الأصحاح السابع

لا شركة مع الوثنية

إذ دُعي الشعب للعبادة لله خلال الدخول في عهد معه طلب الله منهم إبادة سكان هذه المنطقة. تبدو الأوامر هنا مشددة بخصوص إبادة الوثنية وكل ما يتعلق بها، بل وقتل الوثنيين، فقد كان التحذير من الارتباط بالوثنية والوثنيين غاية في الصرامة.

1. لا شركة مع الوثنيين              [1-4].

2. تحذير من الوثنيين                [5-11].

3. بركات حفظ العهد                  [12-16].

4. وعد بالنصرة على الشر           [17-26].

1. لا شركة مع الوثنيين:

يقدم هنا تحذيرًا صارمًا ضد كل علاقة مع عابدي الأوثان، فإن من يُقيم شركة مع أعمال الظلمة غير المثمرة لا يقدر أن يدخل في شركة مع الله، أما غاية هذا التحذير فهو منع إقامة فخاخ الشر أمامهم.

"متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها،

وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك،

الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين،

سبع شعوب أكثر وأعظم منك.

ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم.

فإنك تحرمهم.

لا تقطع لهم عهدًا، ولا تشفق عليهم" [1-2].

سبق أن تعرضت لموضوع الحروب في المقدمة. غاية هذه الوصية هي خلق كنيسة طاهرة، وأسرة مقدسة، ومملكة متبررة في الرب محفوظة من الرجاسات الوثنية.

كثيرًا ما نسقط في تقييم ما ورد في العهد القديم بمنظار غير سليم، متجاهلين لغة الزمن. فالظروف المحيطة بالشعب في ذلك الحين مختلفة تمامًا عما نعيشه اليوم في عهد النعمة، ومفاهيمهم غير مفاهيمنا. لهذا احتاجوا إلى وصية تسند خلاصهم. تُفهم هذه الأوامر المشددة في حياتنا كرموز:

أ. عدم قطع عهد معهم [2]، يعنى رفضنا التساهل مع الخطية وفتح باب الحوار معها.

ب. عدم مصاهرتهم [3]، فإنه ليست شركة بين المؤمن وغير المؤمن في حياة زوجية، ولا بين النور والظلمة. فإن قبول المؤمن الاتحاد مع غير المؤمن على مستوى العلاقات الأسرية يتحقق على حساب خلاص النفس وتقديس الأسرة.

ج. هدم المذابح وكسر الأنصاب وقطع السواري وحرق التماثيل بالنار [5] يعنى تطهير القلب (هيكل الرب) من إقامة آلهة أخرى كمحبة الذات أو حب المديح أو إشباع شهوات الجسد.

د. لا تشفق عيناك عليهم [6]. لتكن كلمة الله كسيف ذي حدين (عب 4: 12)، تفصل الحق عن الباطل بقوة وتمييز بلا ميوعة.

هـ. لا تخف منهم [18]، الإنسان الروحي صاحب سلطان (تث 10: 1)، لا يهاب الخطية ولا يخشى عدو الخير، واثقًا في الله واهب الغلبة (1 كو 15: 57).

الله من جانبه يدخل بهم إلى أرض الموعد ويطرد أمامهم الشعوب الكثيرة والقوية. فإن قوة الله لا تُقاوم، هو قادر أن يحقق وعده. بقي من جانب شعبه أن يرفضوا الدخول مع الوثنيين في عهدٍ أو الارتباط بعلاقات زوجية أو أسرية معهم، وأن يبيدوهم.

من جهة العدد فإن إسرائيل كأمة غريبة واحدة لا تقدر بحسب الفكر البشري أن تقف أمام هذه الشعوب التي كان لها خبرتها العسكرية الطويلة ومعرفتها بإستراتيجية الأرض، لكن وعد الله يحقق المستحيلات.

تبدو الخطية قوية، ويبدو الإنسان ضعيفًا للغاية أمامها، كما يبدو عدو الخير بكل قواته وخبرته الشريرة وخططه يمثل قوة خطيرة لا يقدر إنسان ما أن يقف أمامه. لكن المؤمن الذي يعمل روح الله القدوس فيه، ويقدم له اتحادًا مع الآب في ابنه يسوع المسيح، يحمل إمكانيات سماوية يُحطم بها كل طاقات الشرير والشر. يستطيع بالمسيح يسوع أن ينال روح الغلبة، وينتزع من إبليس سلطانه الذي به يسيطر على كيان الإنسان كله، إنه يسلبه كل قدراته، ويشهر به جهارًا بصليب ربنا يسوع (كو 2: 15).

في دراستنا لكتابات القدِّيس يوحنا كاسيان رأينا أن العلامة أوريجانوس يرى أن الخطايا الرئيسية في حياة الإنسان هي ثمانية، وقد نقل عنه القدِّيس أوغريس نفس الفكرة وانتشرت في كتابات الآباء الشرقيين والغربيين. لقد غلب شعب الله فرعون وجيشه أو المصريين وها هو يغلب السبع أمم المذكورين هنا، وكأن الله يهب كنيسته روح الغلبة على الثمانية خطايا الرئيسية.

لم يسمح لهم الله بأي نوع من العلاقات مع الأمم الوثنية، فلا يقبلونهم كمستأجرين لديهم ولا كدافعي جزية ولا حتى كعبيد؛ لا يقيمون أي عهد معهم، ولا يظهرون أية رحمة تجاههم. لقد أعطى هذه الأمم فرصًا للتوبة لأجيال طويلة، لكن مع مرور الزمن جاءت الأجيال المتتالية أكثر فسادًا من السابقة، فامتلأ كأس شرهم.

في عهد النعمة تحول الأمر من الخطاة إلى الخطية، فبقيت هذه الوصايا حيّة وفعّالة حيث لا يجوز لنا أن نترك ظلفًا من حيوانات الخطية في أرضنا. يليق بنا أن نصلب كل شهوة فينا ونميتها لكي نحمل حياة المسيح المُقام في داخلنا.

منع الزواج بالوثنيات:

"ولا تصاهرهم،

بنتك لا تعطِ لابنه،

وبنته لا تأخذ لابنك.

لأنه يرد ابنك من ورائي،

فيعبد آلهة أخرى،

فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا" [3-4].

غاية هذه الوصية هي النقاوة، فإن الله لا يهدف نحو فصل الأمم عن بعضها البعض، لكنه يشتاق أن يصير الكل واحدًا فيه. إنه يُريد جيلاً ملوكيًا وشعبًا خاصًا وبشرية متجددة تحت قيادة آدم الجديد كرأس واحد لكل المؤمنين في العالم. وإذ لم تكن البشرية مهيأة بعد لهذه الوحدة المقدسة عزل المؤمنين عن الوثنيين، وحدد حريتهم في الزواج.

جاء هذا القانون الإلهي من أجل ضعف الإنسان وخطيته وجهله لخطة الله الأبدية. لقد فقد الإنسان مفهومه للزواج كإنشاء كنيسة مقدسة تتهيأ للمجد الأبدي، لهذا قدم هذه الوصية.

جاء القانون قاسيًا على الوثنية ورجاساتها وعاداتها الشريرة لعل الوثنيون يراجعون أنفسهم ويعودون إلى عبادة الله الحق. هذا ما تؤكده الآية الخامسة. فلم تكن هذه الوصية لصالح شعب على حساب شعب آخر، فإن زواج المؤمن بغير المؤمنة، يسحب قلب الأول نحو الوثنية فيسقط تحت الدينونة، وتكون أيضًا دينونة غير المؤمنة مضاعفة لأنها مع عبادتها للأوثان جذبت أولاد الله للشر. فحرمانها من الزواج بمؤمن يعطيها فرصة لمراجعة نفسها وإدراكها لموقفها الأبدي.

بلا شك سيهرب البعض من السيف، ليعودوا فيطلبون الدخول في علاقات أُسرية، خاصة كان البعض منهم أصحاب غنى عظيم وكرامة، وكان بعض نسائهم جميلات. يستخدم عدو الخير الزواج فرصة لجذب أبناء الله إلى بنات الناس، كما حدث قبلاً، إذ قيل: "إن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا؛ فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه، هو بشر" (تك 6: 2-3).

كثيرون في يومنا هذا فقدوا حياتهم في الرب خلال زيجاتهم بأُناس لا يعرفون الرب. ففي صلاة عزرا واعترافه إذ "اختلط الزرع المقدس بشعوب الأراضي" (عز 9: 2)، قال: "أفنعود ونتعدى وصاياك ونُصاهر شعوب هذه الرجاسات؟! أما تسخط علينا حتى تفنينا فلا تكون بقية ولا نجاة؟!" (عز 9: 14).

ينصحنا الرسول بولس: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟! وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟!" (2 كو 6: 14-16). لأن إغراء الشر قوي، فالوثني يدفع بالمؤمن نحو الطريق الواسع خلال الإغراءات المستمرة، وليس العكس، لأن الحياة مع الله دخول في الطريق الضيق.

"لأنه يرد ابنك من ورائي، فيعبد آلهة أخرى،

فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا" [4].

إن كان الله يشتاق أن يشكل عابديه ليصيروا حاملين صورته ومتمثلين به، شركاء في الطبيعة الإلهية، فإن الآلهة الباطلة تشكل عابديها ليحملوا ذات طبيعتها، وهو أن يصيروا باطلين. وإذ يحمل الإنسان هذه الطبيعة الفاسدة لن يستريح حتى يسحب كل من حوله إلى الفساد والباطل، فيهلك الكل معه. هذا ما عناه بقوله "يغضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا". إذ ينزع الله نعمته وعنايته ومراحمه عن الإنسان المصر على الباطل، فيصير باطلاً!

من جانب آخر فإن كأس الشر الذي لليهود كاد أن يمتلئ، وصارت لهم فرصة أخيرة، إما إن يقبلوا الله "الحق" بكل قلبهم، ويحتضنوه، أو يحكموا على أنفسهم بأنفسهم بالقطع مع الأمم التي طلب منهم أن يقطعوها. وكأن الله ليس عنده محاباة، فقد ملأ الأمم كأس الشر ودفعوا بأنفسهم للدمار، فإن احتضنهم اليهود يكملون كأس شرهم هم أيضًا، فيكون مصيرهم كمصير الأمم الوثنية.

الذين يتزوجون بوثنيين إنما يتزوجون بأوثانهم، ويحملون معهم سماتهم، أي البطلان عوض الله الحق.

2. تحذير من الوثنية:

لا يقف الأمر عند عدم الارتباط بعلاقات زوجية مع الوثنيين، وإنما طالبهم بإبادة كل أثرٍ للأوثان.

"ولكن هكذا تفعلون بهم:

تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم،

وتقطعون سواريهم،

وتحرقون تماثيلهم بالنار" [5].

لقد صدر مثل هذا الأمر قبلاً (خر 23: 24)، وقيل عن يوشيا الملك الصالح "ابتدأ يطهر يهوذا وأورشليم من المرتفعات والسواري والتماثيل والمسبوكات. وهدموا أمامه مذابح البعليم وتماثيل الشمس التي عليها من فوق قطعها وكسر السواري والتماثيل والمسبوكات ودقها ورشها على قبور الذين ذبحوا لها" (2 أي 34: 3-4). وبصورة مماثلة تم ذلك في الكنيسة الأولى حيث أُحرقت كتب السحر (أع 19: 19).

كان هذا القانون أشبه بتهيئة لطريق الرب يسوع النور الذي ليس له شركة مع الظلمة، فكان لابد من تحطيم الظلمة لكي يقبل الناس النور في حياتهم. حقًا إنه طريق طويل للغاية، لكن مسيحنا في كل عصر يطلب النفوس التي تتهيأ لقبوله برضاها لكي يدخل ويملك، مشرقًا بنوره فيها.

هذا ينطبق على الأمم الوثنية كمجتمعات متحالفة على مقاومة عبادة الله الحق ونشر العبادة الوثنية، لكن بلا شك كان الموقف مختلفًا مع الأفراد إن قبلوا الإيمان ورفضوا العبادة الوثنية وتطهروا من كل رجاساتها. كان هؤلاء قلة قليلة يدعونهم اليهود "الدخلاء".

قدم لهم تبريرات تلزمهم بالتجاوب مع هذا التحذير:

أولاً: اختيار الله لهم: "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" [6].

"شعب مقدس": تكررت في (14: 2، 21؛ 26: 19؛ 28: 9). وللكلمة "مقدس" في العهد القديم معنيان، الأول "مخصص لخدمة الرب" والثاني "طاهر وبهي". تُشير كلمة "مقدس" إلى تكريس القلب وكل كيان الإنسان لله، فيصير خاصًا به، معتزلاً كل شر. ويرى البعض أن الكلمة تعني نقاوة الإنسان بالكلية من كل ما هو أرضي، حيث ينسحب كيان الإنسان إلى الحياة السماوية المقدسة، ليعيش في شركة مع القدوس. يجب أن تصبح هاتان الصفتان ملازمتين للشعب ولكل مؤمنٍ تمتع بالدعوة الإلهية.

إن كان الرب قد كرّمهم واختارهم دون غيرهم فكيف يهينونه باختيارهم للأوثان عِوضًا عنه؟! أراد الله أن يرفعهم إلى خاصته فوق كل الشعوب، فهل يريدون النزول بمستواههم إلى الانضمام إلى الشعوب الوثنية؟ لقد أراد لهم أن يكونوا خاصته، ألاَّ يريدون أن يكون هو خاص بهم، لا يقبلون آخر غيره؟!

بقوله "شعب أخص" يعني أنه صار كملكية خاصة لله، ليس من حقه التصرف بذاته بل حسب إرادة من اقتناه. اقتبس الرسول بطرس هذه العبارة من الترجمة السبعينية، قائلاً: "وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء" (1 بط 2: 9).

ثانيًا: اختيارهم خلال نعمته المجانية، فليس فيهم ما يؤهلهم لهذا الاختيار. فإنه في كثرة الشعب يكرم الملك (أم 14: 28)، لكن الله الملك لم يُبال بالعدد. "ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم، واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب" [7]. حين اختارهم إنما اختار شخصًا واحدًا هو إبراهيم، وحين بدأوا كأمة في مصر كانوا حوالي سبعين نفسًا.

v     بعد قوله: "من ملئه أخذنا" أضاف "نعمة فوق نعمة" (يو 1: 16). لأنه بالنعمة خلص اليهود. يقول الرب: "اخترتكم ليس لأجل كثرة عددكم، وإنما من أجل آبائكم" [7 LXX]. إن كانوا لم يختاروا بواسطة الله من أجل أعمالهم الصالحة، فواضح أنه بالنعمة نالوا هذه الكرامة. ونحن أيضًا نخلص بالنعمة، لكن ليس بنفس الطريقة، ولا بذات الأهداف، بل لما هو أعظم وأسمى. إذن فالنعمة التي فينا ليست كالنعمة التي لهم. إذ لم يعطَ لنا فقط غفران الخطايا (إذ نحن شركاء معهم لأن الكل أخطأ) وإنما نلنا أيضًا البر والتقديس والبنوة وعطية الروح بصورة أكثر مجدًا وبفيضٍ[84].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

كتب القدِّيس أمبروسيوس إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس يطالبه أن يخضع لله خالقه وأن يتشبه به. فالرب في حبه وبنعمته المجانية يعفو عن الخطاة، ويقدم لهم من بركاته، ليس من أجل استحقاقهم وإنما من أجل غنى نعمته. هكذا يليق بالإمبراطور في تشبهه بالرب واهب النعم أن يغسل أقدام الآخرين حتى يصير موضع سرور الله وفرح السمائيين.

v     لذلك أيها الإمبراطور الآن أوجه كلماتي ليس فقط عنك بل إليك، إذ تلاحظ كيف بكل حزم يريد الله أن يحاكم، فإنه بقدر ما قد صرت ممجدًا بالأكثر يليق بك أن تخضع لخالقك بالكامل، إذ هو مكتوب: "عندما يحضرك الرب إلهك إلى أرض غريبة، وتأكل ثمر الآخرين لا تقل: بقوتي وبري أعطاني هذه، إنما الرب إلهك هو الذي أعطاك إياها".

فالمسيح بمراحمه وهبك هذه، لذلك فحبًا في جسده أي الكنيسة أعطِ ماءً لقدميه، قبِّل قدميه!

فليس فقط تعفو عمن سقط في خطية بل أيضًا بواسطة حبك للسلام تصلحهم وتهبهم راحة.

اسكب دهنًا على قدميه لكي ما يمتلئ كل البيت الذي يجلس فيه المسيح برائحة طيبك، ويسَّر كل الجالسين معه برائحتك الذكية. بمعنى أنك تكرم المذلولين، حتى تفرح الملائكة بالعفو عنهم، إذ يفرحون بخاطئ واحدٍ يتوب (لو 15: 10)، ويُسر الرسل، ويمتلئ الأنبياء بالبهجة[85].

القدِّيس أمبروسيوس

ثالثًا: اختارهم من أجل أمانته لعهده مع آبائهم، إذ يقول:

"بل من محبة الرب إيَّاكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيدٍ شديدة،

وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر.

فأعلم أن الرب إلهك هو الله،

الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل" [8-9].

"بل من محبة الرب إيّاكم": محبته الإلهية مجانية، وكما جاء في هوشع النبي: "أحبهم فضلاً" (هو 14: 4). إنه يحب لأنه يريد ذلك.

"حفظه القسم"، فإنه يحفظ كلمته التي حملت وعودًا فائقة، حاسبًا نفسه مدينًا بما وعد به وأقسم أن يتممه. وقد حقق ذلك فعلاً بخروجهم من مصر بالرغم من عدم استحقاقهم.

وقد تم هذا الخروج "بيدٍ شديدة"، مبرزًا هنا دور كلمة الله، الأقنوم الثاني، الذي يُدعى باليد الإلهية. يقول القدِّيس أثناسيوس الرسولي: [كما أن اليد هي في الحضن هكذا الابن في الحضن؛ الابن هو اليد، واليد هي الابن، الذي به صنع كل الأشياء، كما هو مكتوب: "كل هذه صنعتها يدي" (إش 66: 2)؛ اخرج شعبه بيده. (تث 7: 8)، أي بابنه[86]].

الابن الذي أخرج الشعب من مصر خلال موسى قائد شعبه، هو الذي تجسد ليخرج بنفسه مؤمنيه من عبودية إبليس.

الله أمين في وعوده، لذا يليق بخاصته أن تكون أمينة له، لا بوضع أشعارٍ مملوءة بلاغة كاذبة، بل بحفظ وصاياه بأمانة. يمجدونه لا بكلمات بل بأعمال منيرة.

"إلى ألف جيلٍ"، فهو ينبوع الحب الأمين عبر الأجيال.

رابعًا: لقد سمح بالتأديب الذي يبدو قاسيًا لأجل القلة الأمينة، فإن الله لا يشتهي هلاك أحد، بل هو أمين ومحب.

"والمجازي للذين يبغضونه بوجوههم ليهلكهم،

لا يُمهل من يبغضه،

بوجهه يجازيه.

فاحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها" [10-11].

هو الحب المتدفق عبر الأجيال، أما من يصر على رفضه، الذين يكرهون الحق، إنما يبغضون أنفسهم، لأنهم يفقدون الحب وكأنهم يصيرون خاضعين للغضب الإلهي الذي ليس كغضب البشر الانفعالي، إنما هو حرمان النفس من تمتعها بمصدر حياتها وسلامها، فتلقي نفسها بنفسها في الهلاك الأبدي.

إنه حافظ العهد وأمين وصادق في مواعيده، واهب حياة لمن يلتصق به، أما من يعطيه القفا لا الوجه، إنما يعطي لنفسه الهلاك والموت عِوض الحياة.

يعجز الوثنيون ومبغضو الرب أن يصيبوا الله بضررٍ، إنما يصيبون أنفسهم، وكما يقول المرتل:

"تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك.

الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار.

تبيد ثمرتهم من الأرض، وذريتهم من بني آدم،

لأنهم نصبوا عليك شرًا.

تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها، لأنك تجعلهم يتولون.

تفوق السهام على أوتارك تجاه وجوههم" (مز 21: 8-12).

غالبًا ما يسمح الله للأشرار أن يذوقوا مرارة إثمهم، إذ "لا سلام للأشرار قال إلهي". ويقول الحكيم: "هوذا الصديق يُجازَى على الأرض، فكم بالأحرى الشرير والخاطئ؟!" (أم 11: 31).

لا ننكر أنه قد يسمح لبعض الأشرار بنوال السلطة أو القوة أو الغنى أو النجاح الزمني الخ. هذه الأمور يهبها لهم الله في هذا العالم، إما من أجل العدالة بسبب جهادهم الزمني، أو لحثهم على التوبة، لكنهم لن يتمتعوا بالسلام الداخلي والفرح الحقيقي عربون السماء ماداموا سالكين في شرهم وعصيانهم.

إذ أشار إلى اهتمام الله بشعبه، يقدمً لهم مواعيد إلهية صادقة ووعود قدمها لآبائهم، لكن هذا الاختيار الإلهي لا يعني الحرية المستهترة. وكما يقول الرسول بولس: "لا تُصيروا الحرية فرصة للجسد" (غلا 5: 13). هذا ما يؤكده سفر التثنية كلما أشار إلى اختيار الله لشعبه.

3. بركات حفظ العهد:

دعاهم أولاً إلى حفظ العهد كرد فعل إيجابي لحفظه عهده معهم بالرغم من عدم

استحقاقهم. لقد كشف لهم خطورة كسر العهد والانحراف نحو الوثنية ورجاساتها، لكنه لا يقف عند ذلك إنما يقدم لهم البركات الإيجابية لأمانتهم في حفظ العهد.

"من أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظونها وتعملونها،

يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك،

ويحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك،

قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض التي أقسم لآبائك أنه

يعطيك إياها" [12-13].

يجب إلاَّ يُساء فهم الاختيار، فمع اختيار الله لنا النابع عن محبته الإلهية الفائقة يترك لنا كمال الحرية، أن نقبل بره أو نرفضه، أن نحفظ وصيته أو نرفضها، وفي حفظها يهبنا إمكانية التنفيذ إن طلبنا ذلك.

لقد بدأ الله بإعلان العهد وأظهر المواعيد وقدّم نعمته الفائقة، هذا من جانب الله الرحيم، بقي من جانبنا أن نتجاوب معه، فننعم باستمرارية وفيض نعمته وعطاياه.

أولاً: أول بركات حفظنا للعهد هو إدراكنا لحبه. "ويحبك" [13]، أي دخولنا في دائرة الحب الإلهي المشبع للنفس. ليس كأمرٍ لم يسبق أن مارسه وإنما يكشفه لنا ويمتعنا بمزيد منه. "في هذا هو المحبة، ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (1 يو 4: 10). لقد أحبنا أولاً، لكننا لن ندرك هذا الحب ولا يعلن لنا ذاته ما لم نتجاوب عمليًا مع محبته. "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي" (يو 14: 21).

ثانيًا: "ويباركك" [13]، ثمرة الحب المشترك بين الله والإنسان يتمتع المؤمن بالشركة في الحياة المطوبة، أي يختبر الحياة السماوية التي لا تعرف سوى الفرح الدائم في الرب. هذه هي البركة التي يتمتع بها المؤمن في هذه الحياة كعربون للحياة العتيدة. "قمحك وخمرك وزيتك" [13] تكررت في (11: 14، 12: 17، 14: 23، 28: 51)، هذه حاصلات فلسطين الرئيسية وترمز إلى الوفرة والفرح والنجاح الروحي (تك 22: 17).

ثالثًا: "ويكثرك"، كانت كثرة النسل والكثرة في المحصولات والممتلكات (تك 1: 28؛ 9: 1) من الوعود الإلهية لرجال العهد القديم، تناسب قامة الإنسان المؤمن في ذلك الحين.

رابعًا: "مباركًا تكون فوق جميع الشعوب" [14]. إذ يعزل الإنسان نفسه عن العالم ليكون خاصًا بالله، أو مكرسًا لخدمته، يحمل سمات تخالف سمات الغير، يرفعه الله ليتمتع بما لا يتمتع به غيره، فيكون "فوق جميع الشعوب"! هذا هو عمل الروح القدس في حياة الكنيسة كما في حياة كل عضو فيها، فيُقيم من الكنيسة جماعة كما من الملائكة، لهم إمكانيات روحية خاصة، ويصير ناموس حياتهم هو ناموس المسيح الذي يبدو للغير أنه ناموس يستحيل العمل به بين البشر! الإنسان الروحي في وداعته وتواضعه يصير عظيمًا ومهوبًا وصاحب سلطان داخلي.

خامسًا: دائم الولادة الروحية في الحياة الداخلية وفي اجتذاب الآخرين للإيمان، إذ قيل:"لا يكون عقيم ولا عاقر فيك (أي يحمل ثمر الروح) ولا في بهائمك (يحمل الثمر الروحي للجسد)" [14]. لا يعرف الأمين في عهده مع الله العقم، بل يصير أشبه بأمٍ ولود كثيرة الإنجاب، تلد الكثيرين بروح الرب ليتمتعوا بالبنوة لله. لذا قيل: "لا يكون عقيم ولا عاقر فيكِ ولا في بهائمك". تصطاد نفوس كثيرة للرب بتقديس النفس وأيضًا الجسد (البهائم).

سادسًا: سلامة النفس والفكر والجسد. إذ يتنقى قلب الإنسان وفكره من كل عبادة غريبة عن الرب، ينقي الرب كل كيانه – حتى جسده – من الأمراض التي حلّت به.

"ويرد الرب عنكِ كل مرضٍ وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها؛

لا يضعها عليكِ،

بل يجعلها على كل مبغضيكِ" [15].

إذ يهرب الشعب من الأوثان، يخلصهم الرب من الوباء الذي حلّ بالمصريين.

"كل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها" [15]، لاحظ كيف يستشهد موسى بذكرياته في مصر.

سابعًا: تكون سيدًا لا عبدًا، فإنه إذ ينحني الإنسان للخطية من أجل اللذة، يصير عبدًا لها ولا يمارس حق السيادة التي وهبت له من قبل الله. لذا قيل:

"وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك.

لا تشفق عيناك عليهم،

ولا تعبد آلهتهم،

لأن ذلك شرك لك" [16].

هكذا دفع الله كل شيء للإنسان كي يسيطر ويستخدم، أي يأكل، لا أن يُستعبد فيؤكل. أقام الله الإنسان سيدًا على كل شيء لكنه تعبد للحجارة والأخشاب وللأرواح الشريرة، فصار ذلك شركًا له، حيث صار عبدًا لمن كان يلزم أن يسود عليه.

4. وعد بالنصرة على الشر:

حين دعا الله يشوع لاستلام القيادة عِوض موسى النبي، كي يعبر بالشعب نهر الأردن ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كانت وصيته المتكررة له: "لا تخف" (يش 1). فالخوف هو جحد للإيمان بالله القدير، وإنكار لعناية الله ومحبته، وتجاهل لضابط الكل. والعجيب أن المؤمن إن تطلّع إلى الماضي في حياة الكنيسة كما في حياته الخاصة يجد تأكيدات مستمرة وخبرات عملية لرعاية الله وقدرته وأبوته وحكمته.

"فلا تخف منهم.

أذكر ما فعله الرب إلهك بفرعون وبجميع المصريين.

التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك،

والآيات والعجائب واليد الشديدة والذراع الرفيعة التي بها أخرجك الرب إلهك .

هكذا يفعل الرب إلهك بجميع الشعوب التي أنت خائف من وجهها" [17-19].

يليق بالمؤمن ألاَّ يخاف، فلا يقول: "عدوي أعظم مني، كيف انتصر؟" بل ليقل مع إليشع النبي "الذين معنا أكثر من الذين معهما" (2 مل 6: 16). وكما قيل: "ليقل الضعيف بطل أنا!" (يؤ 3: 10) هكذا بالمسيح يسوع ربنا ننال روح القوة لا روح الهزيمة والفشل، فلا نرتبك أمام التجارب أو الضيقات أو الخطايا. أما سرّ نصرته فهي:

أولاً: لا يعتمد المؤمن على طاقته في الحرب الروحية، بل عمل الله الذي يحارب عنه. إذ قيل: "والزنابير أيضًا يرسلها الرب إلهك عليهم حتى يفنى الباقون والمختفون من أمامك" [20]. يحارب الرب عنا في معركتنا الروحية. لأجل سلامنا الروحي لا ينهي المعركة في لحظات حتى لا نسقط في الكبرياء فتقتحم وحوش البرية (العجرفة – الاعتداد بالذات - الكبرياء). يقول: "ولكن الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً لا تستطيع أن تفنيهم سريعًا لئلاَّ تكثر عليك وحوش البرية" [22].

ثانيًا: لا يقف الأمر عند مساندة الله لمؤمنيه، إنما يقوم بنفسه بالدفاع عنهم، بحلوله في وسطهم. "لا ترهب وجوههم، لأن الرب إلهك في وسطك إله عظيم ومخوف" [21]. لعل أعظم ما يتمتع به المؤمن في المعركة الروحية، ليس أنه ينال نصرات من يد الرب بل أن يدرك حضرة الله في أعماقه.

ثالثًا: حكمة الله وخطته من نحو شعبه. فإنه وإن كان قد وعد بالنصرة الكاملة لشعبه لكنه يقدمها لهم تدريجيًا. ولعل السرّ وراء هذا خشية سقوط الإنسان في الكبرياء، أو لأن ما يناله الإنسان بسهولة وسرعة يفقده بروح الاستهتار. لذا قيل:

"ولكن الرب يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً.

لا تستطيع أن تفنيهم سريعًا لئلاَّ تكثر عليك وحوش البرية.

ويدفعهم الرب إلهك أمامك،

ويوقع بهم اضطرابًا عظيمًا حتى يفنوا" [22-23].

ليس من الصعب أن ينزع الله كل الأمم دفعة واحدة ليحتل شعبه الأرض، لكن لو حدث هذا لتحولت أرض الموعد إلى برية ترعى فيها الوحوش المفترسة، وتفقد كل حقولها. هكذا يليق بنا في حياتنا الروحية كما في العمل الكنسي نؤمن بحكمة الله، الذي يعمل دائمًا في ملء الزمان في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها لائقة.

رابعًا: الخلاص نهائي وأكيد:

"ويدفع ملوكهم إلى يدك،

فتمحو اسمهم من تحت السماء.

لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم" [24].

إن كان موضوع السفر كله هو العهد الإلهي، فقد ركز السفر على شخصية الله كمركز للسفر "لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور".

خامسًا: نصرة لأجل القداسة لا الطمع. غاية صراعنا هو أن نتشبه بالقدوس فنحيا قديسين، نتطهر من كل دنس، وننعم ببرّ المسيح وتقديس الروح، ولا يكون هدفنا مكسبًا ماديًا.

"وتماثيل آلهتهم تحرقون بالنار.

لا تشته فضة ولا ذهبًا مما عليها لتأخذ لك لئلاَّ تُصاد به،

لأنه رجس عند الرب إلهك.

ولا تدخل رجسًا إلى بيتك لئلاَّ تكون محرمًا مثله.

تستقبحه وتكرهه لأنه محرم" [25-26].

يحذرهم من روح الطمع ومن كل نجاسة، لأن العدو الداخلي أخطر من الخارجي. إن كان يريد أن يهبهم سلطانًا فيملكوا عِوض الأمم يطلب أن يحملوا سلطانًا في أعماقهم، سلطان التحرر من كل دنس داخلي وشهوة رديئة.

"وتماثيل آلهتهم تحرقون بالنار" [25]. بقيت هذه الوصية كغيرها من الوصايا حية بروحها في العهد الجديد، إذ يلزم إبادة كل مصدر للخطية بلا تراخٍ أو مهادنةٍ. وكما يقول السيِّد المسيح: "فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليُمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم" (مت 5: 29-30).

الله لا يقبل أنصاف الحلول، بل يطلب التقديس الكامل لهذا جاءت الوصية تكرر: "لا تمس، لا تذق، ولا تجس شيئًا دنسًا".


من وحي تثنية 7

كيف أخاف عدوًا!

v     وهبت شعبك نصرة على فرعون وجنوده،

وها أنت تشتاق أن تهبني نصرة على إبليس وملائكته!

حاربت معهم وبهم سبع أمم،

لتهبني قوة للغلبة على كل الخطايا.

v     قطعت معك عهدًا،

فكيف أقطع عهدًا مع خطية ما؟!

قبلتني عضوًا في العائلة السماوية،

كيف تتحد نفسي مع شرٍ ما؟!

أقمت مذبحًا في أعماقي،

كيف أترك مذبحًا للوثن في قلبي؟

جعلتني جنديًا في جيش خلاصك،

كيف أخاف أو أرهب عدوًا ما؟!

v     إني لن أكف عن الجهاد بنعمتك،

إذ حسبتني ابنًا خاصًا لك،

عضوًا في شعبك المقدس،

لي حق التمتع بوعودك الصادقة والأمينة!

v     أحببتني كل الحب قبل أن أعرفك،

لأرد لك الحب بالحب والطاعة.

هب لي أن أحفظ العهد،

فأنت عجيب يا حافظ العهد.

لأحفظه فأتمتع بالحياة المطوّبة،

أحمل ثمر روح لا يجف.

أتمتع بسلام النفس والفكر مع الجسد.

أتمتع بنُصرات لا تنقطع!

[84] In John hom. 14:2.

[85] St. Ambrose: Letter 50:26.

[86] Discourses Against the Arians, 4:26.