت
نفسه أكثر
صفاءً من
السماء وقت
الظهيرة،
تضيء على
الدوام قبل أن
تلحقها غيوم.
فإن "الشمس"
الذي يشرق في
بولس يبعث
بأشعته التي تفوق
غيم التجارب
لتضيء أكثر
بهاءً. لذلك
يقول: "تكفيك
نعمتي لأن
قوتي في الضعف
تكمل" (2 كو 12: 9).
إذن
لنجاهد
متمثّلين به،
وعندئذ تصير
هذه السماء
كلا شيء، بل
إن أردنا حتى
الشمس والقمر
أيضًا، فإن
هذه قد خُلقت
لأجلنا،
ولسنا نحن
لأجلها[303].]
ليتنا
نقبل عمل
النعمة
المجّانية
لتصير نفوسنا
سماءً للرب،
هذه التي تعمل
في النفوس المتجاوبة
معها بالحب
العملي
والجهاد
الروحي القانوني،
في غير اعتداد
بالذات ولا
حرفيّة قاتلة.
ب. إذ أبرز
الرسول قوّة
النعمة
الفائقة أظهر
سرّ جحود
غالبية شعب إسرائيل،
ألا وهو طلبهم
البرّ
الذاتي، فلم
ينالوا
النعمة التي
تغيرّ القلب
لتفتح
بصيرته، وتدرك
عمل الله
الخلاصي.
يقول
الرسول: "فماذا؟
ما يطلبه
إسرائيل ذلك
لم ينله" [7]،
لأنه طلب أن
يتبرّر
بأعمال
الناموس
الحرفيّة
وسعي ببرّه
الذاتي فحُرم
من عطيّة
البرّ.
"ولكن
المختارون
نالوه" [7]. هذه
القلّة التي
قبلت الإيمان
بالمسيح ونالت
النعمة
الإلهية
تمتعت
بالخلاص كفئة
مختارة.
ولئلاّ تعترض
الأكثرية،
قائلة: "ما
ذنبنا نحن
مادمنا غير
مختارين؟
لذلك كشف
الرسول عن دورهم
في الجحود: "وأمّا
الباقون
فتقسوا" [7]. إن
كانت النعمة
هي عطيّة الله
المجّانية
فإن قسوة
القلب هي من
عندنا.
لقد
قاوموا الحق،
ولم يتجاوبوا
من نعمة الله المجّانية،
لذلك تُركوا
لفساد قلبهم
القاسي،
فانطمست
بصيرتهم
الداخليّة
وعجزوا عن الاستماع
لصوته. الأمر
الذي سبق
فأنبأ عنه
الأنبياء،
وقد لخّصه
الرسول بقوله:
"كما هو مكتوب:
أعطاهم الله
روح سُبات،
وعيونًا حتى
لا يبصروا،
وآذانًا حتى
لا يسمعوا إلى
هذا اليوم" [8]، إذ جاء في
العهد القديم:
"اسمعوا
سمعًا ولا تفهموا،
وأبصروا
إبصارًا ولا
تعرفوا" (إش 6: 9)،
"ولكن لم
يعطكم الرب
قلبًا
لتفهموا، وأعينًا
لتبصروا،
وآذانًا
لتسمعوا، إلى
هذا اليوم" (تث
29: 4). "الآن الرب
قد سكب عليكم
روح سبات وأغمض
عيونكم" (إش 29: 10).
هكذا
يوضّح لهم
الرسول أنهم
إذ رفضوا عمله
فيهم صاروا
إلى حال رديء،
إذ صارت
نفوسهم لا ترى
الحق ولا تسمع
له، بل صارت
نائمة وخاملة
تحمل "روح
السبات" الذي
يعني عدم
التغيير، أو
الاستكانة
لما هي عليه
من شر. أما ثمر
هذا فقد أعلنه
داود النبي
هكذا: "لتصر
مائدتهم فخًا
وقنصًا وعثرة
ومجازاة لهم"
[9] (مز 69: 22). بمعنى
أنهم وهم
مطمئنّون
ومستكينون للشر
تحلّ بهم
النكبات وسط
ولائمهم،
فيتحوّل فرحهم
إلى غمّ،
وسلامهم إلى
ضيق. تُشير "مائدتهم"
هنا إلى رموز
العهد القديم
ونبوّاته،
فإنها مائدة
مشبعة إن قدمت
بطريقة
روحية، إذ
تُقدّم لنا
"شخص السيد
المسيح
نفسه"، أمّا
وقد تمسّكت
هذه الأغلبية
بالحرف
القاتل فصار
ما هو للبنيان
علّة هدم لهم،
بل وفخًا
وعثرة ومجازاة
لهم. وربّما
تُشير "مائدتهم"
بالأكثر إلى
ذبيحة الفصح
التي غايتها
الشرّكة مع
الله خلال
المصالحة
بالدم
الكريم، ففي
الفصح قام
يهوذا، ممثلاً
لهؤلاء
الجاحدين،
بدور الخيانة
العامة عِوض
قبول
المصالحة.
"لتظلم
عيونهم"،
إذ أبقوا على
برقع الحرف
ورفضوا
إبطاله، كقول
الرسول: "لكن
حتى اليوم حين
يُقرأ موسى
البرقع موضوع
على قلبهم،
ولكن عندما
يرجع إلى الرب
يُرفع البرقع،
وأمّا الرب
فهو الروح،
وحيث روح الرب
هناك حرية،
ونحن جميعًا
ناظرين مجد
الرب بوجه مكشوف
كما في مرآة
يتغير إلى تلك
الصورة عينها
من مجدٍ إلى
مجدٍ كما من
الرب الروح"
(2 كو 3: 15-18).
"لتنحنِ
ظهورهم"
علامة الضعف
والعجز
الروحي
والعبوديّة،
فإن الخطيّة
ثقيلة ومرهقة
للنفس،
والناموس يعجز
عن أن يرفعها
خارج النعمة.
ج.
يحدّثنا القدّيس
أغسطينوس عن
سرّ جحود
إسرائيل،
قائلاً: [لم
يستطيعوا أن
يؤمنوا لأن
إشعياء النبي
تنبأ عن ذلك،
وقد تنبأ لأن
الله سبق فعرف
ما سيحدث. إن
سألت لماذا لم
يستطيعوا؟
أجيب في
الحال: لأنهم
لم يريدوا، لأنه
بالتأكيد كان
الله يرى
مسبقًا
إرادتهم التي
فسدت، وقد سبق
فأخبر بها
النبي لأنه
ليس شيء
مخفيًا عن
الله[304].]
2.
قبولهم خلال
توبتهم
سبق
فتحدث الرسول
عن رجوع
اليهود عن
جحودهم متى
قبلوا ذاك
الذي صلبوه
وآمنوا به.
يقول القدّيس
أمبروسيوس[305] أن
شمشون
اليهودي الذي
قتل الأسد،
كان رمزًا لليهود
الذين صلبوا
السيد المسيح
الأسد الخارج
من سبط يهوذا،
وقد عاد شمشون
ليجد في أحشاء
هذا الأسد
مخزنًا لعسل
الحكمة
(قض 14: 8)، وكأنه
يمثّل اليهود
الراجعين إلى
السيد المسيح
بالتوبة
ليجدوا فيه كل
لذّة الحكمة
وشبعها.
يرى
القدّيس بولس
أن الله سمح
بقسوة قلب
اليهود
لينفتح الباب
للأمم، فإن
عاد هؤلاء
بالتوبة
والإيمان إلى
الله كم يكون
حال الكل؟ إذ
يقول:
"فأقول:
ألعلّهم
عثروا لكي
يسقطوا؟ حاشا.
بل
بزلّتهم صار
الخلاص للأمم
لإغارتهم.
فإن كانت
زلّتهم غنى
للعالم،
ونقصانهم غنى
للأمم، لكم
بالأحرى
ملؤهم!
فإني
أقول لكم أيها
الأمم إني أنا
رسول للأمم أمجد
خدمتي.
لعلى
أغير أنسبائى
وأخلص أناسًا
منهم؟
لأنه أن
كان رفضهم هو
مصالحة
العالم،
فماذا يكون
اقتبالهم إلا
حياة من
الموت؟
وإن كانت
الباكورة
مقدّسة فكذلك
العجين!
وإن كان
الأصل مقدسًا
فكذلك
الأغصان!" [11-16].
ويلاحظ
في هذه
العبارات
الرسولية
الآتي:
أولاً:
لاحظ القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم[306]
أن الرسول
بولس إذ كان
في الأصحاحات
السابقة يوجّه
لليهود
اتهامات
متتالية لذا
كان يستعين
بشهادات
الأنبياء
مرارًا
وتكرارًا،
مثل إشعياء
وإيليا وموسى
وهوشع، أمّا
الآن إذ يستخدم
أسلوب
الملاطفة
معهم فلا يجد
حاجة للاستعانة
بشهادات
نبوية.
ثانيًا:
عجيب هو الله
في حُبّه
وحكمته،
يستخدم عثرة اليهود
لخلاص الأمم،
ويستخدم خلاص
الأمم لإغارة
اليهود
ليرجعوا إليه
بالتوبة. إنه
صانع خيرات،
يحوّل الشرّ
كما الخير
لبنيان
البشريّة فيه.
ثالثًا:
يُعلّق القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم[307]
على العبارة: "فأقول:
ألعلّهم
عثروا لكي
يسقطوا؟ حاشا!
بل بزلّتهم
صار الخلاص
للأمم
لإغارتهم" [11]،
قائلاً بأن
الرسول أراد
أن ينزع عنهم
روح اليأس
ويهيئهم
لقبول
النعمة،
مظهرًا أن
عثرتهم كانت
بسماحٍ إلهيٍ
لخلاص الأمم.
كان يمكن للرسول
أن يقول بأنهم
تعثّروا أو
سقطوا عن
الإيمان بسبب
غباوتهم،
بينما تحقّق
خلاص الأمم
بقبول الأمم
للإيمان، لكن
الرسول أراد
أن يرفع من
نفسيتهم حتى
يقوموا من
العثرة التي
سقطوا فيها،
معلنًا أنها
سبب خلاص
للأمم.
هذه ليست
لغة الرسول
وحده وإنما
جاءت الأمثال
في الأناجيل
تقدّم ذات
المعنى، ففي
مّثل العُرس
إذ رفض
المدعوّون الحضور
دُعي الذين في
الشوارع
والطرقات (مت 22: 9)،
وفي مَثل
الكرم إذ قتل
الكرّامون
الوارث جاء
صاحب الكرم
بكرامين
آخرين (مت 21: 38).
وإذ قاوم اليهود
بولس مناقضين
ومجدّفين
جاهر قائلاً
لهم: "كان يجب
أن تُكلّموا
أنتم أولاً
بكلمة الله،
ولكن إذ
دفعتموها
عنكم وحكمتم
أنكم غير
مستحقّين
للحياة
الأبدية، هوذا
نتوجه إلى
الأمم" (أع 13: 46).
من هذا يتّضح
أنه كان يجب
أن تبدأ
الكرازة بهم
ثم تتحوّل إلى
الأمم، لكنهم
إذ رفضوا الإيمان
تغيّر الأمر
ليصير الأمم
أوّلين، جاءهم
يسوع فلم
يقبلوه ولا
اهتمّوا
بأعماله
وآياته، بل
صلبوه، فاجتذب
الأمم إليه،
وصار الآخرون
أوّلين، حتى إذ
يقبلوا
الإيمان
وينالوا
المواعيد
يغير اليهود
فيؤمنوا.
رابعًا:
يُعلّق أيضًا القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم على
القول
الرسولي: "فإن
كانت زلّتهم
غنى للعالم، ونقصانهم
غنى للأمم، فكم
بالحري
ملؤهم؟!" [12]،
قائلاً: [هنا
يتكلّم
ليعظمهم...
لأنه إن كان
بتعثّرهم
تمتّع كثيرون
بالخلاص،
وبرفضهم صار كثيرون
مدعوّين،
ماذا يكون
الحال
برجوعهم[308]؟]
ويلاحظ
في هذه
العبارة
الرسولية إذ
يكتب برقةٍ
يرفع من نفسية
اليهود بعد أن
فنّد حججهم
معلنًا
جحودهم تحت
اسمين آخرين "زلّتهم"،
"نقصانهم".
فكلمة "زلّة"
تحمل التعثّر
الذي يمكن أن
يصحبه قيام أو
اشتياق
للقيام، "والنقصان"
ربّما يعني أن
البعض آمن
والآخر لم
يؤمن بعد لهذا
فهم في حالة "نقص"
حتى يكمل الكل
أو الغالبية
بقبولهم للإيمان.
هذا من جانب
ومن جانب آخر،
إذ يوجّه هذا
الأصحاح
للأمم يهبهم
طمأنينة، إن
رفض اليهود قد
فتح لهم
الطريق
وعودتهم
للإيمان لا
يعني غلقه، بل
بالحري
اتساعه يفيض
من البركات
السماويّة.
أمّا
قوله "ملؤهم"،
وليس
"رجوعهم"،
"تغيّرهم"
فكما يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم إنما
يُشير إلى
رجوع
الغالبيّة
العظمى منهم في
أواخر
الأيّام
لينضمّوا
للذين سبقوا
أن قبلوه.
خامسًا:
يقدّم لنا
الرسول سببين
رئيسيين في
خدمته للأمم:
أ.
التزامه
بالعمل
كرسولٍ مفرزٍ
لخدمة الأمم،
يشعر بثقل
المسئولية
الملقاة على
كتفيه من قبل
الله نفسه
الذي أفرز من
بطن أمه
وكرّسه لهذا
العمل، لذا
يقول: "فإني
أقول لكم أيها
الأمم بما أني
رسول للأمم أمجّد
خدمتي" [13]. لم
يكن هذا
الشعور
يفارقه،
مشتاقًا أن
يحتضن العالم
الأممي كله
بين ذراعيه
ليحملهم بالحب
إلى الصليب،
ويتمتّعوا
بعمل الله
الخلاصي.
ب. أمّا
السبب
الثاني، فهو
يري في خدمته
للأمم ما يثير
غيرة اليهود،
مشتاقًا أن
يقبلوا
النعمة التي
قدمت لهم
ورفضوها: "لعلّي
أُغيرّ
(أجعلهم في
غيرة) أنسبائي
وأخلص أناسًا
منهم" [14]، وقد
جاءت الكلمة
اليونانية
التي ترجمة "أنسبائي"
في حرفيتها
"جسدي"، إذ
يدعو اليهود
جسده!
سادسًا:
أراد أن يبرز
قوّة عودة
اليهود
الجاحدين إلى
الإيمان
بالسيد
المسيح، فحسب
هذا العمل
أشبه بالقيامة
من الأموات،
إذ يقول: "لأنه
إن كان رفضهم
هو مصالحة
العالم،
فماذا يكون
اقتبالهم إلا
حياة من الأموات؟"
[15]، كأن الله
سيتمجّد فيهم
وتبتهج
الكنيسة في العالم
كله برجوع
الجاحدين،
ويتهلل الكل
ليراهم كمن هم
قيام من الأموات.
سابعًا:
لا يتجاهل
الرسول بولس
الباكورة
الأولى، أي رجال
العهد القديم
من اليهود
كإبراهيم
وإسحق ويعقوب
والأنبياء،
هؤلاء الذين
يشبههم الرسول
بالباكورة
المقدّسة أو
الأصل
المقدس، إذ
يقول: "وإن
كانت
الباكورة
مقدّسة فكذلك
العجين، وإن
كان الأصل
مقدّسًا
فكذلك الأغصان"
[16]. كأنهم
سيرجعون في
أواخر الدهور
ليحملوا ذات التقديس
الذي كان
لآبائهم.
إن كان القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم قد أخذ
هنا بالتفسير
الحرفي
للعبارة،
قائلاً بأن
آباء وأنبياء
العهد القديم
يمثّلون الباكورة
المقدّسة
التي لابد أن
يتقدّس
خلالها
العجين كله،
فإن القدّيس
إيريناؤس[309]
يرى في
الباكورة
إشارة إلى
كلمة الله
الذي اتّخذ
لنفسه جسدًا،
أي حملنا نحن
العجين فيه لتقديسنا.
ويقدّم لنا القدّيس
غريغوريوس
أسقف نيصص
نفس المعنى إذ
يقول:
[إذ صرتُ
بكرًا أُقدّم
فيّ كل
البشريّة
لإلهها
وأبيها.
جعل
البكر الله
الحقيقي
إلهًا
للبشريّة، والآب
الصالح أبًا
لها، وصارت
الطوباوية
مؤكّدة للطبع
البشري ككل.
بواسطة
البكر صار
الله الحقيقي
الآب أبًا وإلهًا
لكل
البشريّة،
لأنه: "إن
كانت
الباكورة
مقدّسة فكذلك
العجين"
حيث يكون
المسيح البكر
يكون أيضًا من
هم للمسيح[310]].
[يقدَّس
العجين كله
بواسطة بكره
في نفسه[311]].
[ذاك الذي
صار لأجلنا
شريكًا لنا في
الدم واللّحم
يشفينا
ويردّنا إلى
الموضع الذي
شردنا منه،
وصرنا مجرّد
لحم ودم
بالخطيّة (عب 2: 14) [312].]
لنقبل
مسيحنا
الباكورة
القادر أن
يقدس عجين حياتنا
كلها، أي كمال
بشريتنا،
فتتحوّل نفوسنا
وأجسادنا
وأفكارنا
وقلوبنا إلى
مقدس للرب،
ويُعلن ملكوت
الله فينا
لنقبله أيضًا
بكونه الأصل
الحامل
للأغصان،
مقدسًا إيّاها.
بمعنى
آخر، السيد
المسيح هو سرّ
تقديسنا، نحمله
فينا
كباكورة،
ويحملنا فيه
بكونه الأصل حامل
الأغصان.
يختفي فينا
لتقديسنا،
ونُحمل به
لإثمارنا، إذ
يقول: "اثبتوا
فيّ وأنا
فيكم، كما أن
الغصن لا يقدر
أن يأتي بثمر
من ذاته إن لم
يثبت في
الكرمة، كذلك
أنتم أيضًا إن
لم تثبتوا
فيّ. أنا
الكرمة وأنتم
الأغصان، الذي
يثبت في،ّ
وأنا فيه، هذا
يأتي بثمر
كثير، لأنكم
بدوني لا
تقدرون أن
تفعلوا شيئًا"
(يو 15: 4-5).
3.
الأمم زيتونة
برّية
يقدّم
الرسول بولس
للأمم
المتنصّرين
تحذيرًا
لئلاّ بعد ما
طُعموا في
شجرة الزيتون
الأصليّة وحُسبوا
أبناء
لإبراهيم
بسبب قبولهم
الإيمان يسقطون
في الكبرياء
فينتزعون عن
هذه العطية. إذ
يقول:
"فإن كان
قد قُطع بعض
الأغصان،
وأنت
زيتونة
برّيّة طُعمت
فيها فصرت
شريكًا في أصل
الزيتونة
ودسمها،
فلا
تفتخر على
الأغصان.
وإن
افتخرت، فأنت
لست تحمل
الأصل، بل
الأصل إيّاك
يحمل" [17-18].
يلاحظ في
هذا التحذير
الآتي:
أولاً:
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم أن
الرسول قال:
"قُطع بعض
الأغصان"،
مع أن
الغالبية قد
قُطعت عن
الأصل،
وحُرموا من
انتسابهم
لإبراهيم
برفضهم
الإيمان، وذلك
لأنه يكتب
بلطف
لتعزيتهم حتى
لا يسقطوا في
اليأس.
يشبِّه
الرسول كنيسة
العهد القديم
بالزيتونة،
ذات الأصل
المقدَّس
ولها دسمها
الروحي، وإن
كانت بعض
الأغصان جاءت
غير مقدّسة
تستحق القطع،
بينما يشبه
الأمميّين
بزيتونة برّية
ليس فيها ثمر
ولا دسم،
بالإيمان
تمتعت بعض أغصانها
أن تُطعم في
الأصل المقدس
فحُسب الأمم
أبناء لإبراهيم.
ثانيًا:
يسأل الرسول
الأمم
المتنصّرين: "لا
تفتخر على
الأغصان... لا تستكبر
بل خف" [18-20].
بينما
يوبخ اليهود
على عدم
إيمانهم: "حسنًا،
من أجل عدم
الإيمان
قُطعت" [20]،
يتحدّث بحزم
مع الأمم أن
يثبتوا في
الإيمان الذي
قبلوه خلال
"مخافة الرب".
يطالبهم ألا يتكبّروا
لئلاّ تُنتزع
النعمة
الإلهية عنهم
بل يخافون، لا
الخوف النابع
عن عدم
الإيمان الذي
تطرده
المحبّة
خارجًا (1 يو 4: 18)،
وإنما مخافة
الرب
المقدّسة، إذ
قيل: "أجعل
مخافتي في
قلوبهم، فلا
يحيدون عني"
(إر 32: 40)، "تمّموا
خلاصكم بخوف
ورعدة، لأن
الله هو العامل
فيكم" (أف 2: 12-13).
يقول القدّيس
إيريناؤس:
[يلزمنا ألا
نستكبر ولا
نقسو على رجال
العهد القديم،
بل نخف لئلا
بعدما صرنا في
معرفة المسيح
إذ نرتكب ما
يغضب الله لا
ننال غفران
الخطايا بل
نحرم من
ملكوته[313] (رو 3: 23).]
إن كان
عدو الخير غلب
الكثيرين من
اليهود برفض
الإيمان
تمامًا، فإنه
لا يلقي
بسلاحه أمام الذين
يؤمنون، إذ
يحاول
تحطيمهم
بالكبرياء. نوالنا
نعمة الله
يسندنا في
الجهاد لكنه
يثير العدو
علينا أكثر
فأكثر، لذا
يليق بنا أن
نحذر مجاهدين
بالنعمة
عينها التي
ننالها.
بهذا
الروح كتب القدّيس
جيروم إلى
أوستوخيوم:
[أودّك أن
تخرجي من نذر
البتولية لا
بالكبرياء بل
بالمخافة. إنك
تسيرين حاملة
ذهبًا،
تحفّظي من
طريق اللص
(الكبرياء) [314].]
لقد
وهبنا الله نعمته
الغنيّة
لتعمل فينا إن
تجاوبنا
معها، فنحمل
الثمار
الروحيّة في
حياتنا. وكما
يقول القدّيس
جيروم:
[كرّامنا يطلب
الثمار. فإن
كان بالحق قد
قطع الأغصان
الأولى لأنها
كانت عقيمة
فسيعاملنا بذات
الحكم إن كنّا
بلا ثمر.
علاوة على هذا
فإن الثمر لا
يخص الجسد
وحده بل والنفس
أيضًا، فإنه
بالتأكيد إذ
يخدم الجسد الرب
تخدمه النفس
أيضًا مع
الجسد[315]].
ثالثًا:
إن كان الله
يطلب الثمر
فإن الرسول
يؤكّد أن هذا
الثمر يتحقّق
بالثبوت في
لطف الله [22]،
فإن كنّا
بالإيمان
تمتّعنا
بنعمته
الغنية، فبثبوتنا
في هذا
الإيمان
المعلن خلال
تجاوبنا مع نعمة
الله بالحياة
العاملة،
ندخل بالأكثر
في دائرة لطف
الله. بمعنى
آخر الله هو
الأول في طريق
حياتنا، وهو
الذي يكمل
الطريق معنا،
وهو النهاية
أو الغاية،
لكن دون
سلبيّة من
جانبنا. إذ
يقول: "وأمّا
اللطف فلك أن
ثبت في اللطف،
وإلا فأنت
أيضًا ستقطع"
[22].
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم: [لم يقل
هنا: "هوذا
أعمالك
الحسنة،
تأمّل أتعابك"،
إنما يقول: "هوذا
لطف الله"
نحو الإنسان،
مظهرًا أن ما
تتمتّع به،
ينبع بكليته
عن النعمة
التي من فوق
فترتعب... خف،
لأن البركات
لا تقطن فيك
بثبات إن صرت
متراخيًا،
وأيضًا
الشّرور لا
تثبت فيك إن
تغيرت، لهذا
يقول: "إن لم
تستمر في
الإيمان
فستقطع".]
في الوقت
الذي فيه
يحذّر
المؤمنين لكي
يثبتوا في
الإيمان
بتمسكهم
بنعمة الله
وتجاوبهم معها
عمليًا حتى لا
يُقطعوا،
يطلب من
الجاحدين ألا
يثبتوا في
الجحود، بل
يتغيّروا
بقبولهم
الإيمان، إذ
يقول: "وهم إن
لم يثبتوا في
عدم الإيمان
سيطعمون، لأن
الله قادر أن
يطعمهم
أيضًا" [23].
هنا
أيضًا يؤكّد
حريّة
الإرادة
الإنسانيّة،
إذ يستطيع
الإنسان أن
يثبت في
الإيمان أو يتركه،
وأن يقبل
الجحود أو
يرفضه، ليس
لأن الإنسان
قادر على ذلك
بذاته، وإنما
لأن الله فاتح
أحضانه
باستمرار ليسند
الكل، حتى في
الإرادة
الصالحة (أف 2: 13)،
دون تجاهل
لحرّيته
الإنسانيّة.
وكما يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم: [ها أنت
ترى عظم حريّة
اختيار
الإنسان
وعظمة فاعلية
ذهنه، فإنه
ليس شيء
ثابتًا لا
الصلاح ولا
الشرّ. ها أنت
ترى كيف يرفع
من نفسيّة
الإنسان
المحطّم،
ويحط من الآخر
الواثق في
ذاته، فلا
تخور عند
سماعك عن
صرامة الله،
ولا تنتفخ عند
سماعك عن لطفه[316].]
رابعًا:
ربّما يستصعب
الكثيرون
عودة اليهود
لقبول السيد
المسيح الذي
صلبوه وقاوموه
حتى بعد
صعوده؛ هل
يمكن لليهودي
أن يقبل الإيمان
المسيحي
ويتخلّى عن
تعصّبه؟ يجيب
الرسول أنه إن
كان الإيمان
عمل فائق
للطبيعة، إذ طُعّم
أغصان
الزيتون
البريّة في
الأصل الدسم
المثمر،
وحُسب الأمم
الذين ورثوا
الرجاسات
الوثنيّة
أبناء
لإبراهيم
روحيًا، فهل
يصعب عليه أن
يردّ الأغصان
الطبيعية إلى
أصلها؟ لأنه
إن كنت أنت قد
قُطعت من
الزيتونة
البريّة حسب
الطبيعة
وطُعِّمت
بخلاف
الطبيعة في زيتونة
جيدة، فكم
بالحري
يُطعِم هؤلاء
الذين هم حسب
الطبيعة في
زيتونتهم
الخاصة؟" [24].
4.
انتظار توبة
اليهود
يعتبر
الرسول بولس
نفسه أنه يقدّم
"سرًا"
يكشفه [25]؛ يقصد
بالسرّ أمرًا
إلهيًا بقي
مخفيًا، هذا
من جانب، ومن
جانب آخر فإنه
عمل يصعب على
الإنسان
قبوله بحكمته
البشريّة،
بنود هذا
السرّ هي:
أ. جحود
إسرائيل جزئي
لا كلي، إذ
قبل بعض اليهود
الإيمان
بالسيد
المسيح
كالرسل
وغيرهم [25].
ب. ينتظر الله
ملء الأمم [25].
ج. ببلوغ
ملء الأمم
يعود
إسرائيل،
فيقبل الإيمان
بالمسيح؛ هذا
لا يعني جميع
الأفراد.
يُعلّق القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم على هذا
الفصل
بالعبارات
التالية:
[يقصد
بالسرّ هنا [25]
أمرًا غير
معروف وغير
منطوق به،
ومدهش للغاية
ولا يتوقعه
أحد. في موضع
آخر يقول: "هوذا
سرّ أقوله
لكم، لا نرقد
كلنا ولكنّنا
نتغير" (1 كو 15: 51).
ما هو
السرّ إذن؟
"أن العمى
قد حصل جزئيّا
لإسرائيل".
هنا يُلقي
بصَفعة على
اليهود،
بينما يبدو كمن
يحط من شأن
الأمم، إذ عنى
الرسول
تقريبًا بأن
عدم الإيمان
لم يكن جامعًا
وإنما كان
جزئيًا. ولقد
قدّم إشعياء
شاهدًا، هذا
الذي صرخ قائلاً:
"سيخرج من
صهيون
المنقذ، ويرد
الفجور عن
يعقوب" (إش 59: 20)
"هوذا هو
العهد من قبلي
لهم متى نزعت
خطاياهم" (إش
27: 9؛ إر 31:31). يقول:
متى نزعت
خطاياهم وليس
عندما يقدمون
ذبائح ولا
عندما
يمارسون
أعمال الناموس
الأخرى. هذا
الوعد لم
يتحقّق فيهم
لأنهم لم ينالوا
غفران
الخطايا
بالمعموديّة،
لذلك فسينتهي
هذه الوضع. "من
جهة الإنجيل
هم أعداء من
أجلكم" [28]،
لأنه عندما
دُعيتم أنتم
كانوا هم
مسبيّين، ومع
ذلك فإن الله
لا يريد أن
يقطع دعوتكم
بل ينتظر حتى
يؤمن كل الأمم
وعندئذ يأتي
هؤلاء
للإيمان.
لم يبلغ
الرسول
النهاية عند
رفضهم إنما
ستعلن لهم
الرحمة ثانية[317].]
5. خطّة
الله الفائقة
يختم
الرسول بولس
هذا الأصحاح
بذكصولوجية يُعلن
فيها مجد الله
من جهة أحكامه
الفائقة الإدراك
ومحبته
الشديدة لكل
البشريّة. هذه
الذكصولوجية
تنبع عن قلب
يتطلع إلى نعمة
الله وصلاحه،
برجاء عجيب في
خلاص العالم،
إذ يقول
مترنمًا:
"يا لعمق
غنى الله
وحكمته وعلمه!
ما أبعد
أحكامه عن
الفحص وطرقه
عن الاستقصاء!
لأن من
عرف الرب؟ أو
من صار له
مشيرًا؟
أو من سبق
فأعطاه
فيكافىء؟
لأن منه وبه
وله كل
الأشياء، له
المجد إلى
الأبد؛ آمين"
[33-36].
يتهلل
الرسول بهذه
التسبحة،
مدركًا أن
خطّة الله
تفوق إدراك
الخليقة،
ومحبته عجيبة
إذ به خُلق
العالم
ولأجله،
يتمجّد في
خليقته أبديًا!
يقول القدّيس
يوحنا الذهبي
الفم معلقًا
على هذه
الذكصولوجية
بأن الرسول وقد
استعرض
الأزمنة
السابقة
وتأمّل تدبير
الله القديم
الذي به يقوم
العالم
الحاضر، يدرك عناية
الله فيُصاب
برهبة، ويصرخ
لكي يثق سامعوه
أن ما قيل
سيتحقّق. وفي
رهبته
الشديدة أمام
أعمال الله
يقدّم
تشكّرات
وتمجيدات لله.
[299] In Rom. hom
18.
[300] Rom. hom 18.
[301] Rom. hom 18.
[302] Rom. hom 18.
[303] Rom. hom 18.
[304] In Ioan. tr. 53: 6.
[305] Of the Holy Spirit 2: Intr. (9).
[306] In Rom. hom 19.
[307] In Rom. hom 19.
[308] In Rom. hom 19.
[309] Adv. Haer. 1: 8: 4.
[310] Adv. Eunomius 2. 8.
[311] Adv. Eunomius 4: 3.
[312] Adv. Eunomius 12: 1.
[313] Adv. Haer. 4: 24: 1.
[314] Ep. 22: 3.
[315] On Ps. hom 33.
[316] In Rom. hom 19.
[317] In Rom. hom 19.