اَلأَصْحَاحُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ

ألا من محكمة لتقديم التماس!

يتساءل أيوب: لماذا لا يقيم الله أيامًا خاصة بالقضاء، لكي ينظر في حال الأيتام والأرامل والمساكين والمظلومين، فإن القضاة البشريين يسقطون أحيانًا في أخذ رشوة من الأغنياء الظالمين [٢-٤]؟

1. عدم مبالاة الأشرار بالديان                    1.

2. عملهم السلب والاغتصاب                      2.

3. استغلال المساكين                                3.

4. يرعبون الودعاء                                  4.

5. يظنون أنهم فوق القانون                   510.

6. يريدون الشر والرب يريد الخير             11.

7. يظنون أن الله لا ينتبه!                    12-13.

8. حلول الظلمة على الأشرار                14-17.

9. رعب الأشرار                             18-20.

10. لا تستقر عصاهم على الصديقين          21.

1. عدم مبالاة الأشرار بالديان

لِمَاذَا إِذْ لَمْ تَخْتَبِئِ الأَزْمِنَةُ مِنَ الْقَدِيرِ،

لاَ يَرَى عَارِفُوهُ يَوْمَهُ؟ [1]

إذ يتطلع أيوب إلى يوم الدينونة يمتلئ بالمهابة أو مخافة الرب، حيث يلتقي بذاك الذي فوق الزمان (23:15 17). يدهش أيوب من الأشرار أنهم وهم خاضعون للزمن، يعيشون إلى حين ثم يرحلون، لا يخشون الله الذي يحتضن كل الأزمنة، ولا يفلت منه زمان. يرى أيوب أن كل إنسانٍ يظهر في زمنٍ معينٍ ثم يختفي بموته، ولا يعلم يوم مجيء الرب لمحاكمته، فكان يليق به ألا يمارس الظلم ضد أخيه لعله بهذا يحول الاتهام الموجه ضده إلى أصدقائه الذين لا يخشون الله، ولا يبالون بصديقهم أيوب، بل يمارسون القسوة ضده.

الأزمنة ليست مختفية عن القدير، فالأزمنة الماضية لا تختفي من دينونته (جا 3: 15)، والأزمنة الحاضرة لا تختفي عن تدبير عنايته (مت 10:29)، والأزمنة المقبلة لا تختفي عن علمه السابق (أع 15: 18)[1028]. لذا يليق بالأشرار ألا يظنوا أنهم يفلتون من العدل الإلهي، إذ الماضي كما الحاضر والمستقبل أمام حضرة الله ليس لهم أن يقولوا: " الرب لا يرانا، الرب قد ترك الأرض" (مز 8: 12؛ 9: 9). ليس للأشرار أن يقولوا بأن أشرارًا عاشوا في الماضي وعاشوا كل حياتهم في يسر ورخاء ونجاح، فإنهم وإن ماتوا سيقومون ليدانوا أمام الديان الذي لا يُخفى عنه شيء. لقد أخفي الرب يوم مجيئه عن البشر، حتى يكف الكل عن شرورهم لئلا يفاجئهم بغتة. يدعى يوم الدينونة العام يوم الرب (مز 37: 13)، وهو آتٍ حتمًا، لكننا لا نعرفه.

v     "الأزمنة ليست مخفية عن القدير" [1]... نحن نختفي في داخل أقسام الزمن، إذ نحن كائنات مخلوقة. أما الله، خالق كل الأشياء، فيحتضن أزمنتنا... وبخصوص الأبدية لنا مثل هذه الأفكار، فإننا لسنا بعد نعرف موعد الأبدية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إذ لا نعرف يوم مجيء الرب للدينونة، بينما كل الأزمنة مكشوفة لديه، كان تدريب ترقب مجيء الرب بجدية مع مراجعة الإنسان نفسه يوميًا بروح الرجاء في المسيح مخلص الخطاة وعمل الروح القدس أمرًا حيويًا في الكنيسة الأولى، خاصة في المجتمعات الرهبانية.

v     يجب على كل واحدٍٍ أن يستخلص من نفسه كل يوم قصة أعماله في الليل والنهار، وإن كان قد أخطأ فليكُفّ عن الخطية، وإن لم يكن قد أخطأ وجب ألاّ يفتخر، بل يتمسّك بالصالح دون إهمال، وأن لا يدين إخوته أو يُبرِّر نفسه "حتى يأتي الرب الذي يكشف الخفيات" (1 كو 4: 5؛ رو 2: 16) كما يقول المغبوط بولس الرسول. لأننا كثيرًا ما فعلنا بغير قصدٍ الأشياء التي لا نعرفها، ولكنّ الرب يرى كل شيء؛ لذلك إذ نسلِّم الدينونة له فلنعطف بعضنا على بعض، لنحمل أثقال بعضنا بعضًا (غل 6: 2)، ولكن لنمتحن أنفسنا ونسرع لملء ما نقص فينا.

v     يا ابني، لا تُبكِّت أحدًا بسرعة لأن هذه سقطة لك. بل أذكر خروجك من هذا الجسد في كل وقت، ولا تنسَ الدينونة الأبدية، فإنك إن فعلت هكذا فلن تعود تخطئ. لأن آباءنا الروحانيين قالوا: إن الوحدة هي الدرس (أي الهذيذ) في ذكر الموت والهروب من كل أمور الجسد.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

2. عملهم السلب والاغتصاب

يَنْقُلُونَ التُّخُومَ.

يَغْتَصِبُونَ قَطِيعًا وَيَرْعَوْنَهُ [2].

يتطلع أيوب إلى من هم حوله، فيراهم غير مبالين بالديان العادل، ينقلون التخوم، أي يقومون باغتصاب حقول الآخرين وأرضهم، فيضعون حدود أرضهم (تخومهم) في أرض الغير، ويسلبون غنمهم ويقومون برعايتها كأنها من حقهم.

يبدأ هنا بأول أنواع الشرور وأخطرها، تلك التي لا يطيقها القدوس، وهي ممارسة الظلم.

ليس ما يحزن قلب الله مثل أن يحتل الظلم موضع الحب والحق. فقد خلق الإنسان ليكون أيقونة للحب، لكن "رؤي تحت الشمس... موضع الحق هنالك الظلم" (جا 3: 16). ليس من يبالي بدموع المظلومين، أما ظالموهم فمتغطرسون (جا 4: 1).

كان هذا الإجراء محرمًا (تث 19: 14)، ومن يخالف الناموس يستحق اللعنة (تث 27: 17). أما عن اغتصاب القطيع، فقد حكم داود النبي على من ذبح نعجة الفقير بأنه مستحق للقتل (2 صم 12: 4 ) ولم يكن يدرك أنه يحكم على نفسه حيث اغتصب امرأة أوريا الحثي.

v     "يا رب لماذا يهرب الأشرار من ساعتهم، يتعدون الحدود، يحملون القطيع مع الراعي؟" مرة أخرى يوجد شك فيسأل: لماذا ينجح الأشرار؟... فكما أننا لا نعرف لماذا يسقط إنسان تحت مثل هذه الآلام ظلمًا، بينما يُسقطها آخر عليه، فإنه طبيعيًا أن هذه المظالم تسبب اضطرابًا وتؤثر على طرف كما على الطرف الآخر (الظالم والمظلوم).

"إنهم يرحلون مثل حميرٍ في حقلٍ" [6]، بمعنى إنهم احتقروا العالم كله، إذ يستخفون بكل أحدٍ، ظانين ليس من أحد يظلمهم، ولا من يسيء إليهم.

"لكنه لم يفتقدهم (الله) بعد". سيفعل ذلك مؤخرًا، لكنه سيدقق في عيوبهم ولن يتركها تعبر!

 القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول الجامعة (سيلمان الحكيم): "وأيضًا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور. فقلت في قلبي: الله يدين الصديق والشرير، لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقتًا هناك" (جا 3: 16-17). فإن الله الصالح قد صنع كل شيءٍ حسنًا أو جميلاً في وقته، وأن ما حلَّ بالعالم من فساد ليس هو عن طبيعة العالم ذاته، وإنما خلال ظلم الإنسان وجوره لأخيه الإنسان. وأنه أية شهادة عن بطلان العالم مثل احتلال الظلم موضع الحق، والجور موضع العدل؟ ينتشر الفساد في عمق ساحات العدل! لكن الجامعة يؤمن بقضاء الله العادل. فساد العالم لا يعني أن الأمور تسير بطريقة اعتباطية بلا ضابط، إنما ينتظر الله الوقت المناسب ليدين الصدِّيق والشرير. "لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقتًا هناك". بمعنى آخر إن كان الإنسان بفساده أساء إلى العالم إذ لم يضع كل شيءٍ في زمانه المناسب وفي نصابه، فاحتل الظلم موضع العدل... فإن الله يتدخل ليُصلح الموقف، لكن أيضًا في حينه.

لعل من أخطر الرذائل التي يهاجمها الكتاب المقدس بعهديه هو ظلم الإنسان لأخيه.

ينتظر الله في طول أناته رجوعنا إليه لنمارس حبه وبرَّه، لكن إذ يُصر الأشرار على ممارسة العنف والظلم. ففي يوم الدينونة يبدو كأن الله لا يشير إلى تفاصيل شرورهم، بل يدعو كل شرورهم ظلمًا، وكأنه لا يوجد ما يحُزن قلب الله مثل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. إنه يخاطب الأشرار، قائلاً: "لا أعرفكم من أين انتم، تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم" (لو 13: 27). "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، اصرخ إليك من الظلم، وأنت لا تخلص" (حب 1: 2).

يحذرنا الكتاب المقدس من ممارسة الإنسان الظلم ضد أخيه، مؤكدًا خطورة الظلم:

أ. ليس من ملجأ للهروب من الظلم سوى الالتجاء إلى الله نفسه.

"أنقذني يا رب من أهل الشر، من رجل الظلم احفظني" (مز 140: 1).

"احفظني يا رب من يدي الشرير، من رجل الظلم أنقذني، الذين تفكروا في تعثير خطواتي" (مز 140: 4).

ب. ما يمارسه الإنسان من ظلم إلا يخزنه لنفسه، فيرتد الظلم إليه لهلاكه؛ يشرب من ذات الكأس التي ملأها لأخيه.

"رجل لسان لا يثبت في الأرض، رجل الظلم يصيده الشر إلى هلاكه" (مز 140: 11).

ج. الظلم يفقد الإنسان الحكمة والتعقل لتسيطر عليه الحماقة، ويحرم الإنسان في الدخول في عهد مع الله الكلي العدل. فليس من شركة بين الظلم والعدل.

"لأن الظلم يحمق الحكيم، والعطية تفسد القلب" (جا 7: 7).

لذلك هكذا يقول قدوس إسرائيل: لأنكم رفضتم هذا القول، وتوكلتم على الظلم والاعوجاج، واستندتم عليهما" (إش 30: 12).

"لأني أنا الرب محب العدل، مبغض المختلس بالظلم، واجعل أجرتهم أمينة، واقطع لهم عهدًا أبديًا" (إش 61: 8).

د. الظلم يفسد روح الرعاية، ويفقد القادة والرؤساء عملهم الرعوي.

"هكذا قال السيد الرب: يكفيكم يا رؤساء إسرائيل، أزيلوا الجور والاغتصاب، واجروا الحق والعدل، ارفعوا الظلم عن شعبي" (حز 45: 9)

هـ. كل ظلمٍ يدخل كما إلى مخازن قصور من يظنون أنهم عظماء، وفوق القانون، وهناك يستقر، لن يخرج بدون التوبة والرجوع إليك.

"فإنهم لا يعرفون أن يصنعوا الاستقامة، يقول الرب، أولئك الذين يخزنون الظلم والاغتصاب في قصورهم" (عا 3: 10).

"أنتم الذين تبعدون يوم البلية، وتقربون مقعد الظلم" (عا 6: 3).

"وليتغط بمسوح الناس والبهائم، ويصرخوا إلى الله بشدة، ويرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديئة، وعن الظلم الذي في أيديهم" (يون 3: 8).

و. الظلم يفسد القلب، مدينة الله أورشليم والهيكل الداخلي.

"الذين يبنون صهيون بالدماء، وأورشليم بالظلم" (مي 3: 10).

"لأنه يكره الطلاق، قال الرب إله إسرائيل، وأن يغطي أحد الظلم بثوبه، قال رب الجنود، فاحذروا لروحكم لئلا تغدروا" (ملا 2: 16).

يضع المرتل كلمة "الظلم" كأنها تعادل "إبليس" نفسه، فيضع الظلم مقابل الله موضوع اتكالنا ورجائنا، فيحذرنا: "لا تتكلوا على الظلم"، وكأن أمامنا أحد اختيارين: الله أو الظلم.

v     "لا تتكلوا على الظلم" (مز 62: 10). فإن رجائي هو في الله... لقد وثبت ووضعت رجائي في الله، فهل يمكن أن يوجد بأي حال من الأحوال ظلم في الله؟[1029]

القديس أغسطينوس

ز. الظلم محصلته هباءً، لا قيمة له.

"لا تتكلوا على الظلم، ولا تصيروا باطلاً في الخطف، إن زاد الغنى فلا تضعوا عليه قلبًا" (مز 62: 10).

لم يعد الله مؤمنيه بأن ينزع عنهم الظلم والاضطهادات، لكنه يسمح بذلك لمجدهم ومجده هو فيهم كمخلصٍ يحولّ الشرور للخير.

يقول المرتل: "من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه" (مز 72: 14). أو كما جاء في بعض الترجمات: "يصير اسمه مكرمًا في حضرتهم".

v     إن كان المسيحيون يبدون محتقرين في هذا العالم، فإن اسمهم مكرم في حضرة الله. لا يعود يذكر الأسماء التي ارتبطوا بها قبلاً (والأتعاب) خلال الخزعبلات الأممية (الوثنية)، ولا يشير إلى أسمائهم التي لحقت بهم خلال تصرفاتهم الشريرة قبل أن يصيروا مسيحيين. فقد صار لهم اسم مسيحيين في حضرة الله، الاسم الذي يبدو محتقرًا لدى الأعداء[1030].

القديس أغسطينوس

في تعليق القديس أغسطينوس على المزمور 140 حيث يصلي المرتل أن يحفظه من رجل الظلم يرى انه يقدم لنا مثلاً حيًا للصلاة ضد الظالمين بقوله: "من رجل الظلم أنقذني... أخفى ليّ المستكبرون فخًا وحبالاً، مدوا شبكة بجانب الطريق، وضعوا ليّ إشراكا" (مز 140: 4-5). فإن الصلاة ليست ضد الظالم نفسه، إنما ضد الشر والظلم حتى ينزع الله الشباك المنصوبة ضدنا.

v     يصلي كثيرون في عدم مهارة ضد الأشرار... يليق بك أن تصلي ضد مثل هذه الشباك لئلا تفقد ميراثك السماوي، لئلا تفقد المسيح الذي لك شركة ميراث معه، فقد عُين لك أن تحيا معه إلى الأبد، هذا الذي جعلك وارثًا. فقد صرت وارثًا لا بواسطة من تخلفه بعد موته (الوالد الجسداني)، بل بواسطة ذاك الذي يعيش معه إلى الأبد[1031].

القديس أغسطينوس

فالظلم الحقيقي في ذهن القديس أغسطينوس ليس من يسبب لك خسائر مادية أو زمنية كأن يسلب ميراثك أو ممتلكاتك، لكنه هو وضع إشراك للنفس كي تحرم من الشركة مع السيد المسيح في الميراث الأبدي.

إذ يضع الظالم الشباك لاصطياد الأبرار يسقطون هم في ذات فخاخهم ليدمروا أبديتهم. وكما يقول المرتل: "رجل الظلم يصيده الشر إلى هلاكه" (مز 140: 11).

v     تأتي الشرور، لكن الشرير لا يثبت، لذلك يقول: "تصطاده لهلاكه". فإن كثيرًا من الصالحين والأبرار قد أصابتهم شرور، لكن بالشرور وُجدوا (ولم يهلكوا), فعندما طاردت الشرور الصالحين – أي شهداؤنا- وأمسكت بهم، اصطادتهم ولكن ليس للهلاك. فقد ُضغط على أجسامهم، لكن الروح كُللت. نُزعت الروح عن الجسم، لكن ليس من شيءٍ يصيب الجسم الذي يختفي لأجل المستقبل.

ليُحرق الجسم ويُجلد، ويُشوه، فهل نُزع عن خالقه لأنه سُلم في يد مضطهديه؟ أليس الذي خلقه من العدم سيعيده بصورة أفضل مما كان عليه؟[1032]

القديس أغسطينوس

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في أصدقاء أيوب الذين يرمزون إلى الهراطقة أنهم على الدوام يستخدمون كل وسيلة سواء بالإغراء أو الخداع أن يوسعوا تخومهم، ويسلبوا النفوس، بإزالة العلامات التي وضعها الآباء، أي المفاهيم الإنجيلية الكنسية الآبائية، فيجتذبون البعض وينحرفون بهم عن الحقل الإلهي. إنهم يأخذون قطيع المسيح الوديع، ويحسبونه قطيعهم، ومن حقهم رعاية هذا القطيع خارج كنيسة المسيح.

v     "آخرون يزيلون علامات الحدود، ويغتصبون القطعان عنفًا ويطعمونها" [2] من هم الذين يشير إليهم تحت لقب "الآخرين" إلا الهراطقة، إذ هم غرباء عن حضن الكنيسة المقدسة؟ فإنهم ينزعون علامات الحدود لكي يتخطوا دساتير الآباء بسيرهم بانحرافٍ. بخصوص هذه الدساتير مكتوب: "لا تنزع علامات الحدود القديمة التي وضعها آباؤك" (أم 28:22).

البابا غريغوريوس (الكبير)

3. استغلال المساكين

يَسْتَاقُونَ حِمَارَ الْيَتَامَى،

وَيَرْتَهِنُونَ ثَوْرَ الأرملة [3].

يضرب مثلاً آخر للظلم وهو أن يغتصب إنسان حمارًا ليتيم مسكين ينتفع منه ماديًا، ولا يقدر المسكين أن ينازع المغتصب. أو من يرهن ثور أرملة تستخدمه في حقلها الصغير لسببٍ أو آخر، كأن يكون استيفاءً لدينٍ صغيرٍ أو متأخر إيجارٍ. لا يكف الأشرار عن سلب ما هو ليس لهم، فيطمعون في استخدام حمار اليتامى ويرهنون ثور الأرملة.

يعتبر الله الظلم الساقط على يتيمٍ أو أرملةٍ موجهًا إليه شخصيًا، إذ هو "أبو اليتامى، وقاضى الأرامل" ( مز 68: 5 )، "الصانع حق اليتيم والأرملة والمحب الغريب ليعطيه طعامًا ولباسًا" (تث 10: 18). "الرب يحفظ الغرباء يعضد اليتيم والأرملة، أما طريق الأشرار فيعوجه" (مز 146: 9). "لا يهمل اليتيم المتضرع إليه ولا الأرملة إذا سكبت شكواها" (سيراخ 35: 17). لقد وضع الله وصايا كثيرة بخصوص الاهتمام باليتيم والأرملة، نذكر منها الآتي:

"لا تعوج حكم الغريب واليتيم ولا تسترهن ثوب الأرملة" (تث 24: 17).

"إذا حصدت حصيدك في حقلك ونسيت حزمة في الحقل فلا ترجع لتأخذها. للغريب واليتيم والأرملة تكون لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يديك" (تث 24: 19).

"وإذا خبطت زيتونك فلا تراجع الأغصان وراءك. للغريب واليتيم والأرملة يكون" (تث 24: 20).

"إذا قطفت كرمك فلا تعلله وراءك. للغريب واليتيم والأرملة يكون" (تث 24: 21).

"متى فرغت من تعشير كل عشور محصولك في السنة الثالثة سنة العشور وأعطيت اللاوي والغريب واليتيم والأرملة فأكلوا في أبوابك وشبعوا" (تث 26: 12).

"ملعون من يعوج حق الغريب واليتيم والأرملة ويقول جميع الشعب: آمين" (تث 27: 19).

"هكذا قال الرب: اجروا حقًا وعدلاً، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم، والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا، ولا تظلموا، ولا تسفكوا دمًا زكيًا في هذا الموضع" (ار 22: 3).

"ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر احد منكم شرًا على أخيه في قلبكم" (زك 7: 10).

"واقترب إليكم للحكم وأكون شاهدًا سريعًا على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زورا وعلى السالبين أجرة الأجير الأرملة واليتيم ومن يصد الغريب ولا يخشاني قال رب الجنود" (ملا 3: 5).

v     اهرب أيضًا يا أسقف ممّن يضيّق على الأرملة، وممن يتقوّى على اليتيم، ومن يقسو أيضًا على عبيده بضربٍ أو قحطٍ أو مملكة سوءٍ، قرابينهم مبغوضة لا تقبلها[1033].

الدسقوليّة

v     ينبغي أن يكون القسوس عطوفين ورحماء على الجميع، فيردون الذين ضلوا، ويزورون المرضى، ولا يهملون الأرملة واليتيم والفقير، بل دائمًا يكونون "معتنين بأمورٍ حسنة قدام الرب والناس" (راجع رو ١٢: ١٧؛ ٢ كو٨: ٢١)، ممتنعين عن كل غضبٍ، ومحاباة الناس، أو إصدار حكم ٍظالمٍ، هاربين من كل محبّة للمال، غير متعجلين في الحكم ضدّ أحد، غير قاسين في الحكم، عالمين إنّنا جميعًا مدينون بالخطيّة[1034].

بوليكاريوس أسقف سميرنا

v     ستتلألأ خدمتك بأكثر بهاءٍ إن قاومت الضيق الذي يحل على الأرملة والفقير بواسطة إنسانٍ ذي سلطان، وذلك بمعونة الكنيسة، مظهرًا أن وصية الرب لها ثقل أعظم عندك من مجاملة الأغنياء[1035].

القديس أمبروسيوس

لعل من أهم صور الظلم التي أهتم آباء الكنيسة الأولى تحذير الشعب منها هو الربا، واستغلال الأغنياء إخوانهم الفقراء، فيقرضوهم بربا يسبب لهم متاعب لا حصر لها. وقد سبق لنا الحديث عن الربا في كتابنا "الفكر الاجتماعي عند آباء الكنيسة".  

يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم صورة مُرة لاستغلال الأغنياء الأسر الفقيرة فيقرضونهم بربا فاحش يحطم هذه الأسر.

v     عندما تفتقر أسرة ما، تصير مدفوعة للاستدانة من أجل البقاء. لكن إن طالب الدائن بفوائد على الدين، حينئذ تسقط هذه الأسرة بالأكثر في عمق الحفرة. فتلتزم ليس فقط برد الدين بل أيضًا الفائدة التي تتراكم عليه. ربما يدعي الدائن حتى أمام نفسه أنه يتصرف بكياسة، لكن فعليًا يتصرف بخبثٍ شديدٍ وراء مظهر العطاء متعمدًا الأذى لغيره.

إنه يتاجر على حساب مصائب الآخرين، ويستفيد من نكبتهم.

يطلب الفوز بالماديات في قالب عمل الرحمة، وهكذا يحول العطاء إلى سرقة. يبدو أنه يرسي بالعائلة الفقيرة على ميناء الأمان، لكنه في الحقيقة يدفع السفينة نحو الصخور. ربما يتساءل الدائن: لماذا يجب عليّ أن اقرض الآخرين مالاً وهو مفيد لي، ولا أطلب مكافأة لذلك؟ والإجابة إنك سوف تنال مكافأة، في مقابل الذهب الذي أقرضته على الأرض، ستأخذ ذهبًا في السماء بنسبة أكبر كثيرًا في الفائدة فوق ما تستطيع أن تتصور.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن أخذنا بالتفسير الرمزي، فان حمار اليتيم الذين يستخدمه الهراطقة الأشرار يشير إلى سلب النفوس البسيطة من أحضان الكنيسة واستغلالها، حيث يلزمونها بثقل خطأ إيمانهم ومعتقداتهم. أما دعوته لليتيم فلأنه لم يدرك بنوته لله أبيه والكنيسة أمه، فيكون يتيم الأب والأم، فلا ينعم بسلام الله وفرح الكنيسة أمه. أما رهن ثور الأرملة فيشير إلى النفس التي لا تدرك الكنيسة كعرسٍ مفرحٍ، فتسلك في حزنٍ شديدٍ كأرملةٍ. مثل هذه النفوس يغتصبها الهراطقة بإغراءات مؤقتة بينما يسلبونها حتى ثورها الوحيد، فتصير في عوز واحتياج داخليًا!

v     "إنهم يقصون حمار اليتيم، ويأخذون ثور الأرملة رهينة" [3]... يُستخدم الحمار ليحمل أثقال الناس. إذن يشبه نوعًا من الحمير من بين المختارين، خاضعًا بنفسه ليحمل أمورًا أرضية، يحمل الأثقال لنفع البشر. غالبًا عندما يغوي الهراطقة شخصًا مثل هذا ويسحبونه من حضن الكنيسة، يكون كمن أقصى حمار اليتيم، إذ يلزمونه بقبوله خطأ إيمانهم. إنهم يسحبونه من ميله للصلاح.

ماذا يُفهم بـ "الأرملة" سوى الكنيسة المقدسة، التي تُحرم، في وقتٍ ما، من رؤية عريسها المذبوح؟ الآن ثور هذه الأرملة هو كل كارز بمفرده. بحق يضيف هنا "رهينة"، فإنه إذ تُسحب الرهينة، يبقى بالحق شيء ما في أيدينا والآخر يُبحث عنه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

4. يرعبون الودعاء

يَصُدُّونَ الْفُقَرَاءَ عَنِ الطَّرِيق.

مَسَاكِينُ الأَرْضِ يَخْتَبِئُونَ جَمِيعًا [4].

لا يقف ظلم الأشرار عند سلب ممتلكات الآخرين من أراضٍ وحقولٍ وقطعانٍ، واستغلال القليل الذي لدى المحتاجين والمعوزين، وإنما يظنون أن العالم خُلق من أجلهم، ليس من حق الفقير أن يحيا، فيبذلون كل الجهد لنزعه عن الأرض، حتى يضطر المساكين من الهروب والاختفاء من وجوههم.

يجد الظالمون مسرتهم عندما يسدون طرق النجاة أمام المساكين، ويهددونهم بأنهم يقتصون منهم كمتشردين، وإذ يتوارى المساكين ليفلتوا من أيديهم يسخرون بهم.

v     "إنهم ينزعون المحتاجين من الطريق، ويضغطون معًا على ودعاء الأرض" [4]. غالبًا ما يُشار إلى التواضع بتعبير "الاحتياج" (الفقر)، وكثيرون جدًا ممن يظهرون ودعاء ومتواضعين إن لم يتمسكوا بالتمييز يسقطون بإقتدائهم بآخرين.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يميل الله نفسه أذنيه ليسمع تنهدات البسطاء والودعاء الذين لا يهتم بهم أحد. يقول المرتل: "تأوه الودعاء قد سمعت يا رب، تثبت قلوبهم، تميل أذنك لحق اليتيم والمنسحق، لكي لا يعود أيضًا يرعبهم إنسان من الأرض" (مز 10: 17-18).

v     "عيناه تراقبان الفقير" (مز 10: 8)، فإنه يضطهد على وجه الخصوص الأبرار، الذي يقال عنهم: "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات"، يكمن في المختفى كأسدٍ في عرينه" (مز 10: 9). يقصد بالأسد الذي في جبٍ إنسانًا عنيفًا عمله الخداع... إنه يجتذبه إليه بالعنف بكل عذابٍ يمكن أن يُسقطه عليه... "تأوه الودعاء قد سمعت يا رب" (مز 10: 17)، هذا التأوه الصادر وهم يحترقون، إذ وهم في ضيقات هذا العالم ومتاعبه يشتهون حلول يوم الرب... "لحق اليتيم والمنسحق لكي لا يعود يرعبهم أحد" (مز 10: 18)، وليس من أجل الذي تشكلوا حسب العالم ولا من أجل المتكبرين[1036].

القديس أغسطينوس

5. يظنون أنهم فوق القانون

هَا هُمْ كَالْفَرَاءِ فِي الْقَفْرِ يَخْرُجُونَ إِلَى عَمَلِهِمْ،

يُبَكِّرُونَ لِلطَّعَامِ.

الْبَادِيَةُ لَهُمْ خُبْزٌ ولأَوْلاَدِهِمْ [5].

يشبه أيوب الأشرار بالحمير الوحشية التي تنطلق في البرية بلا قانون يحكمها. تبكر في الصباح لتأكل ونتطلع إلى البادية لتقدم الطعام لصغارها. هكذا يحسب الأشرار أنفسهم أنهم فوق القانون، وأن لا عمل لهم سوى الأكل والشرب والملذات وتقديم كل لذة لأولادهم.

"في القفر": يود الأشرار أن تتحول الأرض كلها إلى قفار حيث لا مجال لقوانين تحكم المجتمع، وبالتالي يمكن ممارسة الظلم على نطاق أوسع. القفار هي أنسب مكان لأناسٍ متوحشين كهؤلاء، غير انه لا يوجد قفر ما يخفي الإنسان عن الله أو يجعله في غير متناول يده.

" يخرجون إلى عملهم"، الذي هو السرقة، فقد امتهنوا السلب وممارسة الظلم كعملٍ دائمٍ لهم، يحصلون على مكاسب عظيمة. في نظرهم يمارسون هذه المهنة بنشاط وهمة إذ "يبكرون للطعام بفريسةٍ". يخرجون كما إلى عملهم، كما أن الإنسان يخرج إلى عمله (مز104: 23) ويبكر الصديقون إلى الرب فيمجدونه، يخرج الأشرار إلى ممارسة الظلم كعملٍ يلتزمون به. هكذا يبكر الأشرار إلى ممارسة عملهم. يقضون الليل في التخطيط للشر، وإذ يشرق الصباح يسرعون إلى التنفيذ العملي بما في قلوبهم. وكما قيل عن افرايم:" مثل الكنعانى في يده موازين الغش، يحب أن يظلم. فقال افرايم إني صرت غنيًا، وجدت لنفسي ثروة" (هو 12: 7-8).

"البادية لهم خبز ولأولادهم" فإنهم يعولون أنفسهم كما أولادهم من السلب الذي يمارسونه في طرق البادية، عوض الإعالة بطرق شريفة.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الهراطقة يسلكون هكذا، إذ يعيشون في برية قاحلة، حيث يتركون الكنيسة بيت الله وكرمه المقدس. إنهم متسيبون، ما يشغلهم هو الملذات والخيرات الزمنية، لا يريدون ضابطا أو الخضوع لتدبير معين كالصوم والصلاة والمطانيات الخ، وان حلّ بهم تأديب إلهي لا يبالون، بهذا يعيشون في برية قاحلة بلا ثمر للروح. يشبهون إسماعيل الذي قيل عنه: إنه إنسان وحشي، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه (تك 16:12).

v     "آخرون كحمير متوحشة (كالأخدري) في البرية يذهبون إلى عملهم" [5]. فإن الأخدري هو حمار وحشي. هنا بحق يُشبه الهراطقة بالحمير الوحشية، إذ هم متسيبون في ملذاتهم، وهم غرباء عن قيود الإيمان والتعقل. لذلك مكتوب: "الحمار الوحشي يُستخدم للبرية، يستنشق الريح في شهوته" (إر 24:2). يكون الشخص حمارًا وحشيًا يُستخدم للبرية، ذاك الذي وهو لا يُفلح أرض قلبه بسمو التأديب فيسكن حيث لا يوجد ثمر... هذا ليس من عمل الله، بل من عملهم هم أنهم لا يتبعون التعاليم السليمة، بل يتبعون شهواتهم. إذ مكتوب: "من يسلك طريقًا كاملاً يخدمني" (مز 6:101).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     إنني أعرف أن مما أقوله موجع، لكن كم هو يحتوي على فائدة عظيمة، لو كان الرجل الغني قد وجد من يسدي له مثل هذه النصيحة بدلاً من تملقه وقول ما يود سماعه وجره للانزلاق في حياه الإسراف، ما كان ليسقط في تلك الهاوية. وما كان ليقع تحت هذا العذاب الغير محتمل، نادمًا بعد فوات الأوان، طالبًا المواساة لكن كان الجميع يعملون من أجل إمتاعه مُسلِّمين إياه إلى جحيم النار.

إنني أتمنى أن نعظ ونتحدث دائمًا وباستمرار في هذا الموضوع، إذ يقول الكتاب المقدس: "في جميع أعمالك اذكر أواخرك فلن تخطأ إلى الأبد" (سي 7: 40) ، وكذلك يقول: "هَيّئْ عملك لرحيلك وأعدَُّ كل شيءٍ للطريق" (راجع أم 27:24)[1037].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     مهما كان الأشرار في اخضرار، فإنهم سيهلكون، فقد حُفظوا للنار... هؤلاء ينتعشون في سعادة العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس بذات الطريقة التي بها ينتعشون يهلكون، فإنهم ينتعشون إلى حين، ويهلكون أبديًا. ينتعشون فيما هو ليس صالحًا بالحقيقة، ويهلكون بعذابات حقيقية[1038].

القديس أغسطينوس

كان المرتل يتطلع إلى الأشرار وهم يعيشون في سلام في هذا العالم وفي رخاء، كمن هم في سعادة فيحسدهم ويغيّر منهم، لذلك اعترف قائلاً: "أما أنا فكادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي، لأني غرت من المتكبرين (الخطاة)، إذ رأيت سلامة الأشرار، لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يصابون، لذلك تقلدوا الكبرياء، لبسوا كثوبٍ ظلمهم" (مز 73: 2-6).

v     لاحظت الخطاة ورأيتهم في سلام. أي سلام؟ سلام زمني مؤقت، أرضي، وساقط، ومع هذا فهذا (السلام) أطلبه من الله. رأيت الذين لا يخدمون الله لهم ما اشتهيته أنا لكي أخدم الله، فزلقت قدماي، وزلقت خطواتي. لكن لماذا للأشرار هذا؟... ليس لهم أن يتفادوا موتهم، وعقوبتهم دائمة... الآن علمت لماذا لهم سلام ويزدهرون على الأرض. فإن الموت بالتأكيد ينتظرهم أبديًا، فانهم لا يتفادون هذه الأمور ولن يقدروا على الخلاص منها... فإن عقوبتهم لا تكون وقتية بل ثابتة وأبدية[1039].

القديس أغسطينوس

6. يريدون الشر والرب يريد الخير

فِي الْحَقْلِ يَحْصُدُونَ عَلَفَهُمْ،

وَيُعَلِّلُونَ كَرْمَ الشِّرِّيرِ [6].

إذ يشعرون أنهم فوق القانون، يحصدون حقول غيرهم ويقدمون ثمارها علفًا لحيواناتهم. وكأنهم يحسبون حيواناتهم أفضل من أصحاب الحقول، فلا يبالون بجوع أصحاب الحقول المغتصبة، وإن كانت الثمار لا تقدم لبشرٍ بل للحيوانات.

يرى البابا غريغوريوس ( الكبير ) أن الحقل هنا والكرمة يشيران إلى الكتاب المقدس. فالهراطقة يقتطفون عبارات منه ويحرفون معانيها لحساب أهوائهم الخاصة.

v     "يحصدون حقلاً ليس ملكهم، ويجمعون بالعنف كرمة من يضغطون عليه[1040]" [6]. يُشار بالحقل إلى نطاق الكتاب المقدس المتسع، يحصده الهراطقة بكونه ليس ملكًا لهم، إذ يقطفون منه عبارات لتحمل معانٍ بعيدة تمامًا عما تعنيها. هذا ما يوصف أيضًا بلقب "كرمة"، هذه التي تقدم عناقيد الفضائل خلال عبارات الحق. إنهم كمن يضغطون على مالك الكرمة - واضع الكتاب المقدس – بالعنف، إذ يحرفون بالعنف معاني كلمات الكتاب المقدس. وكما قال (الرب): "لكنكم جعلتموني أخدم خطاياكم، أتعبتموني بمعاصيكم" (إش 24:43). وهم يحصدون خمر تلك الكرمة، إذ يحصدون معًا عناقيد عبارات منه بعد أن ينحرفوا بها إلى مفاهيمهم الخاصة.

يُمكن أيضًا أن يُفهم بالحقل أو الكرمة الكنيسة الجامعة هذه التي يحصدها الكارزون الفاسدون، ويضغطون على خالقها في أعضائه، "يجمعون معًا الخمر"، بأن يسيطروا على أشخاص يبدو أنهم أبرار.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يعتقد أوريجينوس أن الهراطقة يتقبلون أولا وديعة الإيمان, ثم يحيدون عنها فيما بعد. [يبدأ الهراطقة بالإيمان, ثم يحيدون فيما بعد عن طريق الإيمان, وعن حقيقة تعليم الكنيسة[1041].] في كبريائهم, يبحث الهراطقة في الكتاب الإلهي, لا لاكتشاف الحقيقة, بل لتأكيد مذاهبهم الخاصة. فيقول Henri de Lubac في كتابه عن أوريجينوس:

[لابد للمرء أن يتقبل الإيمان بالله, بالروح الذي تعلمنا به الكنيسة. وأن لا يتصرف مثل الهراطقة الذين يبحثون في الكتاب لمجرد العثور على ما يؤكد مذاهبهم الخاصة. ترتفع بهم كبرياؤهم إلى "أعلى من أرز لبنان". سفسطتهم مليئة بالغش. لا فائدة من ادعائهم بأن لهم تقليد ينحدر إليهم من الرسل, فهم أساتذة في الخطأ.

 ففي حين لا يشرد المسيحي المخلص أبدًا عن التقليد العظيم, فلتأكيد أكاذيبهم يرغبون في جعلنا نعبد "مسيحًا " قد اخترعوه في "قفر"، بينما مسيحنا الحقيقي يكشف عن ذاته "داخل البيت". هم يشوّهون تلك الأوعية الذهبية والفضية, التي هي النصوص المقدسة, ليصوغوها بما يتمشى مع أهوائهم. إنهم لصوص وزناة, يضعون أيديهم على الكلمات الإلهية بقصدٍ واحدٍ, وهو أن يشوهوها بتأويلاتهم المنحرفة. هم مزيفون, إذ قد صكّوا مذاهبهم خارج الكنيسة. معلمين كذبة وأنبياء كذبة, يغزلون من بنات أفكارهم ما يقترحونه. إنهم الكذابون الذين تحدث عنهم حزقيال, الذين بتحايلهم المخادع, يطلون أصنامهم - التي هي عقائدهم الجوفاء - بالحلاوة لمن يستمع إليهم, لجعل انحرافهم أكثر تأكيدًا. جميعهم يدعون أن يسوع هو معلمهم ويعانقونه. ولكن قبلتهم هي قبلة يهوذا[1042].]

يَبِيتُونَ عُرَاةً بِلاَ لِبْسٍ،

وَلَيْسَ لَهُمْ كِسْوَةٌ فِي الْبَرْدِ [7].

مرة أخرى إذ لا يخضعون لقانون يسلبون الآخرين ثيابهم ويطردونهم، فيبيت هؤلاء دون أغطية لتحميهم من البرد القارس.

هكذا يبذل الهراطقة كل الجهد لينزعوا عن المؤمنين ثيابهم، أي الشركة الحقيقية مع السيد المسيح، الذي يقول عنه الرسول بولس: "قد لبستم المسيح" (غل 3: 27) "ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 10). أيضًا يقول:

"و تلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر و قداسة الحق" (أف 4: 24).

"البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف 6: 11).

"فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفا وتواضعا ووداعة وطول أناة" (كو 3: 12).

"وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال" (كو 3: 14).

v     "يطردون أناسًا عراة، ويأخذون ثيابهم، هؤلاء الذين ليس لهم أغطية في البرد[1043]" [7]. كما تغطي الثياب الجسم، هكذا تفعل الأعمال الصالحة مع النفس. لذلك قيل: "طوبى لمن يحرس ثيابه ويحفظها، لئلا يسير عاريًا، ويرون عاره" (رؤ15:16). عندما يحطم الهراطقة الأعمال الصالحة من ذهن أحدٍ، ينزعون بكل وضوح ثيابه. حسنًا قيل: "ليس لهم أغطية في البرد"، لأن الغطاء له صلة بالبرِّ، والبرد بالخطية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     "إذا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق" (1 كو 8:5).

وإذ نخلع الإنسان العتيق وأعماله، نلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (أف 22:4، 24)، ونلهج في ناموس الله نهارًا وليلاً، بعقل متواضع وضمير نقي.

لنطرح عنا كل رياء وغش، مبتعدين عن كل رياء ومكر.

ليتنا نتعهد بحب الله ومحبة القريب، لنصبح خليقة جديدة، متناولين خمرًا جديدًا...

إذًا لنحفظ العيد كما ينبغي[1044].

v     نحتاج أن نلبس الرب يسوع لكي نستطيع أن نحتفل بالعيد معه. الآن نحن نلبسه عندما نحب الفضيلة، ونعادي الشر... حين نحب البرّ لا الظلم، ونكرم القناعة ويكون لنا قوة الفكر، ولا ننسى الفقير، بل نفتح أبوابنا لكل البشر، ولا ننسى تواضع الفكر ونكره الكبرياء[1045].

البابا الأنبا أثناسيوس الرسولي

v     إن كان ثوب نفسك هو "الطمع"، البس آخر غيره وتعال اخلع ثوبك القديم ولا ترتدِه.

أرجوك أن تخلع الزنا والنجاسة، وتلبس ثوب النقاوة المتألق.

إنني أوصيك بهذا قبل أن يدخل العريس يسوع ويتطلع إلى ثوبك.

إنني اترك لك زمانًا طويلاً للتوبة. إنها فرصة كافية لكي تخلع وتغسل وتلبس وتدخل![1046]

القديس كيرلس الأورشليمي

يَبْتَلُّونَ مِنْ مَطَرِ الْجِبَالِ،

وَلِعَدَمِ الْمَلْجَأ يَعْتَنِقُونَ الصَّخْرَ [8].

إذ يعمل الأشرار على سلب المؤمنين إيمانهم بالسيد المسيح، ليحرموهم من الثياب الإلهية والغطاء السماوي، يصير هؤلاء المساكين عراة يعانون من أمطار الجبال حيث لا ملجأ لهم يستترون فيه من المطر، ويبحثون عن حجارة يحتضنونها أو صخرة ما لعلها تسترهم من المطر.

v     "مبللون بأمطار الجبال، ويحتضنون الحجارة لعوزهم إلى ثوبٍ" [8]. أمطار الجبال هي كلمات المتعلمين. عن هذه الجبال عينها قيل بصوت الكنيسة المقدسة: "رفعت عيني إلى التلال" (مز 1:121). هؤلاء الأشخاص يُبللون بأمطار الجبال، هؤلاء الذين يمتلئون إلى النهاية بمجاري الآباء القديسين. وأما الثوب الذي نأخذه كغطاء فهو السلوك الصالح، يتغطى به الإنسان لكي ما يتغطى دنس فساده في عيني الله القدير. هكذا مكتوب: "طوبى للذين غُفرت آثامهم، وسُترت خطاياهم" (مز 1:32) من هم هؤلاء الذين نفهمهم بلقب "الحجارة" إلا الأقوياء الذين في داخل حدود الكنيسة المقدسة، هؤلاء الذين أٌعلن لهم بواسطة الراعي: "كونوا أنتم أيضًا كحجارة حية مبنيين بيتًا روحيًا (1 بط 2: 5). هكذا هؤلاء الذين على أساس سلوكهم العملي ليس فيهم أي تواكل، فيطيرون إلى حماية الشهداء القديسين، ويمارسون الدموع والتوسلات عند رفاتهم المقدسة لينالوا بشفاعتهم مغفرة. ماذا إذن يُفعل هؤلاء بمثل هذا التذلل سوى أن يحتضنوا الحجارة، إذ ينقصهم غطاء الممارسة العملية الصالحة؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

يَخْطُفُونَ الْيَتِيمَ عَنِ الثُّدِيِّ،

وَمِنَ الْمَسَاكِينِ يَرْتَهِنُونَ [9].

في عنفهم يخطف الأشرار اليتيم وهو يرضع من ثديي أمه، ويبحثون عن المساكين ليستخدموهم رهائن. لا يشفقون على الطفل الرضيع أنه يُحرم من أمه، ولا على الأم أن تُحرم من رضيعها أيضًا. يختارون وقتا حرجًا حيث يسلبون الرضيع أثناء رضاعته، ولا يبالون بصرخات وجوعه!

لقد قتل فرعون أطفال العبرانيين وهكذا فعل هيرودس بغية قتل الطفل الملك، هذان خطفا الأطفال والرضع عن صدور أمهاتهم بالسيف.

يرى البعض أن الظالمين بعد أن يقتلوا الآباء يخطفون الرضع ليحرموهم من أمهاتهم. ويرى آخرون أنهم يخطفون الرضع كعبيدٍ، كما حدث في أيام نحميا ( نح 5:5).

v     "يستخدمون العنف في افتراسهم اليتامى، ويفسدون قطيع المساكين العام" [9]... يستخدم الهراطقة العنف في افتراسهم اليتامى، إذ يهجمون بعنف على عقول المؤمنين الضعيفة بالكلمات والأعمال.

أما "قطيع المساكين العام"، فهم الجموع غير المتعلمة، التي لو نالت غنى المعرفة الحقيقية لما نُزع عنها غطاء إيمانها. فالمعلمون الأصليون يشبهون نوعًا من الشرفاء (سيناتور) في داخل حدود الكنيسة المقدسة، يضاعفون المعرفة في القلب، ويزيدون من الغنى الحقيقي الذي فيهم، أما الهراطقة فيفسدون قطيع المساكين العام، حيث يسحبون غطاء الإيمان من غير المتعلمين، فيجعلونهم عرايا خلال كرازتهم المسمومة، بينما لا يقدرون أن يفعلوا هكذا مع المتعلمين.

البابا غريغوريوس (الكبير)

عُرَاةً يَذْهَبُونَ بِلاَ لِبْسٍ،

وَجَائِعِينَ يَحْمِلُونَ حُزَمًا [10].

v     "يأخذون سـنابل الحنطة من العـرايا، ومن الذين يسيرون بلا غطاء، ومن الجائعين" [10]. يقول "عرايا" ثم يكرر الذين يسيرون "بلا غطاء"، إذ يوجد فارق بين أن يكون الشخص عاريًا وأن يسير عاريًا. فكل شخصٍ لا يفعل ما هو صالح ولا ما هو شرير يكون عريانًا وتافهًا. أما من يصنع شرًا فهو "يسير عريانًا"، فإذ ليس له غطاء الممارسة الحسنة يسير في طريق الشر.

لكن البعض يعرفون شر بؤسهم، فيسرعون لكي يشبعوا بخبز البرّ، ويجوعوا ليقبلوا أقوال الكتاب المقدس. هؤلاء عندما يتغيرون في الفكر تصير عبارات الآباء لإصلاح أذهانهم كما لو كانت تحمل سنابل حنطة من محصولٍ جيدٍ. وهكذا ينزع الهراطقة سنابل الحنطة من العرايا، ومن الذين يسيرون بلا غطاء، ومن الجائعين.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يَعْصُرُونَ الزَّيْتَ دَاخِلَ أَسْوَارِهِمْ.

يَدُوسُونَ الْمَعَاصِرَ وَيَعْطَشُونَ [11].

لا يكف الأشرار عن أن يطأوا بأقدامهم على أولاد الله لكي يذلوهم ويحطموهم. لكنهم لا يدرون انهم وهم يدوسونهم بأرجلهم يتحول المؤمنون إلى طيب، والى خمر روحي مفرح.

ماذا يعنى بقوله: "داخل أسوارهم"؟ يود الأشرار أن يذلوا المؤمنين فيطأوا عليهم داخل أسوار المدينة أي يقتحمون مواضعهم، ويهينونهم في بيوتهم. لكن الله يحول المدينة إلى معصرة مقدسة ليشارك المؤمنون مسيحهم المصلوب، القائل: "اجتزت المعصرة وحدي" (إش 63: 3). يدوس الأشرار المعصرة فتفيض المعصرة بخمر يفرح قلب الله ويعتز به السمائيون، أما الأشرار فيخرجون من المعصرة في حالة عطش، لا ينالون شيئًا من عنفهم سوى الفراغ.

v     "يستريحون في منتصف النهار وسط أكوام (أجران) الظمئ إلى معصرة الخمر المُداس" [11]. كل الذين يضطهدون الكنيسة المقدسة، ماذا يفعلون، سوى أنهم يدوسون المعصرة؟ هذا يُسمح به خلال التدبير الإلهي لكي ما تفيض عناقيد النفس بالخمر الروحي بكونها تتجرد من الجسد الفاسد، فتجري في المواضع السماوية كما في إناءٍ. فبينما يدوس الأشرار على الأبرار، يكونون كمن يضعون عناقيد العنب تحت أقدامهم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لا يصير العنقود خمرًا، ولا حبة الزيتون زيتًا، ما لم يمر فوقهما حجر المعصرة.

v     لا ترجع النفس إلي الله إلا إذا انتزعت من العالم، ولا ينزعها بحق إلا التعب والألم.

القديس أغسطينوس

7. يظنون أن الله لا ينتبه!

مِنَ الْوَجَعِ أُنَاسٌ يَئِنُّون،

وَنَفْسُ الْجَرْحَى تَسْتَغِيثُ،

وَاللهُ لاَ يَنْتَبِهُ إِلَى الظُّلْمِ [12].

حتمًا يسمع الله أنات المتألمين واستغاثة الجرحى، لكنه إذ يحول شر الأشرار لخير المتألمين يبدو كمن لا ينتبه إلى الظلم. هذه هي مشاعرنا حين يتسلط الظلم ويجرح المؤمنين، فنحسب كأن الله مشغول عن كنيسته، ولا يهتم بجراحاتها وبالظلم الساقط عليها! ولعل أيوب يعنى هنا أنه بينما يئن المتألمون ويستغيث الجرحى إذا بالأشرار يسخرون بهم، ويتمادون في شرورهم، متطلعين إلى الله انه في سماواته لا يبالي بالظلم الذي يسقط على البشر، أيا كان هؤلاء!

جاء في ترجمة اليسوعيين: "وفي المدن أناس ينتحبون"، فلا يقف الظلم عند القرى بل يمتد أيضًا إلى المدن.

"الله لا ينتبه إلى الظلم"، أي لا يدينهم سريعًا، يل يتمهل عليهم لعلهم يتوبون راجعين إليه. يطيل أناته عليهم، وقد يتركهم طوال حياتهم على الأرض، ولا يفضح حماقتهم هنا، إلى أن تُطلب نفوسهم فيحسبون أغبياء وحمقى. وكما قيل للغنى قبيل طلب نفسه: "يا غبي، هذه الليلة تطلب نفسك منك" (لو 12: 20). وكما قيل عن الغني الذي يجمع مالاً من الظلم:" محصل الغنى بغير حق، في نصف أيامه يتركه، وفي أخرته يكون أحمق " (ار17: 11).

v     "إنهم يسببون للناس أن يتأوهوا من المدن[1047]" [12]. تُدعى المدن هكذا من الناس الذين يعيشون معًا، وهكذا فإن كنائس الإيمان الحقيقي ليست بطريقة غير لائقة يُعبر عنها بالمدن... فإن هذا الانسجام  بين الشعب الذي يحيا معًا، أقامه الرب في الأناجيل حتى حين ميٌز بين الأماكن، عندما أراد أن يشبع الشعب بخمسة أرغفة. لقد أمرهم أن يجلسوا خمسين خمسين أو مئة مئة في ترتيب متناسق. حتى يمكن لجموع المؤمنين أن يأخذوا طعامهم في أماكن منفصلة ولكن بإتحاد معًا... أما الهراطقة فغالبًا ما يحطمون الحياة المتحدة وانسجام الصالحين بالتصاقهم بأصحاب السلطة من أشرار هذا العالم، لهذا بحق قيل في هذا الموضع "يسببون للناس أن يتأوهوا من المدن".

"نفس الجريح تصرخ"... لأن نفس البار تُجرح عندما يهتز إيمان الضعيف... لكن الله لا يسمح له أن يعبر (الشرير) دون معاقبة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أُولَئِكَ يَكُونُونَ بَيْنَ الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى النُّورِ.

لاَ يَعْرِفُونَ طُرُقَهُ،

وَلاَ يَلْبَثُونَ فِي سُبُلِهِ [13].

إذ يظن الأشرار أن الله لا يبالى بمؤمنيه، ولا يتحرك أمام الظلم الساقط عليهم، يتمردون على الله، النور الحقيقي. وإذا بهم يفقدون البصيرة ويُصابون بالعمى، فلا يعرفون طرق الله، ولا يسلكون في سبله.

يرى البعض أن أولئك الذين يخطئون ضد نور الوصية الإلهية مع اعترافهم بأنهم يعرفون الله النور الحقيقي إلا أنهم متمردون على هذه المعرفة التي نالوها، إذ لا يريدون السلوك بموجبها.

ويفسر البعض[1048] هذه العبارة حرفيا. فبالرغم من أن لهم نور النهار إلا أنهم يختارون الليل اللائق بشرورهم، لهذا تدعى الشرور "أعمال الظلمة" (أف 5: 11)، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله، وأما من يعمل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة " (يو 3: 20- 21).

v     فإن هؤلاء الذين أولاً تمردوا وهم عارفون،صاروا بعد ذلك عميان، ولم يعودوا يعرفون، كما هو مكتوب: "لأنهم عندما عرفوا الله لم يمجدوه كإله، ولا كانوا شاكرين" (رو 21:1، 28). أُضيف عن هؤلاء بعد قليل: "أعطاهم الله ذهنًا مرفوضًا، ليفعلوا ما لا يليق". فلأنهم لم يريدوا أن يمجدوا ذاك الذي عرفوه أُعطوا إحساسًا بالرفض، وتُركوا لهذا المصير، أنهم لا يعودوا بعد يعرفون أن يقدروا الشرور التي فعلوها... الآن فإن أولئك الذين لا يبالون أن يفعلوا الأعمال الصالحة الواضحة لا يعودون ينالون الفهم لما هو أنقى.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     هكذا، إذ نظر الرب يسوع أحمال الخاطي الثقيلة بكى. لأنه لم يسمح للكنيسة وحدها فقط أن تبكي، بل نراه هو أيضًا يتحنن على حبيبه، ويقول للميت "هلم خارجًا" (يو 11: 43). بمعنى يا من كنت مطروحًا في ظلمة الضمير وأسر خطاياك وسجن إجرامك هلم خارجًا. أظهر خطاياك فتتبرر، لأن "الفم يعترف به للخلاص" (رو10: 10)...

لتهب لي يا رب أن تأتي إلى قبري، فتسكب الدموع عليّ، حيث جفت عيناي ولم تعودا قادرتين على سكب دموعٍ كهذه من أجل معاصي. إن بكيت يا رب عليّ (كما على لعازر) فسأُنقذ... أنت تدعوني من قبر جسدي هذا، قائلاً: "هلم خارجًا"، حتى لا يعود تفكيري ينحصر في حدود جسدي هذا الضيق، بل يخرج نحو المسيح ويحيا في النور، فلا أعود أفكر في أعمال الظلمة بل في أعمال النور[1049].

القديس أمبروسيوس

8. حلول الظلمة على الأشرار

مَعَ النُّورِ يَقُومُ الْقَاتِلُ.

يَقْتُلُ الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ،

وَفِي اللَّيْلِ يَكُونُ كَاللِّصِّ [14].

يقدم لنا أيوب ثلاثة أنواع من الأشرار الهاربين من النور: القاتل الذي وإن قتل في النهار يهرب من النور كاللص المختفي وسط الظلام.

والزاني الذي يترقب مجيء المساء ليمارس شره حاسبًا أن الظلمة تخفي شره عن أعين الناس، والذي ينقب البيوت، إذ يغلق على نفسه في النهار ويرى أن الليل يسهل عليه الهجوم على البيوت والهروب.

إذ يتمرد الشرير ويتحدى الله، فيقوم على المؤمنين ليقتلهم يكون كالقاتل الذي في جسارة يقتل علانية وسط النهار، مدركًا أنه ليس من يقدر أن يقف أمامه ويصده. يقتل المسكين والفقير، غير مبالٍ بأب الفقراء. إذ يفعل ذلك متحديًا الله النور الحقيقي، تحل به ظلمة أعماله الشريرة، فيكون كاللص الذي يعمل في ظلمة الليل. دُعي لصًا يعمل في الليل بعد أن كان قاتلاً جسورًا يقتل في وسط نور النهار. لأنه بعد أن يمارس الإنسان شروره بعنف بلا خوف حتى من الله، إذ بالخطية تسلبه قوته وشجاعته فيصير هزيلاً، ويخاف حتى من ظله، فيكون كلصٍ يخشى لئلا يمسكه أحد.

v     "وفي الليل كاللصٍ" [14]. فإنه في ليل تجاربه، بالرغم من أنه بلا قوة يُظهر يد القسوة. يشير على من يراهم أصحاب سلطة بمشورات شريرة، ويذهب هنا وهناك ويبحث بكل ما يستطيع أن يمارس الأضرار بالصالحين. بحق دُعي "كاللصٍ" لأنه في كل مشوراته الشريرة يخشى لئلا يمسك به أحد.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     عدونا حاذق يا عزيزي، ومحتال ذاك الذي يقاتلنا. يُعد نفسه للهجوم على الشجعان الظافرين، ليجعلهم ضعفاء. أما الواهون الذين له فلا يحاربهم، إذ هم مسبيون مُسلمون إليه.

من له جناحان يطير بهما عنه، فلا تبلغ إليه السهام التي يقذفها نحوه؟ يراه الروحيون يحارب، ولا يتسلط سلاحه على أجسادهم. لا يخافه كل أبناء النور، لأن الظلمة تهرب من أمام النور. أبناء الصالح لا يخشون الشرير، لأنه أعطاهم أن يطأوا عليه بأقدامهم (تك 3: 15)[1050].

القديس أفراهاط

وَعَيْنُ الزَّانِي تُلاَحِظُ الْعِشَاءَ.

يَقُولُ: لاَ تُرَاقِبُنِي عَيْنٌ.

فَيَجْعَلُ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ [15].

بعد أن شبه الشرير بالقاتل الذي يقتل في النهار، عاد فشبهه باللص الذي يخشى النور ويتسلل بالليل لئلا يمسك به أحد. الآن يشبهه بالزاني الذي يترقب مجيء الليل وحلول الظلام ليمارس شهواته بعيدًا عن مراقبة أي عين.

يمارس الزاني شره بالليل، حتى لا تراقبه عين، مخبئا وجهه لئلا يكتشفه زوج من يزنى معها فينتقم منه، إذ أن "الغيرة هي حمية الرجل، فلا يشفق في يوم الانتقام" (أم 6: 34- 35).

إنه يبذل كل الجهد ليخطط للزنا، حتى لا يراه أحد، لذلك يوصينا الرسول بولس: "البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد "(رو 13: 14).

يرى البابا غريغوريوس ( الكبير) أن الزاني يمارس العلاقة الجسدية بغش، فلا يطلب لنفسه أطفالاً، بل إشباعًا لشهواته الباطلة هكذا الهراطقة يغشون كلمة الله، فلا يطلبون نسلاً روحيًا، أولاد الله، بل إبراز بلاغتهم ومعرفتهم فيحسبون بالحق زناة!

v     "عين الزاني أيضًا تترقب انحدار النور قائلاً: لا تراني عين" [15]. لا يوجد شيء يعوقه. ليُفهم ذلك فيما بعد، متطلعين إلى أن الذي يريد أن يرتكب الزنا يطلب الظلام.

لكن إذ قيلت هذه العبارة ضد الهراطقة فمن اللائق أن يفهم هذا الأمر بمعنى سرٌي. يقول بولس: "فإننا لسنا كالكثيرين يغشون (يزينون adulterate) كلمة الله، (2 كو 17:2). فالزاني لا يطلب لنفسه نسلاً، بل يطلب اللذة في الجماع الجسدي، وهكذا كل إنسانٍ شريرٍ، ومن يُستعبد للمجد الباطل بحقٍ، يُقال إنه يزيف كلمة الله. لأنه لا يطلب أن يلد أولادًا لله بواسطة كلمة الإعلان المقدسة، بل يطلب إظهار معرفته. فمن ينجذب إلى الكلام خلال شهوة المجد يحتمل آلامه من أجل المظهر أكثر من إنجاب أطفالٍ.

بحقٍ أضاف هنا: "لا تراني عين"، لأن الزنا الذي يُرتكب في الداخل يصعب بحق جدًا أن تخترق إليه عين إنسانٍ. هذا ترتكبه (المرأة) المتجاسرة وهي مطمئنة جدًا فلا تخشى أن يراها بشرٍ بطريقة تجعله يحمر خجلاً.

علاوة على هذا، يلزم معرفة أنه كما أن من يرتكب الزنا يربط نفسه بجسد امرأة رجلٍ آخر بطريقة غير شرعية، هكذا كل الهراطقة، إذ يدفعون بنفس مؤمن إلى خطأهم، يكونون كمن يدفعون بزوجة آخر إلى هذا الطريق. النفس التي تزوجت روحيًا بالله واتحدت معه كما في حجال عرس الحب، عندما تُقاد إلى فساد التعاليم بإثارة الأشرار، تكون مثل زوجة آخر قد تدنست بالمفسد.

حسنًا قيل: "وينكر وجهه بقناعٍ". إذ يخفي الزاني وجهه لكي لا يُعرف. الآن كل إنسانٍ يحيا بالشر، سواء بالتفكير أو العمل، يُلبس وجهه قناعًا، لأنه إذ ينحدر إلى هذا بواسطة فساد التعليم أو فساد السلوك، لكي يتجنب أن يُعرف في الدينونة بواسطة الله القدير. لذلك سيقول الرب لمثل هؤلاء الأشخاص في النهاية: "إني لا أُعرفكم" اذهبوا عني يا فاعلي الشر" (مت 23:7). وما هو "وجه" القلب البشري سوى تشبهه على مثال الله؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لا تزعجنا أفكار هؤلاء الناس كثيرًا إذا ما تطلعنا إلى تصرفاتهم. إنهم يرفضون (الله) قاضيًا عليهم، هذا الذي لا يخدعه شيء. إنهم لا يقبلون أنه عالم بالخفيات، إذا يخشون أن تنكشف أمورهم الخفية بالنور. لكن إذ يعرف الرب أعمالهم يسلمهم للظلمة، قيل: "في الليل يكون كاللص، وعين الزاني تترقب الظلمة، يقول: لا تراقبني عين، فيجعل سترًا على وجهه[1051]" (أي 14:24- 15). فكل من يتجنب النور يحب الظلمة، طالبًا أن يختبئ، وإن كان لا يختفي عن الله الذي يعرف ليس فقط ما يجرى من الأمور بل ما هو في الفكر، ما في أعماق البشر وما في أذهانهم. جاء في ابن سيراخ: "من يراني؟ الظلمة حولي، والحيطان تسترني، ولا أحد يراني، فماذا أخشي؟ "(ابن سيراخ 18:23) فمع كونه راقدًا على فراشه يفكر هكذا، يُقبض عليه وهو غير متوقع (ابن سيراخ 21:23). قيل: "سيكون عارًا عليه، إذ لم يعرف مخافة الرب"[1052].

 القديس أمبروسيوس

v     الكبرياء يلد ارتدادًا، فالنفس تسير في الظلمة، وإذ تسيء استخدام حرية إرادتها تسقط في خطايا أخرى، تفسد كيانها مع الزناة، ذاك الذي خلق كرفيق للملائكة يصير حافظًا للخنزير[1053].

v     أيتها العروس أنه يعلم بنجاسة قلبكِ ودنس أفكاركِ، لهذا وهبكِ أن يصلب إنسانكِ العتيق معه فلا تعيشي بعد تحت سلطان الظلمة، بل في حرية أولاد الله[1054].

القديس أغسطينوس

يَنْقُبُونَ الْبُيُوتَ فِي الظَّلاَمِ.

فِي النَّهَارِ يُغْلِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

لاَ يَعْرِفُونَ النُّورَ [16].

بالليل يسهل الهجوم على البيوت، لذلك يطالبنا السيد المسيح بالسهر. "لو عرف رب البيت في أية ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته لينقب" (لو 12: 39).

ما هي البيوت التي ينقبها الأشرار إلا إنسانهم الداخلي، فإنهم وسط ظلمة الإرادة الشريرة يفسدون أذهانهم وقلوبهم وضمائرهم وأعماقهم ليحتل الشر مركز القيادة فيهم.

v     "في الظلام يحفرون ببيوتهم، هذه التي عيَّنوها لأنفسهم في النهار، إنهم لا يعرفون النور[1055]". بماذا يشير هنا بلقب "بيوت" إلا الضمائر التي نسكن فيها عندما نمارس شيئًا ما أو نشغل أنفسنا؟ لذلك يُقال لمن يُشفى: "ارجع إلى بيتك وأخبر بكم صنع معك الله من عجائب" (لو 39:8). بمعنى من الآن، تحفظ من عادة الخطية الشريرة، وارجع إلى ضميرك، واستخدم صوت الكرازة... هكذا "في الظلام يحفرون ببيوتهم"، إذ يسعون في أن يفسدوا أذهان الصالحين... الإنسان الشرير الذي يخشى من الإصلاح يصير في ظلمة الحزن.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لا يستطيع أحد أن ينير نفسه، فالنور كله يصدر من السماء، من "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" (يو15: 26). به نرى الابن الكلمة كما نرى الآب، بل به نرى حقيقة أنفسنا، إذ ينير بصيرتنا فنكشف ضعفنا ونشعر بحاجتنا إلى الخلاص. به يضيء لنا "إنارة إنجيل مجد المسيح... لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2كو 4: 4-6).

v     كما هو مكتوب: "بنورك نعاين النور"، أي باستنارة الروح القدس "النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آت إلى العالم... فيظهر مجد الابن الوحيد، ويهب معرفة الله للعابدين الحقيقيِّين.

v     منه قد صدر ذلك القول الذي من شفتيه العذبتين المخلصتين قائلاً: "لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى... لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة " (مت 9: 12-13). فأي عذر لكِ؟ أي عذر لأي إنسان ما دام الرب قال هذا؟ إنه يريد أن ينقِّيكِ من ضعفكِ ويُريكِ النور بعد الظلمة.

v     نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل. طوبى لمن يحمل هذا النور الذي يكشف الخطايا دون أن يخجل من ضمير قد لوثته الأعمال الشريرة... في يوم الدينونة. عندما يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب (1كو4: 5) فالخطاة أيضًا سيقومون للخزي والعار.. ينظرون في نفوسهم قبح الخطية وآثارها وهي أكثر فظاعة من ظلمة النار الأبدية، ويخجل الأشرار للأبد، إذ تُرسم أمام عيونهم آثار الخطية وقد تركت علامتها في جسدهم... مثل حفر لا يزول يتذكرونها على الدوام في داخل نفوسهم.

 القدِّيس باسيليوس الكبير

لأَنَّهُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ الصَّبَاحُ وَظِلُّ الْمَوْتِ.

لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَهْوَالَ ظِلِّ الْمَوْتِ [17].

جاءت الترجمة اليسوعية "لأن الصباح عليهم وظل الموت شيء واحد".

إشراق الشمس مع بدء النهار يرحب به الصديقون الذين يطلبون نور شمس البرّ، ويرحبون بعمل السيد المسيح في حياتهم. أما الأشرار فيزعجهم الصباح، ويلعنون الشمس لأنها تفضحهم، ليس فقط أمام الغير وإنما حتى أمام أعماقهم، فيعلمون أهوال ظل الموت، ويشعرون بالخزي. يرتبكون ويرتعبون ويحل بهم الخوف من الناس لا من الله، بل ويسيطر الفزع عليهم.

يود الأشرار ألا يحل الصباح، بل تبقى حياتهم ليلاً لا ينقطع، لأنها تتناغم مع ظلمة ضمائرهم. أما الصديقون فيتهللون بالصباح حتى يتمتعوا بنور شمس البرّ فيهم، وتصير حياتهم نورًا لا ينقطع تتناغم في أعماقهم الداخلية. يقول الرسول: "وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة" (1 تس 5: 5-6).

v     "إن ظهر الصباح فجأة يظنون أنه ظل الموت" [17]. فإن "الصباح" هو ذهن الإنسان البار الذي يزيل ظلمة خطاياه، فتتبدد بنور الأبدية. قيل بطريقة مشابهة عن الكنيسة المقدسة: "من هذه الطالعة كالصباح؟" (نش 10:6). بذات القياس كل شخصٍ بارٍ يشرق بنور البرّ هو في الوقت الحاضر يُبنى إلى أعالٍ مع كرامات. هكذا بنفس القياس يأتي ظلام الموت أمام عيون الأشرار، حتى أن الذين يتذكرون أنهم مارسوا أفعالاً شريرة يخشون لئلا يُصلح حالهم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     "مات الغني أيضًا ودفن" (لو 16: 22)... لا تمر ببساطه على هذه العبارة... يا حبيبي. فإن الموائد المطعمة بالفضة والأرائك والسجاجيد والملابس الفاخرة وغيرها من مختلف أنواع الرياش والزيوت المعطرة والأطياب والكميات الكبيرة من الخمور المعتقة وكميات الطعام الكبيرة وأدوات المائدة الفاخرة والمتملقين والحراس والخدم وكل مظاهر التفاخر والتباهي، تخبو وتذوي... كل الأشياء تراب ورماد، ألحان حزينة وحداد، لأنه لا أحد يستطيع تقديم العون بعد فوات الأوان، أو أن يسترجع النفس التي رحلت. عندئذ تختبر قوة الذهب والثراء الفاحش، فمن بين زحام الموجودين فإنه قد أخذ عاريًا وحيدًا ولم يستطع أن يأخذ معه أي شيءٍ من فيض غناه، لكنه أُخذ بدون رفيقٍ أو معينٍ، ولم يستطع أحد من هؤلاء الذين كانوا يخدمونه أن ينقذه من العقاب والمجازاة، لكنه رحل بعيدًا عن حاشيته، فقد أُخذ بعيدًا بمفرده ليتحمل العذاب الذي لا يطاق، "كل جسدٍ عشب وكل جمالهِ كزهر الحقل. يبس العشب ذبل الزهر لأن نفخة الرب هبَّت عليه. حقَّا الشعب عشب. يبس العشب ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (إش6:40-8).

حقًا أتى الموت وأخمد كل هذه الرفاهية واقتاده كأسير منكسر الرأس، يئن خزيًا لا يستطيع الكلام، يرتعد خائفًا وكأنما تمتعه بكل هذا الترف كان حلمًا[1056].

القديس يوحنا الذهبي الفم

9. رعب الأشرار

خَفِيفٌ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.

مَلْعُونٌ نَصِيبُهُمْ فِي الأَرْضِ.

لاَ يَتَوَجَّهُ إِلَى طَرِيقِ الْكُرُومِ [18].

بعد أن عرض الأشرار الذين يمارسون القتل والزنا والسرقة كأبناء ظلمة، يطلبون الليل ويخشون الصباح، ينتقل بنا أيوب إلى امتداد عملهم لا على الأرض كلها وإنما حتى في البحار. وكأن الأرض تصغر في أعينهم فينطلقوا إلى البحار.

 يرى البعض أن لصوص البحار يستخدمون سفنًا خفيفة على وجه المياه حتى يتمكنوا من الانطلاق بسرعة من قناة إلى أخرى، ومن الهجوم على سفينةٍ ليلحقوا بغيرها، فيسلبوا وينهبوا، أما العمل في الأرض خاصة فلاحة الأرض وغرس الكروم فمهنة مهينة لا تجلب منافع مثل السلب والنهب.

يمكننا أيضًا القول بأن أيوب يتطلع إلى الأشرار من قتله وزناة وناقبي بيوت أنهم يبدون كعتاة مرعبين، لكن في الواقع في ضعفٍ شديدٍ كمن يسلكون على وجه المياه كسفنٍ خفيفةٍ وسط رياح عاصفة وأمواجٍ عنيفةٍ. تلعنهم الأرض فلا يجدون لهم مأوى حتى تحت الكروم، فيهربون نحو البحار لعلهم يختفون، لكن العواصف تدمرهم. أما الصديقون فيكونون بركة على الأرض يسلكون في طريق الكروم، أي طريق الخمر الروحي الذي يملأ النفوس فرحًا وتهليلاً.

v     "إنه خفيف على وجه المياه" [18]... ذهن الشرير "أخف من سطح الماء"، حتى أن أية نفخة لتجربة ما تلمسه تجتذبه دون أي تأخير ومقاومة. فإن كنا نتصور القلب غير الثابت لأي إنسانٍ شرير، ماذا نكتشف فيه سوى سطح ماء في مواجهة ريح؟ ففي وقت ما تجتذبه أية نفخة غضب، وفي وقت آخر نسمة كبرياء، ونسمة شهوة وحسد وبطلان؛ كل هذه النفخات تدفعه وتحركه. هكذا إنه خفيف على سطح الماء، تسحبه كل ريح للخطأ أمامها حين يحل الخطأ....

"ليُلعن نصيبهم على الأرض، وليته لا يسير في طريق الكروم" [18]. من يفعل ما هو مستقيم في الحياة الحاضرة ويواجه مصائب، يُرى بالحقيقة أنه يتمخض في ضيقه، إنه كامل، ولكن من أجل الميراث الأبدي. أما من يفعل ما هو شر...، ولا يمسك نفسه عن الأعمال الشريرة من أجل فيض البركات (الزمنية) التي ينالها، فيُرى أنه بالحق في ترفٍ، لكنه مربوط برباط اللعنة الأبدية. لذلك يُقال هنا بحقٍ: "ليُلعن نصيبهم على الأرض"...

"طريق الكروم" هو استقامة الكنائس. لنفهم أن المبتدع أو أي إنسان جسداني يترك استقامة الكنائس أو طريق الكروم، عندما لا يتمسك بالإيمان المستقيم أو التدبير المستقيم للحي البار... لهذا فإن "السير في طريق الكروم" هو التمسك بآباء الكنيسة المقدسة مثل عناقيد كرمة معلقة حيث يسكر بكلماتهم في حب الأبدية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

الْقَحْطُ وَالْقَيْظُ يَذْهَبَانِ بِمِيَاهِ الثَّلْجِ،

كَذَا الْهَاوِيَةُ بِالَّذِينَ أَخْطَأُوا [19].

إذ يحاول الأشرار الهروب من لعنة الأرض لهم بالانطلاق إلى البحار يحاصرهم الهلاك هناك. فيكونون أشبه بقطع ثلج تذوب أمام القيظ والحر الشديد. إنهم يعانون من القحط الروحي، وينحدرون نحو الهاوية.

تَنْسَاهُ الرَّحِمُ يَسْتَحْلِيهِ الدُّودُ.

لاَ يُذْكَرُ بَعْدُ، وَيَنْكَسِرُ الأَثِيمُ كَشَجَرَةٍ [20].

" تنساه الرحم": يظن الشرير أن الكل يخشاه وأن الكل يذكره، لكن سرعان ما تنساه أمه التي ولدته.

حقًا لا تنسى الكنيسة كل البشرية، بل تئن من أجل كل نفسٍ تهلك. إنها تصرخ مع عريسها السماوي: "هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ" (إش 49: 15). ولكن من يصر على شره وعقوقه، لا تلزمه الكنيسة بالخلاص، وإنما بعزلة لنفسه من المسيح واهب الخلاص يسمع الصوت الإلهي: "إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت 7: 23) وتقول له الكنيسة إنها قد نسته، لا تعود تذكره!

" ويستحليه الدود" بمعنى أن الله لا يحكم عليه بالموت بتعليقه على الأسوار لتأكله طيور السماء أو بإلقائه لوحوش مفترسة، إنما يترك الشرير يموت ويدفن في القبر ويستعذبه الدود! إنه يموت كسائر البشر، يرقد في هدوء إلى أن يقف أمام الديان فيحكم عليه شره، ويكون مصيره مع إبليس وملائكته.

كانوا في القديم يعتقدون بأن الدود يوجد في الجلد وفي كل أجزاء الجسم، وأنه هو الذي يهلك الجسم.اقتبس روبرت Roberts في كتابه Oriental Illustrations عن عمل طبي هندي قديم أنه يوجد في أجزاء الجسم المختلفة 18 نوعًا من الدود. اعتاد المرضي في الهند أن يقولوا: "آه جسمي صار عشًا للدود، يتسلل في كل هيكلي". "هوذا الدود يأكل جسمي بلا توقف[1057]".

"لا يذكر لعبد، وينكسر الأثيم كشجرة "، بموته لا يعود له ذكرى، بل ينساه البشر، حاسبًا إياه كشجرةٍ انكسرت! بل وينساه الله إن صح التعبير - ليقول له في يوم الدينونة إنه لا يعرفه (لو 13: 27). لا يعود يذكره الله، أي لا يهبه مراحمه ونعمته، فيكون كمن هو منسي من الله.

v     ليته لا يكون له ذكرى، ليسحق مثل جذع غير مثمرٍ" [20]. من يبقى حتى نهاية حياته خاضعًا لعادات شريرة لا يُعود تكون له ذكرى لدى خالقه، أي ذكرى الأمور الهامة في الأعالي لمثل هذا الإنسان (الشرير) التي يمكن أن تجعله يرتد عن شره. إذ يدرك أنه مستحق أن يُمحى تمامًا من ذكرى خالقه.

لكن لنضع في الذهن أن الله لا يمكن أن يُقال عنه إنه "يتذكر" بطريقة دقيقة، فإن ذاك الذي لن يقدر أن ينسى، بأية كيفية، يمكنه أن يتذكر؟ إنما هذا هو طريقنا نحن أن نتذكر من نحتضنهم، وأن ننسى من نجعل أنفسنا بعيدين عنهم، فإنه يُقال عن الله أنه يذكر عندما يقدم هبات، وذلك باستخدام اللغة البشرية، وأنه ينسى عندما يهجر من هو في جريمة...

هكذا مكتـوب: "عينا الرب في كل موضعٍ، تنظران الأشرار والصالحين" (أم 3:15). ويقول المرتل: "وجه الرب على الذين يفعلون الشر، ويقطع ذكراهم من الأرض" (مز16:34). لهذا فهو يتطلع إلى الشخص الذي يعاقبه، لكنه يحسب أنه لا يعرف قبلاً هؤلاء الأشخاص. فسيقول للبعض في النهاية: "إني لست أعرفكم من أين أنتم. اذهبوا عني يا كل فاعلي الشر" (لو 27:13). هكذا يرى وينسى حياة الأشرار بطريقة عجيبة، بكونه يصدر حكمًا قاسيًا، وينسى ذكرى الرحمة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     قل لي واخبرني، إذا رأيت زعيم عصابة يجول الطرقات، ويكمن في مفارق الطرق للمارة، يسرق المزارع ويخفي الذهب والفضة في المغارات والشقوق، ويختزن المسروقات في مخابئ، ويقتني الكثير من الملابس والعبيد من السلب والسرقة، أخبرني هل تعتبر هذا الشخص سعيدًا بسبب ثروته وغناه، أو تعتبره تعيسًا بسبب القصاص الذي ينتظره؟ صحيح لم يُقبض عليه بعد، ولم يُسلم إلى القاضي، ولم يُلقَ في السجن، وليس عليه اتهام، وحقيقة أمره لم تُعرف ولم تنتشر بعد، ولكنه يأكل ويشرب بإسراف ويفرط في المتع الكثيرة، وبالرغم من ذلك فإننا لا نعتبره سعيدًا بسبب ما لديه من ممتلكات حالية واضحة، وإنما نعتبره بائسًا بسبب ما ينتظره من عذابٍ آتٍ.

يجب عليكم أن تفكروا بنفس الأسلوب عن هؤلاء الأغنياء الجشعين، فإنهم نوع من اللصوص، يكمنون في الطرقات، ويسرقون المارة، ويخفون خيراتهم في منازلهم كما في المغارات والشقوق. لهذا نحن لا نعتبرهم سعداء لما لديهم، ولكنهم تعساء لما ينتظرهم. وبسبب المحاكمة الرهيبة والحكم الإلهي الذي لا يرحم والظلمة الخارجية التي تنتظرهم.

صحيح غالبًا ما يهرب اللصوص من أيدي الناس، ومع من ذلك ومع معرفتنا بهذا نصلي من أجل أنفسنا ومن أجل أعدائنا لنتجنب تلك الحياة بغناها البغيض.

ولكن مع الله لا نستطيع قول ذلك، فسوف لا يهرب أحد من حكمه، وإنما كل الذين يعيشون بالسرقة والاحتيال سيجلبون على أنفسهم عقابًا أبديًا لا نهاية له، مثل هذا الغني (في مثل لعازر والغني).

يا أحبائي إذا استعدنا كل هذه الأفكار في أذهاننا لا نعود نعتبر السعيد هو الغني ولكن الصالح، ولا نعتبر أن البائس هو الفقير بل الشرير. "لا تأخذ بعين الاعتبار ما هو حاضر، بل ما هو آتٍ"[1058].

القديس يوحنا الذهبي الفم

10. لا تستقر عصاهم على الصديقين

يُسِيءُ إِلَى الْعَاقِرِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ،

وَلاَ يُحْسِنُ إِلَى الأرملة [21].

يعجز الشر عن أن يسيء إلى الأم الولود، وإنما يسيء إلى العاقر التي لم تلد وكما يعجز ألا يحسن إلى العروس المتهللة بعريسها لكن لا يحسن إلى الأرملة.

من هي العاقر هنا؟ ومن هي الأرملة ؟

النفس التي لا تتمتع بعمل نعمة الله، فلا تقدر أن تشهد لإنجيل المسيح، ويكون لها أبناء للرب تحسب عاقرًا. قيل عن الكنيسة إنه ليس فيها عقيم، بل الكل متئم (نش 4: 2؛ 6: 6). مثل هذه النفوس المثمرة بالروح القدس لن يقدر شرير ما أن يمسها، بل تتحول مقاومته وهجماته عليها إلى نصرات مستمرة، وتتمتع بأكاليل المجد.

ما يمارسه الشرير ضد العروس المتحدة بعريسها السماوي لا يًحسب إلا إحسانًا لها، إذ يزداد بالأكثر بهاؤها، وتنعم بشركة الصلب مع عريسها، أما التي تترمل بتركها عريسها كمن مات ولا وجود له في قلبها وفكرها، فإن الشرير لا يحسن إليها، بل يدمرها بشره.

يقدم أيضًا البابا غريغوريوس (الكبير) التفسير الرمزي التالي لهذه العبارة.

v     "إنه يطعم العاقر، والتي لا تحمل، ولا يفعل صلاحًا للأرملة[1059]" [21]. من هي هذه التي يُشار إليها بالعاقر، إلا الجسد الذي يطلب الزمنيات وحدها، إذ يعجز عن أن يلد أفكارًا صالحة؟ ومن التي تُحسب أرملة إلا النفس؟ فقد أراد الخالق أن يوٌحدها معه، جاء الزواج في حجال الرحم الجسدي، وكما يشهد المرتل قائلاً: "مثل العريس الخارج من حجاله" (مز 5:19).

بحق تُدعى أرملة حيث خضع بعلها للموت من أجلها، والآن يعيش في موضع آخر في السماء، مخفيًا عن عينيها. لهذا فإن الإنسان الشرير يقوت العاقر، ويحتقر عمل الخير للأرملة، لأنه لا يبالي بالنفس وبحياتها، بينما يطيع شهوات الجسد.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُمْسِكُ الأَعِزَّاءَ بِقُوَّتِهِ.

يَقُومُ فَلاَ يَأْمَنُ أَحَدٌ بِحَيَاتِهِ [22].

يرى أيوب أن الشرير في كبريائه واعتزازه بنفسه يُزعج حتى العظماء على الأرض، ويعجز أقوى الأقوياء عن أن يقفوا أمامه. وعندما يثور، ففي هياجه يبطش بكل من هم حوله، لا يأمن احد بحياته، وفي نفس الوقت لا يأمن هو نفسه بحياته، لأن "يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه" (تك 16: 12) [1060].

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الشرير هو الإنسان المبتدع الذي في كبرياء قلبه يظن أنه أبرع من الكل، محتقرًا الآخرين. إنه ينتفخ بعلمه ومعرفته، مع أن معرفته غير صادقة، لأن كل ما يشغله هو مجده الذاتي وكرامته. لهذا كما يقول الرسول بولس: "اختار الله ضعفاء العالم ليخزى بهم الأقوياء" (1 كو 1: 27).

v     يقول يوحنا: "من يقول إنه يعرف الله ولا يحفظ وصاياه فهو كاذب" (1 يو 4:2). وهكذا يقول بولس: "يظنون أنهم يعرفون الله، لكنهم بالأعمال ينكرونه" (تي 6:1). وهكذا يقول يعقوب: "إيمان بدون أعمال ميت" (يع 20:2، 26).

البابا غريغوريوس (الكبير)

يُعْطِيهِ طُمَأْنِينَةً فَيَتَوَكَّلُ،

وَلَكِنْ عَيْنَيه عَلَى طُرُقِهِمْ [23].

مع ما يسببه الشرير من متاعب حتى للأعزاء يحطم نفسه، يمد يده على الغير، وهم يمدون أياديهم عليه. مع هذا يطيل الله أناته عليه، فيسمح له مع غطرسته أن ينجح في هذا العالم، ويعيش في رخاءٍ وراحةٍ وقتيةٍ، بل وتنتهي حياته بسلام، كما حدث مع إسماعيل المتسم بالعنف، فقد عاش ومات أمام جميع إخوته (تك 16: 12؛ 25: 18). هنا يقول أيوب: "يعطيه طمأنينة فيتوكل" (23). يبدو كمن هو تحت حماية خاصة من العناية الإلهية، حتى يدهش الإنسان كيف يعيش الشرير في العالم ناجحًا، وكيف ينجو حتى من الأخطار الكثيرة التي يسببها لنفسه.

إذ يطيل الله أناته على الشرير، يستغل هذا الموقف، فيظن أنه لن يمسه ضرر، فيتواكل. "لأن القضاء على أعمالهم الرديئة لا يجري سريعًا" (جا 8: 11). يظنون أن الله لا يبالي بشرورهم، ولن يدعوهم للدينونة. نجاحه وسلامته الزمنية تجعله متواكلاً.

يظن الشرير انه محبوب لدى الله، أفضل من جميع الذين على الأرض، وأنه موضوع رعايته الإلهية بسبب برِّه الذاتي.

تخطئ عينا الشرير النظر، إذ ترى أن حياته الشريرة هي طريق الحق، فيزداد كبرياءً وتشامخًا، وإذ بعيني الرب على طريق الشرير، مشتاقًا أن يتخلى الشرير عن كبرياء قلبه، ويسلك طريق الصليب في تواضعٍ.

v     يقول بولس: "أما تعلم أن طول أناة الله إنما تقتادك إلى التوبة؟ ولكن بسبب قساوة قلبك غير التائب تذخر غضبًا لنفسك في يـوم الغضب، وإعلان حـكم الله العادل" (رو 4:2-5)...

"لأن عينيه على طرقه"، إذ يهتم الخاطي بطرقه، ويعتمد على ذهنه وحده، تتطلع عيناه إلى الأمور النافعة له مؤقتًا فقط. أظهر (السيد المسيح) الحق لأعين الذين تبعوا هذه الطرق، إذ طلب من قلوب تلاميذه المنتفخة أن تطلب المجد الحقيقي... قائلاً: "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا؟"... وهكذا قُدمت كأس الآلام أمام أعينهم كأمرٍ يقتدون به، حتى يجدوا أولاً طريق التواضع، إن كانوا يطلبون مباهج العظمة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يَتَرَفَّعُونَ قَلِيلاً ثُمَّ لاَ يَكُونُونَ،

وَيُحَطُّون.

كَالْكُلِّ يُجْمَعُونَ،

وَكَرَأْسِ السُّنْبُلَةِ يُقْطَعُونَ [24].

يبدو الأشرار كأنهم محبوبون من السماء، ويظنون أنهم رُفعوا في كرامة، ليس من خطرٍ يلحق بهم، وإذا بهم ينهارون فيكونون كمن هم غير موجودين. ينحط كبرياؤهم ويوضع في التراب، ويحل بهم الموت كجميع البشر، يُقطعون كسنبلةٍ، فتزول كل كرامة باطلة.

v     "يتمجدون إلى حين، لكنهم لا يستمرون" [24]. مجد الأشرار، وإن استمر إلى عدة سنوات، تحسبه أذهان الضعفاء أنه يستمر طويلاً وأنه مستقر. ولكن إذ يزول في نهاية مفاجئة، يبرهن بطريقة واضحة أنه يستمر لمدةٍ قصيرةٍ... للمجد  (الزمني) حد يجعل منه مجدًا زائلاً وتافهًا.

تمجيد الإنسان لذاته يعجز عن الاستمرارية، لأنه ينفصل عن الأساس المتين للجوهر الأبدي، ويسقط تحت دمار، لأنه بتمجيد الذات يسقط في ذاته، يقول المرتل: "تطرحهم عندما يرتفعون" (مز 18:73)، إذ يسقطون في الداخل... يقول مرة أخرى: "إنه إلى لحظات، فلا يكون الشرير بعد" (مز 10:37). لهذا يقول يعقوب: "ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلاً" (يع 14:4). لذلك إذ يعبِّر النبي على قصر مدة المجد الجسدي يقول: "كل جسدٍ هو عشب، وكل جماله كزهر القش" (إش 6:40)...

"مثل نهاية سنابل الحنطة يُسحقون". بالتأكيد تشامخ المتكبرين يتحطم تحت ضغط الغربلة النهائية، بينما حياة المختارين تتمجد.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     سأل أخٌ أنبا بامو: ”لماذا تعوِّقني الشياطين عن عمل الخير للقريب“؟ فقال له: ”لا تقل هكذا وإلاّ فأنت تكذِّب الله. فأحرى بك أن تقول: إنني أرفض بالكلية أن أصنع الرحمة، لأنّ الله سبق قبل اعتراضك هذا أن قال: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19)، فلماذا إذن لا تسحق أنت أيضًا الأرواح النجسة؟"

بستان الرهبان

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا فَمَنْ يُكَذِّبُنِي،

وَيَجْعَلُ كَلاَمِي لاَ شَيْئًا؟ [25].

يختم أيوب حديثه بتحدٍ جريءٍ لكل من هم حوله، ليكذبوا ما قاله إن استطاعوا.

v     الإنسان البار حتى وإن نطق بشيءٍ ما خطأ، فإنه أبعد ما يكون عن أن يدينه الأشرار السالكون في حياة شريرة... فإن هؤلاء الأشخاص الذين لا يزالون يعيشون على مبادئ مخادعة يفقدون الجرأة أن يوبخوا الخداع.

البابا غريغوريوس (الكبير)


من وحي أيوب 24

أسقط في يدّ الله ولا أسقط في يد إنسان!

 

v     السقوط في يد القدير أفضل من السقوط في يد الإنسان.

الإنسان مع ضعفه وعجزه وعدم إدراكه للأزمنة،

يقسو على أخيه الإنسان.

والله مع قدرته ومعرفته لأسرار القلب وإدراكه للأزمنة،

مملوء حنوًا نحو ضعفنا!

أسقط في يديك، يا أيها الديان العجيب،

ولا أسقط في يد إنسانٍ، يشاركني ضعفي وعجزي!

 

v     لست أدين إخوتي على قسوتهم عليّ،

فأنا بدوري أقسو على زميلي في البشرية.

أنا معه تحت الحكم عينه،

في غباوتي أُسقط خطاياي عليه عوض الترفق به.

 

v     أنت الديان تترفق بي، لتسند ضعفي.

وأخي، شريكي في الضعف، يسلبني إنسانيتي،

يقتحم حياتي، لا يسلب مما لي، بل يسلب كياني!

 

v     أنت لا تتحمل دموعي، يا أيها القدوس،

وأخي يرى دموعي، فينسب لي الخداع وعدم الاستقامة.

يجول حولي بلا ضابط،

لا ليُصلح، بل ليظلم ويحطم أعماقي.

        

v     خلقت العالم ليكون أيقونة السماء،

لكن دخل الفساد إلينا، فصار العالم الجميل قانونه الظلم.

حلّ الجور في حياتنا البشرية، عوض العدل الممزوج حبًا.

تحولت ساحات العدل إلى مراكز للفساد.

وفي طول أناتك تنتظر رجوعًا إلى الحق الإلهي.

 

v     لست أخاف من ظلم الإنسان لي،

لكني أخشى ظلمي لأخي الإنسان.

فإنه يلجأ إليك وتصرخ أعماقه إليك ضدي،

ما أفعله لأخي يرتد إليّ بكيلٍ ملبدٍ مهزوزٍ.

أنزع عني العنف والقسوة والظلم،

حتى أستطيع الدخول معك في عهد أبدي.

هب لي الحنو مع من أقودهم،

فاحمل روح الرعاية الحانية.

 

v     أعماقي تصرخ، فكل ما فعلته بإخوتي كامن فيها،

من ينفذني من شروري سواك؟

انزعه من مخازن قلبي، وليحل برّك فيّ.

انزعه من أعماقي، فتصير هيكلاً مقدسًا لك.

أزله عني، فمحصلته خداعًا وهباءً لا قيمة له.

أزله، فإني لا أحتمل غضبك، يا أيها البار، مبغض الظلم!

 

v     إلهي، نعمتك تنزع عيني وعن اخوتي روح الظلم.

بدون نعمتك يفقد الإنسان الحنو الداخلي.

يبرر لنفسه سلب الأيتام والأرامل.

يصير كوحشٍ، يفترس الفقراء والمساكين.

يحسب العالم كله ملكًا له ولنسله.

يسلب وينهب بلا رادعٍ.

لا يبالي بآلام إخوته، ولا يعطي بالاً لدموعهم.

يخطف اليتيم من ثدي أمه،

ويأسر المسكين، ويحسبه عبدًا له.

يظن أنه ليس من قانون يردعه،

ولا من إلهٍ يدينه!

يعشق الظلمة، ليقتل ويسرق ويزني،

حاسبًا أنه ليس من يرى، ولا من يحاسب.

 

v     مسكين هو هذا الظالم.

يطيل الله أناته عليه لعله يرجع ويتوب.

تسقط عليه اللعنة،

يصير في مجاعةٍ داخليةٍ وقحطٍ.

تتهيأ له الهاوية لتبتلعه.

يحسبه الدود وليمة شهية.

يزول ذكره من العالم وينكسر كشجرةٍ من جذورها.

في وسط غناه وكبريائه يسقط.

 

v     احفظني يا رب فيك، فلا أمارس الظلم،

ولا أخشى ظلم الناس لي، فأنت هو ملجأي الوحيد.

 [1028] Matthew Henry Commentary.

[1029] On Ps 62.

[1030] On Ps 72.

[1031] On Ps. 140.

[1032] On Ps 140.

[1033] الدسقوليّة، باب 14.

[1034] Epistle to Philippians, Ch. 6:1.

[1035] On The Duties of the Clergy, 2: 28: 149.

[1036] On Ps. 10.

[1037] لعازر والغني، عظة 2.

[1038] On Ps. 54.

[1039] On Ps 73.

[1040] التزمت بالنصوص الواردة في كتابات البابا غريغوريوس كما هي.

[1041] Comm on the Song of the Songs, 3:4. PG 33:179.

[1042] Henri De Lubac: Origen, On First Principles, NY., 1966 (Koetschau text together with an introduction and notes by G.W. Butterworth, p. XIV

[1043] التزمت بالنصوص الواردة في كتابات البابا غريغوريوس كما هي.

[1044] Paschal Letters,1.

[1045] Paschal Letters, 4: 3.

[1046] مقالاته لطالبي العماد: مقال افتتاحي.

[1047] التزمت بالنصوص الواردة في كتابات البابا غريغوريوس كما هي.

[1048] Matthew Henry: Commentary on Job.

[1049] On Repentance, Book 2.

[1050] Demonstrations, 6: 2 (of Monks).

[1051] التزمت بالنصوص الواردة في كتابات القديس كما هي.

[1052] Duties of the Clergy, 1:14:54.

[1053] Robert Llewelyn, The Joy of the Saints, Spiritual Readings throughout the Year, Springfield, Illinois, 1989, p. 70.

[1054] On Continence.

[1055] Duties of the Clergy, 1:14:54.

[1056] لعازر والغني، عظة 2.

[1057] James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, Logos International Plainfield. N J, 1972, p. 213.

[1058] لعازر والغني، عظة 1.

[1059] Duties of the Clergy, 1:14:54.

[1060] Matthew Henry: Commentary on Job.