أخطأ
داود في
الخفاء مع
بثشبع، وبقي الأمر
مخفيًا إلى
حين، لتظهر
رائحة الفساء
القاتلة
علانية في بيت
داود. لقد سقط
أمنون بكامل
حريته في
الشهوة وأحب
أخته التي من
أبيه دون أمه،
أحبها جدًا
لجمالها حتى
مرض وإذ تمكن
منها أذلها ثم
طردها لأنه
أبغضها جدًا
ولم يطق أن
يراها!
تصور
ماذا كان حال
داود ومركزه
بين قواده
ورؤساء الشعب
حين بلغهم هذا
الخبر؟!
هذا
التصرف من
جانب أمنون
أثار سخط
أبشالوم من
أجل أخته
ثامار، وبعد
سنتين دبر أمر
قتله وهرب
ففقد داود
الاثنين!
١.
سقوط أمنون في
حب
ثامار [١-١١].
٢.
كراهية أمنون
لثامار
[١٢-١٩].
٣.
أبشالوم يدبر
للإنتقام
[٢٠-٢٧].
٤.
قتل
أمنون
[٢٨-٣٣].
٥.
هروب
أبشالوم
[٣٤-٣٩].
تبقى
قصة أمنون
وثامار عبر
الأجيال تمثل
صورة حية
للتمييز بين
الحب والشهوة[76]،
الحب تحرر من
الأنا ليعطي
الإنسان ذاته
لبنيان نفسه
والآخرين،
فيتعامل مع
الغير – خاصة الجنس
الآخر –
كأشخاص لهم
تقديرهم، أما
الشهوة فهي
تتقوقع حول
الأنا ليطلب
الإنسان
إشباع لذَّاته
أو كرامته
الخ... يتعامل
مع الغير كأدوات
لتحقيق شبعه.
الحب ينمو
يومًا فيومًا
ويهب القلب
اتساعًا
للجميع، أما
الشهوة فتحطم
الإنسان
وتضيِّق قلبه
وسرعان ما
تلهو بالشخص
نفسه لينقلب
الحب
الشهواني إلى
كراهية.
أمنون
أحب ثامار
جدًا وكان يظن
أنها – دون سواها
– هي سر
سعادته، خلال
شهوته أسَرة
جمالها، وربما
أعجب
بشخصيتها
وحسبها
الوحيدة التي
تقدر أن تملأ
كل فراغ فيه...
وإذ نال منها
تحقيق شهوته
لم يجد في
داخله شبعًا
كما كان يظن،
لذا أبغضها،
وكانت بغضته
لها أكثر من
حبه السابق
لها.
تشبه
أمنون بامرأة
فوطيفار التي
حسبت في جسد يوسف
مصدر بهجتها
وشبعه، وكانت
تحبه جدًا، حتى
ضربت بمركزها
كسيدة أمام عبد
عرض الحائط،
ولم تبال
بحياتها
كامرأه فعرضت
عليه الشر، بل
وأمسكت ثوبه...
وعندما رفض سلمته
للسجن
والفضيحة
ظلمًا!! هذه هي
الشهوة القاتلة
للنفس
والمتقوقعة
حول اللذة
والأنا!
"أمنون"
اسم عبري
معناه "أمين"[77]،
الابن البكر
لداود، وولي
العهد (3: 2)، ولد
في حبرون (2 صم 3:
2، ١ أي ٣: ١)
حوالي سنة ١٠٠٠
ق.م.[78]،
والدته
أخينوعم
اليزرعيلية،
أما "ثامار" (إسم
معناه "نخلة")
فكانت أخت
أبشالوم بن
داود من معكة
بنت تلماي ملك
جشور (2 صم ٣: ٣، ١
أي 3: 2).
أحب
أمنون ثامار
جدًا. بمعنى
آخر أحب
جمالها وجسدها
لا إنسانيتها
وشخصها، أو
أحب أن يشبع
شهواته
بجمالها، وإذ
كانت أخته لم
يستطع أن يتزوجها
(لا ١٨: ٩)، لذلك
عسر في عينيه
أن يفعل لها
شيئًا [٢]
وكانت ثامار
عذراء تقيم في
جناح النساء.
حطمت
الشهوة أمنون
فصار يضعف يومًا
فيومًا، خار
جدًا الأمر
الذي أزعج
صديقه الحميم
وابن عمه
يوناداب بن
شعمي أو شمه
أخو داود (١ صم ١٦:
٩)، وكان
الرجل ذكيا
جدًا، قادرًا
على التفكير للخير
كما للشر. سأل
يوناداب
أمنون عما
يفكر فيه،
فأجاب: "إني
أحب ثامار أخت
أبشالوم أخي" [٤].
قدم له
يوناداب مشورة
لاغتصابها:
"اضطجع على
سريرك
وتمارض؛ وإذ
جاء أبوك
ليراك فقل له:
دع ثامار أختي
فتأتي وتطعمني
خبزًا وتعمل
أمامي الطعام
لأرى فآكل من
يدها" [٥].
نفذ
أمنون هذه
المشورة
الشريرة،
وجاءت ثامار
إلى بيت أمنون
أخيها وهو
مضطجع. فأخذت
العجين وعملت
كعكا أمامه
وخبزته. وأخذت
المقلاة
وسكبت أمامه،
فأبى أن يأكل.
طلب أن
يُخرجوا كل
إنسان عنه ثم
أمسكها
ليغتصبها. أما
هي ففي عفة
قالت له:
"لا
يا أخي لا
تذلني، لأنه
لا يُفعل هكذا
في إسرائيل.
لا
تعمل هذه
القباحة.
أما
أنا فأين أذهب
بعاري؟!
وأما
أنت فتكون
كواحد من
السفهاء في إسرائيل.
والآن
كلم الملك
لأنه لا
يمنعني عنك" [١٣]
الخ...
بحكمة
تحدثت ثامار
مع أخيها:
أ.
كشفت له أن
هذا العمل لا
يليق بأمة
مقدسة، إذ
يجلب الغضب
على الشعب كله
ليس بكونهما
ابني الملك
وإنما
بكونهما
عضوين في
الجماعة.
المؤمن عضو في
الجماعة، كل
نمو في حياته
يثمر نموًا في
الآخرين،
مجتذبًا بحياته
الكثيرين نحو
السمويات؛
وكل سقوط
وانحراف يعثر
أيضًا
الكثيرين
ويهدمهم.
المؤمن إما أن
يكون سر بركة
للجماعة أو سر
هدم لها.
ب.
الخطية تحطم
مرتكبيها،
حسبتها ثامار
عارًا لها
وتحطيمًا
لأمنون؛ تصير
هي في خزي
ويُحسب هو كأحد
السفهاء.
ج.
سألته أن
يطلبها من
الملك زوجة،
لعلها بهذا
أرادت أن تفلت
من يديه أو
لأنها حسبت
الزواج بأخ من
أم أخرى أهون
من السقوط في
الزنا.
لم
يستمع أمنون
لصوت أخته، إذ
أفسدت الشهوة
تفكيره ونزعت
عنه إنسانيته
فاغتصبها
عنوة.
إذ
حقق أمنون
شهوة جسده
أبغض ثامار
"بغضة شديدة
جدًا حتى إن
البغضة التي
أبغضها إياها
كانت أشد من
المحبة التي
أحبها إياها" [١٥].
قام بطردها
عوض أن
يتزوجها
شرعيًا،
فتذللت أمامه
ليتزوجها ولا
يلقيها
للعار، أما هو
فطلب من الخادم
أن يطردها
عنوة.
كما
سبق فقلت أن
الشهوة
والعنف
صنوان، كلاهما
ثمرة انتزاع
النعمة
الإلهية من
الإنسان وحرمانه
من الوجود مع
الله. الشهوة
تعطي الإنسان
أحيانًا رقة
في الظاهر
لكنها تحمل
عنفًا في
الداخل،
والعنف يولد
شهوة ولذة حيث
يطلب الإنسان
ما لِذاته لا
ما هو للغير.
كانت امرأة
فوطيفار
رقيقة للغاية
أمام يوسف
لكنها لم تقدر
أن تخفي عنفها
حين رفض
الاستسلام
لها فألقته في
السجن. أما هو
فكان رقيقًا
جدًا معها رغم
حزمه في رفض
الخطية. لم ينتقم
لنفسه ولا
شهَّر بها حين
تمتع بالمجد وصار
صاحب سلطان في
قصر فرعون.
يربط
سليمان
الحكيم بين
الزنا
والقسوة
قائلاً: "لأن
شفتي المرأة
الأجنبية
تقطران عسلاً
وحنكها أنعم
من الزيت، لكن
عاقبتها
مُرّة
كالأفسنتين
حادة كسيف ذي
حدين. قدماها
تنحدران إلى
الموت.
خطواتها
تتمسك
بالهاوية" (أم ٥:
٣-٥).
هكذا
ولَّدت
الشهوة عنفًا
في حياة
أمنون، فأصدر
أمره لخادمه
أن يطرد سيدته
ويغلق الباب
وراءها؛ أما
هي فوضعت
رمادًا على
رأسها علامة
الحزن الشديد
(١ صم ٤: ١٣، اس ٤:
١) كمن في
جنازة، ومزقت
الثوب الملون
(الجبة الخاصة
ببنات الملوك
العذارى)
علامة فقدها
كل مجد
والتصاق
الخزي بها،
ووضعت يدها
على رأسها وكانت
تسير صارخة.
إنها
صورة مُرّة
للنفس التي
تُحطمها
الخطية،
فإنها تهيم في
الطريق في
مذلة كمن هي
مطرودة من
البيت؛ تفقد
النفس سكناها
في حضن الله
لتهيم كما في
عزلة، ليس من
يسندها ولا من
يشاركها
أعماق
مشاعرها!
تتطلع من
خلفها لتجد
الكل قد أغلق
الباب في
وجهها!
تضع
رمادًا على
رأسها إذ
يُحطم اليأس
تفكيرها،
تفقد رجاءها
وسلامها
وفرحها
الداخلي!
تمزق
الثوب الملون
الذي يشير إلى
الجسد بكل طاقاته؛
الجسد الذي
يطلب الشبع
لحواسه خلال الشهوة
يفقد قدسيته
وتتدنس حواسه!
تضع
يدها على
رأسها علامة
عجزها عن
العمل والتصرف!
تهيم
صارخة في الطريق
كمن فقد
الطريق
الملوكي
المفرح!
طلب
أبشالوم من
أخته أن تلتزم
الصمت، وكان
يُريد بذلك أن
يهدئ الجو
ليخطط
للانتقام؛
فقد قال لها:
"فالآن يا
أختي اسكتي.
أخوك هو. لا
تضعي قلبك على
هذا الأمر" [٢٠].
طالبها
بالصمت، لكنه
ليس صمتًا يحمل
هدوءًا
وسلامًا
وإنما الصمت
الذي يخفي دهاءً
وانتقامًا من
أخيه أمنون.
حقًا
ما أعذب الصمت
والسكون إن
حملا هدوءًا داخليًا،
أما متى كان
ستارًا
لمرارة
داخلية فغالبًا
ما يكون أكثر
عنفًا وقسوة
من الكلام الجارح.
لذا يميز
الآباء بين
الصمت المقدس
البنّاء
والصمت الشرير
المهلك، كما
يميزون بأن
الكلام
الصالح والكلام
المهلك.
أقامت
ثامار في بيت
أبشالوم
أخيها محطمة
النفس، إذ
كانت في عار
غير قادرة على
الزواج دون ذنب
من جانبها.
أما داود فسمع
بالأمر
واغتاظ دون أن
يُعاقب
أمنون، إذ كان
يدلل أولاده،
أو لأنه رأى
جريمته مع
بثشبع متجلية
بوضوح في حياة
ابنه البكر.
انتظر
أبشالوم
سنتين دون أن
يتحرك
للإنتقام حتى
يظن أمنون
وداود أن
الأمر قد نسى،
ولما جاء وقت
جزّ الغنم،
وهو وقت فرح (١
صم ٢٥: ٧، ٣٦)،
وذلك في بعل
حاصور، دبر
أبشالوم أمر
اغتيال أخيه.
"بعل
حصور" معناه
"بعل التسييج
أو الانحباس
أو التطويق أو
حظيرة مسيّجة[79]"،
بالقرب من
قرية أفرايم.
مكانه الأصلي
ربما الآن
"جبل القصور"
يبعد حوالي
أربعة أميال ونصف
شمال شرقي بيت
إيل وخمسة عشر
ميلاً شمال شرقي
أورشليم.
دعا
أبشالوم أباه
وإخوته
جميعًا لكي
يخفي ما في
قلبه، وإذ
استعفى الملك
طلب إليه
بإلحاح أن يرسل
أمنون كولي
العهد ونائب
عنه، أخيرًا
وافق داود،
ربما بعد تخوف
من نية
أبشالوم.
أعد
أبشالوم
الخطة، ولما
طاب قلب أخيه
أمنون بالخمر
والسكر قتله
غلمان
أبشالوم كطلب
سيدهم. عندئذ
ركب بنو الملك
بغالهم وهربوا.
وفيما هم في
الطريق بلغ
داود أن
أبشالوم قتل
جميع بنيه.
قام الملك
ومزق ثيابه
واضطجع على
الأرض وكان
جميع عبيده
واقفين بثياب
ممزقة. لكن
يوناداب أدرك
الأمر فأخبر
داود أن أبشالوم
انتقم لأخته
من أمنون
وحده...
لقد
جنى أمنون ثمر
نجاسته،
وأيضًا
استسلامه للسكر؛
يقول سليمان
الحكيم: "لمن
الويل؟ لمن
الشقاوة؟ لمن
المخاصمات؟
لمن الكرب؟
لمن الجروح بلا
سبب؟ لمن
ازمهرار
العينين؟
للذين يدمنون
الخمر، الذين
يدخلون في طلب
الشراب
الممزوج. لا
تنظر إلى
الخمر إذا
احمرت حين
تظهر حبابها
في الكأس
وساغت
مرقرقة، في
الآخر تلسع
كالحية وتلدغ
كالأفعوان"
(أم ٢٣: ٢٩-٣٢).
قدم
أبشالوم
لأمنون خمرًا
يحمل سم
الموت، أما
مسيحنا فيقدم
نفسه الكرمة
الحقيقية
التي تثمر خمر
الحياة، حيث
يسكر القلب
بالحب الإلهي،
متهللاً
بالحياة معه
في السمويات.
لذا قيل: "خمر
تفرح قلب
الإنسان" (مز ١٠٤:
١٥). يقول العلامة
أوريجانوس:
[إن كان القلب
هو الجزء
العقلي (في
الإنسان)، وما
يفرحه هو
"الكلمة"
الذي يبهج
أفضل من كل شرب،
حيث ينزع عنا
الأمور
البشرية
ويهبنا الإحساس
بالوحي
ويسكرنا
بمسكر إلهي
وليس مسكرًا
غير عاقل،
فإنني أدرك ما
فعله يوسف حين
روى إخوته
بالخمر (تك ٤٣: ٣٤)...
(المسيح) هو
الكرمة
الحقيقية،
عناقيده التي
يحملها هي
الحق،
والتلاميذ هم
أغصانه،
هؤلاء أيضًا
يثمرون الحق
كثمر لهم[80]].
هرب
أبشالوم إلى
جده تلماي بن
عميهود ملك
جشور. كلمة
"جشور"
معناها
"جسر"، وهي
مقاطعة تقع
بين حرمون
وباشان تتاخم
أرجوب، تقع
شرقي الأردن.
على حدودها
جسر على نهر
الأردن بين طبرية
والحولة يعرف
بجسر بنات
يعقوب.
إذ
هدأ داود
اشتاق أن يرى
أبشالوم، إذ
كان يحبه حبًا
شديدًا (١٨: ٥، ٣٣)،
لكن خشى نقد
الناس له لأنه
قاتل أمنون
ولي العهد.
[76] راجع كتابنا: الحب، مفهومه ودرجاته (الحب والشهوة).
[77] McKenzie: Dict. of the Bible, p. 26.
[78] Unger’s Bible Dictionary, Chicago 1966, p. 45.
[79] The Westminster Dict. of the Bible, p. 83.
[80] Origen’s Commentary on John. 33.