الأصحاح الثالث والعشرون

الرب راعينا وبرنا

في الأصحاح السابق تحدث إرميا النبي عن أبناء الملك يوشيا الأشرار: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين، وجاء التأديب الإلهي أن يكون الأخير عقيمًا، ليس من نسله من يجلس على كرسي داود ملكًا (22: 30)، وكأن مملكة يهوذا تفقد رعاية الملوك. أما في هذا الأصحاح فإنه يوبخ الرعاة الأنانيين والأنبياء الكذبة وكل القيادات الفاسدة، ليعلن أن الله يتسلم رعاية شعبه بنفسه. إنه لا يترك شعبه، بل يقوم بالعمل الرعوي، مقدمًا بره الإلهي برًا لهم، منطلقًا بهم إلى خروجٍ جديدٍ فائق.

v     نبوات مملوءة رجاءً

1. ويل للرعاة الأنانيين[1-2].

2. أنا أرعى غنمي[3-4].

3. الرب برنا[5-6].

4. خروج جديد [7-8].

5. نبوات ضد الأنبياء الكذبة[9-40].

نبوات مملوءة رجاءً:

في وسط التهديدات القاسية، حيث حان وقت التنفيذ يفتح الله أبواب الرجاء، مقدمًا ثلاث نبوات تحققت قديمًا على مستوى حرفي بتحرير الشعب وعتقه من السبي، وتحققت بصورة فائقة في كنيسة العهد الجديد. هذه النبوات الثلاث هي:

أولاً: إن كان الله يبيد الرعاة الأشرار الأنانيين، فإنه لا يترك شعبه بلا راعٍ أو ملك أو قادة، بل يملك بنفسه عليهم، ويتولى شئونهم كراعٍ صالح يبذل ذاته عن شعبه. وخلال رعيته يقيم رعاة حسب قلبه، يعمل بهم وفيهم بروحه القدوس.

ثانيًا: إن كان الله يدين الشعب مع القيادات على رجاساتهم، فإنه يقدم بره برًا لهم، يصير الرب نفسه بر شعبه، يسترهم فيه، ويغفر خطاياهم، ويبررهم، مقدسًا إياهم كأبناء له!

ثالثًا: إن كان الله قد قدّس بابل لتحطيمهم، وكان ذلك ضروريا لتأديبهم، فإنه يتركهم إلى سنوات حتى يدركوا فشل كل ذراعٍ بشري اتكلوا عليه، ليقوم هو بنفسه بقيادتهم في خروجٍ جديدٍ أعظم من خروجهم من عبودية فرعون!

1. ويل للرعاة الأنانيين:

في الأصحاح السابق كشف إرميا، بأمرٍ إلهي، أخطاء ملوك يهوذا التي تتلخص في الآتي:

v     أنانيتهم على حساب علاقتهم بالله وشعبه.

v     اهتمامهم بالترف والحياة المدلّلة وسط الظروف القاسية التي عانى منها الشعب.

v     الكبرياء والتشامخ، كأنهم فوق كل قانون، لا يخضعوا حتى لشريعة الله.

v     الظلم، إذ كانوا طغاة، لا ينصفون حق الأرملة واليتيم والغريب والمظلوم.

v     اتكالهم على الذراع البشري، أي على الأمم التي تحالفوا معها، وعلى آلهتهم... لهذا قيل عن يهوياكين الذي أُسر إلى بابل: "(يكون) عقيمًا، رجلاً لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" (22: 20).

الآن يتحدث بصفة عامة عن القيادات السياسية خاصة في أيام صدقيا الملك التي أفسدت الشعب عوض رعايتهم والاهتمام بهم:

"ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي يقول الرب.

لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن الرعاة الذين يرعون شعبي:

أنتم بددتم غنمي وطردتموها ولم تتعهدوها.

هأنذا أعاقبكم على شر أعمالكم يقول الرب" [1-2].

تطلع إرميا النبي إلى الشعب بروح النبوة، ونظرهم يُقادون في مذلة إلى السبي. لقد اشترك الشعب مع الملك ورجاله في الشر، لذلك استحقوا التأديب؛ لكن الله يلقي باللوم أولاً وقبل كل شيء على القيادات التي تحولت من موقف الرعاية إلى التبديد والطرد.

سمح الله بالسبي، بل وقدس بابل بكل طاقاتها كآلات في يده لأسر شعبه، وفي نفس الوقت فتح باب الرجاء لشعبه، وأعلن حنوه عليهم، مكررًا التعبير "غنم رعيتي"، "شعبي"، "غنمي".

جاءت الكلمة العبرية في قوله: "لم تتعهدوها" paqad، تحمل معني واسعًا، مثل "يتعهد"، "يذهب لينظر"، "يهتم بـ"، "يشتاق إلى"، "يضع في اعتباره"، "يصغي إلى" الخ[474]. هكذا كان يليق بالرعاة أن تُمتص كل مشاعرهم وأفكارهم وطاقاتهم في شعبهم، فيصغون إليهم، ويهتمون بهم، ويشتاقون إليهم، ويبذلون حياتهم من أجلهم.

2. أنا أرعى غنمي:

الله الذي سمح بالتأديب الحازم لشعبه يلاطف ويتحنن، ويقيم رعاة من عنده يهتمون بهم.

"وأنا أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها،

وأردها إلى مرابضها،

فتثمر وتكثر.

وأقيم عليها رعاة يرعونها،

فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [3-4].

بينما يلقي باللوم على الرعاة الأشرار، خاصة الملوك، بكونهم بددوا غنمه وطردوها [2]، إذا به يقول هنا "الأراضي التي طردتهم إليها" [3]، فمن الذي قام بالطرد: الرعاة الأشرار أم الله؟

لقد سمح الله بطردهم كثمرة طبيعية لشر الرعاة وفسادهم. علة الطرد هم "الرعاة"، والذي قام بالطرد هو الرب كتأديب لازم لخلاصهم.

يؤكد الله هنا رعايته لشعبه بنفسه، كما سبق فأعلن جدعون: "لا أتسلط أنا عليكم، ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم" (قض 8: 23).

وترنم داود النبي متهللاً عندما أدرك رعاية الله له، ولشعبه، إذ قال بلسان الشعب كله: "الرب راعيّ، فلا يعوزني شيء... " (مز 23)، وأكد الرب رعايته لشعبه بنفسه في (حز 34: 1-16؛ ميخا 2: 12؛ إش 40: 11، يو 10: 1-18). خلال هذه الرعاية يتمتع الشعب بالبركات التالية:

أولاً: عودة بقية الشعب من الأراضي التي طُردوا إليها. وهنا نلاحظ أمرين:

أ. يجمع البقية الباقية من غنمه. ففي كل جيل توجد بقية قليلة أمينة للرب، سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعلٍ (رو 11: 4). هذه البقية يعمل بها ما هو أعظم مما فعله بالشعب كله! الله لا يهمه العدد، لكنه يطلب الخميرة الباقية المقدسة ليخمر بها العالم!

جاء وقت لم يكن في العالم كله بقية باقية لحساب الرب سوى إبراهيم وربما معه سارة زوجته، نالا المواعيد، ومن خلالهما تباركت كل الشعوب والأمم.

تحدث إرميا النبي عن البقية التي يود الله خلاصها (أصحاحات 24؛ 40-44)، وأيضًا إشعياء النبي (1: 9؛ 37: 4)؛ وميخا (4: 7؛ 7: 18).

يقول إشعياء النبي: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" (1: 9). وتحدث السيد المسيح عن هذه البقية الصغيرة الأمينة بكونها القطيع الصغير الذي يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1). كما تحدث عنها بكونها الخميرة الصغيرة التي تخمر العجين كله (مت 13: 33؛ لو 13: 21). هذه البقية المختارة التي لأجلها يقصر الله أيام ضد المسيح (مت 24: 22).

v     أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بتراخي الكثيرين.

عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله، لأن كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون (مت 20: 16)[475].

القديس يوحنا كاسيان

وتحدث معلمنا بولس الرسول عن القلة القليلة من اليهود التي تقبل السيد المسيح في أواخر الأيام (رو 11: 25-32).

ب. العودة إلى مرابض الغنم الآمنة من الأراضي التي طردوا إليها، فإنه إذ طُرد آدم وحواء من الفردوس كان الله يُعد لهما فردوسًا أعظم خلال ذبيحة آدم الثاني.

تمر علينا لحظات فيها نظن أننا لا نتمتع بالمواعيد الإلهية، وأننا محرومون من كل شيء حتى من المرابض التي وهبنا الله إياها، لكن يبقى الله عاملاً، ليجمعنا معًا من أقاصي المسكونة، فنجد راحة في حضن الآب.

ثانيًا: "فتثمر وتكثر": هذا هو مفتاح الأصحاح كله. فقد قُدم هذا الوعد لآدم وحواء في الفردوس، كما قُدم لإبراهيم ويعقوب اللذين من صلبهما جاء شعب الله... ماذا يعني هذا؟

أُعطي هذا الوعد الإلهي لآدم وحواء كثمرة ميثاق حب متبادل بين الله والإنسان، وتأكد الوعد من جديد حين دخل إبراهيم كأب المؤمنين في ميثاق جديد، وهكذا يبقى هذا الوعد ساريًا لكل من يقبل شروط الميثاق. ما قد حدث في أيام إرميا النبي هو أن القيادات السياسية، خاصة الملك، مع القيادات الدينية التي كادت تفقد كيانها الواقعي، وأيضًا الشعب قد كسروا الميثاق، ورفضوا العهد الإلهي، فصار عوض الوعد: "فتثمر وتكثر" الحكم الإلهي بالدمار والخراب.

تعلق اليهود في ذلك  الحين بآلهة الوثنيين الخاصة بالخصوبة، ظانين أن الارتباط بها يفيض عليهم بالخصوبة بالنسبة للبشر والبهائم وأيضًا النباتات، فإذا بهم يفقدون كل بركة، ويصدر الحكم "(تكون) عقيمًا" (22: 20).

الآن من يرد لهم الإثمار والإكثار؟ رعاية الله نفسه، إذ يتقدم السيد المسيح، كلمة الله، بصليبه ليسجل عهدًا جديدًا يوقعه بدمه نائبًا عنا، فيه نُحسب أبناء العهد، لنا روح الطاعة للآب... فننعم بالوعد الإلهي: "فتثمر وتكثر". لقد أثمر القديس بولس البتول باتحاده بالسيد المسيح، فصار له بنون كثيرون، ولدهم في قيوده بالإنجيل (1 كو 4: 15؛ فل 10)، يشاركونه المجد الأبدي والميراث السماوي.

ثالثًا: مع تأكيده رعايته الشخصية لغنمه يقول: "وأقيم عليها رعاة يرعونها" [4]. إن كان قد ألقي باللوم على الرعاة الأشرار الذين عوض رعايتهم للشعب بددوهم، فإن الشعب أيضًا هو المسئول. إنهم إذ يسلكون في العصيان بإصرار يرسل الله رعاة حسب قلبهم، فإن رجعوا بالتوبة إليه يرسل لهم رعاة يرعونهم ولا يبددونهم. إنه يوجد تأثير متبادل بين الشعب والرعاة.

رابعًا: إذ يستلم الله رعاية شعبه بنفسه، ويعمل أيضًا خلال رعاة يقيمهم للرعاية لا للتبديد، ينتزع عن الشعب الخوف والرعدة ولا يعودوا يُفقدون: "فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [4].

3. الرب برنا:

إذ وعد بإقامة رعاة من عنده يعلن عن رعايته الشخصية لشعبه التي تحققت بمجيء المسيا، كلمة الله، الراعي الصالح.

"ها أيام (بالتأكيد) تأتي يقول الرب،

وأُقيم لداود غُصن بر،

فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض.

في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا،

وهذا هو اسمه الذي يدعونه به:

الرب برّنا" [5-6].

يتحدث عن الملك الذي طالما ترقبه رجال الله في العهد القديم، المسيا، ابن داود! يتحدث إرميا النبي هنا عن شخص الملك وسماته ودوره واسمه.

قوله: "ها أيام تأتي" [5، 7] تعبير شائع لا يعني تحديد زمنٍ معين، إنما هو تعبير يشد الإنتباه إلى إعلان له قدسيته وأهميته (7: 32، 9: 25، 31: 31 الخ)[476].

أولاً: يدعوه "غصن بر" [5].

دُعي السيد المسيح غصنًا سبع مرات في العهد القديم وقد قدمت هذه النصوص السيد المسيح كما قدمته الأناجيل الأربعة:

v     المسيح الملك (إنجيل متى): (إش 11: 1، إر 23: 5، 33: 15).

v     المسيح الخادم والعبد (إنجيل مرقس): (زك 3: 8) .

v     المسيح الصديق والإنسان (إنجيل لوقا): (إش 53: 1-2؛ زك 6: 12).

v     المسيح ابن الله الممجد ( إنجيل يوحنا): (إش 4: 2) .

دُعي السيد المسيح بالغصن للسببين التاليين:

أ. لأن الغصن مرتبط بالأصل، فمع أنه رب داود لكنه من نسله، مرتبط به حسب الجسد.

ب. صار بالحقيقة إنسانًا ينمو كالغصن.

أُستخدم هذا اللقب "الغصن" في مجتمع قمران ليشير إلى المسيا الملك[477]. وقد أُدخل إلى الصلاة اليهودية التي تُدعىEsreh  Shemoneh (الثمانية عشر بركة):

[ليبرز غصن داود عبدك سريعًا، وليتمجد قرنه بخلاصك[478]].

 في سفر إشعياء حُسب السيد المسيح كقضيب وغصن من يسى الذي عاش ومات قليل الشأن، قائلاً: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدًا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقيران للغاية. بينما يتحدث في الأصحاح السابق عن ملوك يهوذا كأشجار لبنان الشامخة، إذا به يتحدث عن السيد المسيح، الملك المخلص، كغصنٍ متواضعٍ، لكنه "غصن بر". أراد بإتضاعه أن يسحق الكبرياء محطم البشرية، وكما تقول عنه الكنيسة في جمعة الصلبوت: "أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة".

ثانيًا: ملك ليخلص، ملك الرب بالصليب، لا ليسيطر، بل ليهبنا غفرانًا لخطايانا وشركة في الميراث الأبدي. على خلاف ملوك يهوذا في ذلك الحين الذين كانوا يملكون ليبددوا ويهلكوا، إذ يطلبون ما لنفسهم لا ما لشعبهم، فخسروا أنفسهم وشعبهم معًا!

بقوله: "يملك ملك (بحكمة)" [5]. يعلن أن المسيا القادم هو ملك حقيقي يملك على القلوب، وليس كصدقيا الذي كان كدُمية يحركها الأنبياء الكذبة[479].

ثالثًا: ينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض. إذ تصير قلوبنا أرضه المقدسة، يملك عليها ليحقق فيها الحق الإلهي والعدل. ظن ملوك اليهود أنهم ناجحون، لكن إذ أقاموا مملكتهم بغير حقٍ ولا عدلٍ انتهت بالفشل، أما مسيحنا فينجح إذ يقيم مملكته في أعماقنا الداخلية، لا يقدر عدو أن يتسلل إليها.

جاءت الكلمة hiskil لتعني "ينجح" أو "يعمل بحكمة"، فملكنا المسيح قدم لنا حكمة  الصليب التي رآها اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 1: 2-25). أما نحن المخلصون فنرى في الصليب حكمة الله الفائقة إذ هو "قوة الله" (1 كو 1: 18).

رابعًا: يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا.

لقد وعدهم الأنبياء الكذبة بالسلام، لكنهم هم أنفسهم فقدوا سلامهم، أما الراعي الجديد، فهو ملك السلام، يدخل بنا إلى مملكته، إسرائيل الجديد، فنجد سلامًا وأمانًا فيه.

خامسا: يدعى اسمه: "الرب برنا" Yahweh-sidqenn.

أقام البابليون صدقيا ملكًا، لكنه أظهر أنه غير مستحق لهذا الاسم، لأن كلمة صدقيا Sidqi-yahu تعني "برى هو الله". فكان لزامًا أن يُطرد من المُلك ليقوم مكانه ملك جديد، لا يقيمه البابليون، ولا يأتي بذراعٍ بشري، وإنما بخطة إلهية هيأ لها الله عبر الأجيال، خلالها يقدم الملك المسيا بره الإلهي برًا لنا، فنترنم بحق ونحن ننعم برعايته، قائلين: "الرب برنا". نردد مع الرسول بولس: "لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه، ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداءً" (1 كو 1: 29-30).

خلال رعاية السيد المسيح، كلمة الله، نصير كاللاويين والكهنة، ليس لنا نصيب في أرض الميراث، بل يكون الرب نفسه نصيبنا وميراثنا، ننعم به بكونه الحكمة والبر والسلام والفداء، نحمله فينا، ونختفي فيه. يعلن مجده في أعماقنا ويستر ضعفاتنا بدمه الثمين، فنتبرر في عيني الآب، ونحسب حكماء وأبرارًا وقديسين ومفديين!

 في جراءة إرميا النبي نرفض صدقيا الذي ملَّكه البابليون علينا، ونقبل صدقيا الجديد الذي أقامه الآب، والذي نزل إلينا بحبه الفائق يحمل ثقل خطايانا ويهبنا بره. لنرفض البر ذاتي (صدقيا القديم) ونحمل بر المسيح (صدقيا الجديد).

ويلاحظ في الآيتين [5، 6] يتحدث عن شخص المسيح الملك ورعايته الفائقة دون فصل بينهما، فمن لا يتعرف على شخص المسيا لا ينعم برعايته، ومن لا يقبل رعايته لا يدرك أسرار معرفته. إنه إذ يعلن عن ذاته ويكشف عن شخصه إنما يقدم لنا عملاً رعويًا، نقتنيه فنشبع ولا نعتاز إلى شيء!

v     كما تفصلنا خطايانا عنه، هكذا يجتذبنا برّنا مقتربين إليه. قيل: "وأنت بعد تتكلم أقول: هأنذا" (انظر إش 58: 9؛ 65: 24)[480].

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. خروج جديد:

"ها أيام تأتي (بالتأكيد) يقول الرب،

ولا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر،

بل حيّ هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم" [7-8].

بعد أن تحدث عن السيد المسيح كراعٍ يهبنا بره برًا لنا، قدم لنا عمله الخلاصي كخروجٍ جديد، لا من أرض مصر، وإنما من الأراضي التي طردنا إليها لنسكن في أرضنا.

هذا الخروج في معناه الحرفي يشير إلى العودة من سبي بابل، وفي معناه الروحي هو رجوع البشرية إلى حضن الآب، موضع الراحة.

لقد أكد ذلك بقوله "تأتي بالتأكيد" أو "حيّ هو الرب"، وقد سبق فاستخدم هذا التعبير إيليا وإليشع كنبيين إذ يضيفا تعبير: "الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)؛ كما نطق به سليمان ليصف به نفسه كملك (1 مل 2: 24)، وصدقيا الملك في حديثه مع إرميا بكون الله واهب الحياة (38: 16)، كما نطق به داود النبي ليشهد لله مخلصه الشخصي بأسلوب ليتورجي (2 صم 4: 9؛ 1 مل 1: 29؛ مز 34: 23؛ 71: 23).

5. نبوات ضد الأنبياء الكذبة:

بعد أن قدم ثلاث نبوات مملوءة رجاءً من جهة إقامة صدقيا (بر الله) الجديد، حيث يصير الله برنا، فننعم برعاية الله الشخصية في ابنه يسوع المسيح، ينطق بخمس نبوات ضد الأنبياء الكذبة[481]، ربما كُتبت في أوقات مختلفة وُجمعت معًا لأنها تعالج موضوعًا واحدًا.

النبوة الأولى 9-12: إدانتهم بسبب زناهم.

النبوة الثانية 13-15: إدانتهم لأنهم كذبة.

النبوة الثالثة 16-22: ينسبون كلماتهم للرب.

النبوة الرابعة 23-32: يتكلون على أحلامهم.

النبوة الخامسة 33-40: يطلبون وحيّ الرب بأفواههم لا بقلوبهم.

النبوة الأولى [9-12]: إدانتهم بسبب زناهم.

لا يطيق الله القدوس الخطية، ولا يقبل الرجاسات، لهذا أعلن لإرميا النبي عن مصير هؤلاء الأنبياء الكذبة بسبب رجاساتهم وفساد حياتهم. تظاهروا في الخارج بالرقة والتقوى، لكنهم في أعماقهم كما في سلوكهم انحنوا للشهوات الدنسة والرجاسات.

ارتبطوا بالكهنة ليسند كل منهم الآخر، فدنسوا العبادة في الهيكل الذي امتلأ برجاساتهم.

يبدأ إرميا النبي النبوة، قائلاً:

"في الأنبياء -

انسحق قلبي في وسطي،

ارتخت كل عظامي،

صرت كإنسان سكران،

ومثل رجلٍ غلبته الخمر من أجل الرب، ومن أجل كلام قدسه.

لأن الأرض امتلأت من الفاسقين.

لأنه من أجل اللعن ناحت الأرض،

جفت مراعي البرية،

 وصار سعيهم للشر، وجبروتهم للباطل" [9-10].

تظاهر الأنبياء الكذبة بالرقة واللطف، فكانوا يقدمون طمأنينة مخادعة للملك ورجاله كما للجيش والشعب، مصورين إرميا كرجلٍ متشائمٍ ومحطمٍ لنفسية الشعب وخائنٍ للوطن... لكن في الواقع كان إرميا يهتز بكل أعماقه وكيانه من أجل شعبه. تطلع إلى الأنبياء الكذبة وبدأ ينطق بنبواته، لا في شماتة، ولا كرجلٍ بلا أحاسيس نحو شعبه ووطنه، وإنما كإنسانٍ يعتصر بكل كيانه من أجلهم. التهب قلبه بنارٍ، هذه التي صارت محصورة في عظامه (4: 19-21؛ 20: 9).

سبق أن قلنا أن القلب، كان في نظر اليهود مركز الفكر والإرادة. فانكسار قلبه في وسطه لا يعني مجرد اهتزاز عواطفه الجيّاشة، وإنما دخل كما في ارتباكٍ فكري وبلبلة في التخطيط والإرادة، لا يعرف ماذا يعمل أمام تلك الكارثة العظمى التي حلت على الأمة كلها.

أما العظام فتشير إلى الهيكل العام الذي به يقوم كيان الإنسان، فمتى انهارت العظام يكاد يفقد الإنسان وجوده! وكأن الكارثة كادت أن تحطم كيان الشعب كله! إنها كارثة مصيرية بالنسبة للأمة كلها، كما بالنسبة لإرميا، وكما قيل: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي" (مز 22: 14).

يرى البعض أن الفعل الذي تُرجم "ارتخت" يعني "يرف" أو "يطير"، وكأن إرميا قد صار كالطير لا يحتمل الاستكانة، بل صار يرف كالطير، طارت عظامه إلى فوق تتطلع إلى الأمة كلها لتدرك حالها في مرارة!

هكذا انكسر قلب إرميا، وصارت عظامه ترف، ليس له موضع للراحة أو الاستقرار، "وصار كإنسان سكران ومثل رجل غلبته الخمر" [9]، وقد ارتبط السكر بالرعب والحزن كما في (حز 23: 33).

امتلأت الأرض بالفاسقين [10]، إذ صارت عبادة الأوثان خاصة البعل منتشرة على قمم الجبال وفي الوديان وتحت كل شجرة، تلازمها الممارسات الدنسة كطقس ديني لكي تنعم الأرض بالخصوبة، في حيواناتها ومزروعاتها، لكن النتيجة كانت على خلاف ما توقعوا. امتلأت الأرض لعنة، وصارت نائحة، وجفت تمامًا كأنها برية (midbar) بلا ساكن.

وصفها الرب هكذا: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيَّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربت. لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وابني حائطها حتى لا تجد مسالكها؛ فتتبع محبيها ولا تدركهم، وتفتش عليهم ولا تجدهم؛ فتقول: أذهب وأرجع إلى رجُلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن. وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت، وكثَّرت لها فضة وذهبًا جعلوه لبعلٍ" (هو 2: 5-8).

يُقصد باللعنة التعبير عن غضب الله على شعبه المُعلن خلال حالة الجفاف أو الخراب التي تحل بالأرض. وكما يقول إشعياء النبي: "حزنت، ذبلت الأرض... والأرض تدنست تحت سكانها، لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعُوقب الساكنون فيها... ناح المسطار، ذبلت الكرمة، أنَّ كل مسروري القلوب، بكل فرح الدفوف... " (إش 23: 4-8). لعل هدفه وهو إعلان أن الطبيعة نفسها التي خُلقت من أجل الإنسان قد فسدت بسببه، واحتاجت أن يفرغها الله ليجددها.

تشير اللعنة التي حلَّت بالأرض التي جفت إلى جسد الإنسان الذي متى فسدت إرادته تحل اللعنة بجسده، فتتحطم قدراته وإمكانياته وتفسد أحاسيسه ومشاعره، ويصير الجسد أشبه ببرية بلا ساكن!

حين نسمع وعد الله لمباركتنا: "أثمروا وأكثروا" نتلمس هذه البركة حتى في جسدنا، حيث تتبارك مواهبنا وقدراتنا، أما إذا حلَّت اللعنة فنفقد هذا الوعد الإلهي.

حقًا قد يسعى الأشرار ويجاهدون كما بجبروت وقوة لكن "صار سعيهم للشر وجبروتهم للباطل" [10]. يخرجون من تعبهم فارغي اليدين، أو كما يقول الجامعة "فعرفت أن هذا أيضًا قبض الريح" (جا 1: 17)، "التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا 2: 11).

"لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعًا،

بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب.

لذلك يكون طريقهم لهم كمزالقٍ في ظلامٍ دامسٍ،

فيُطردون ويسقطون فيها،

لأني أجلب عليهم شرًا سنة عقابهم يقول الرب" [11-12].

جاء الفعل "تنجسوا" يشير إلى مقاومة المقدسات وليس مجرد "عدم التقوى"، لهذا يُستخدم بالنسبة لمرتكبي الزنا غير المخلصين للمقدسات الإلهية، سواء للوصية الإلهية أو بيت الرب أو جسد الإنسان أو زوجته (أو زوجها).

يرتبط هذا الاتهام بعبادة البعل، حيث يمارس عابدوا البعل طقوس جنسية للخصوبة كطريق الآمان والإنجاب والصحة. وقد سبق فرأينا لأنه عوض التمتع بالحياة دخلوا إلى الموت، وعوض الآمان صاروا في ارتباك خلال السبي، وعوض الإنجاب تحطموا.

لقد قدموا طريق الرجاسات للكهنة الذين صارت لهم كمزالقٍ ينحدرون خلالها إلى ظلمة الفساد، وها هو ذات الطريق يصير كمزالقٍ للأنبياء الكذبة أنفسهم. يُطردون من أمام وجه الرب فينحدرون في طريقهم الذي أقاموه بانفسهم، ويسقطون في شر أعمالهم.

لقد طهر يوشيا الهيكل من العبادة الوثنية أثناء إصلاحاته عام 621 ق.م، لكن عادت الأوثان ورجاساتها بعد موته سنة 609 ق.م، في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا. وقد قدم لنا حزقيال النبي صورة مؤلمة لما حلّ بالهيكل حيث أُقيم تمثال الغيرة في المدخل (حز 8: 5)، وُنقشت تماثيل حيوانات ودبابات على الحائط، وأعطى البعض ظهورهم للهيكل وهم يسجدون للشمس كإله (حز 8). هذه الصورة التي عبر عنها الرب بقوله لحزقيال النبي: "يا ابن آدم، هل رأيت ما هم عاملون؟! الرجاسات العظيمة التي بيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عن مقدسي، وبعد تعود تنظر رجاسات أعظم" (حز 8: 6)، تكشف لماذا أرتبك فكر إرميا وكادت أن تحطمه نفسيًا وجسديًا.

هذه المزالق المظلمة التي سقطت فيها القيادات الدينية في ذلك الحين؛ عوض أن يسندوا كل نفس للالتقاء مع الله، دفعت بهم إلى مملكة الظلمة.

في قول الرب: "في بيتي وجدت شرهم" [11] استخدم الفعل بمعني "اكتشفت"[482]. اكتشف الله كحارسٍ لبيته جريمة فدُهش كيف تجاسر الكهنة والأنبياء على هذا الفعل الشرير في مقدساته التي ائتمنهم عليها.

إنها كلمات عتاب مرّة يكررها الله في حديثه مع أولاده هؤلاء الذين نالوا نعمته المجانية وتحولوا إلى هيكله المقدس، ليعودوا فيرتكبوا الرجاسات فيه. إنهم يدنسون لا أجسادهم بل هيكل الرب، لأنها لم تعد ملكًا لهم بل اُشتريت بدمٍ ثمين!

ائتمنهم الرب على بيته، كما يأتمننا على أجسادنا بكونها هيكله المقدس، لكي تكون طريقًا مقدسًا للتمتع بملكوت الله، أي ملكوت النور. أما هم فبشرهم صار طريقهم كمزالق في ظلام حيث الهلاك. وكما قيل: "أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام، لا يعلمون ما يعثرون به" (أم 4: 18-19)؛ "ليكن طريقهم ظلامًا وزلقًا وملاك الرب طاردهم" (مز 35: 6).

صار طريقهم كالوحل "زلقًا"، عوض ارتفاعه نحو السمويات، ينحدر بالسالكين فيه إلى الوحل فيصير ترابيًا لا سماويًا.

هذا هو ما فعلوه بأنفسهم، إذ يسقطون في الطريق الذي صنعوه: "يسقطون فيها" [12]، "الشرير يُطرد بشره" (أم 14: 32).

النبوة الثانية [13-15]: إدانتهم لأنهم كذبة.

في الاتهام الأول ظهر الأنبياء الكذبة أنهم متحالفون مع الكهنة في ممارسة الرجاسات فتدنسوا ودنسوا بيت الرب. هنا يظهر الأنبياء، خاصة الذين في أورشليم، أنهم قد تحالفوا مع الملك ورجاله ليبثوا روح الكذب والضلال وسط الشعب، فأساءوا قيادة شعب الله، وحولوهم إلى سدوم وعمورة، يحملون روح النفاق.

"وقد رأيت في أنبياء السامرة حماقة.

تنبأوا بالبعل وأضلوا شعبي إسرائيل.

وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يُقشعر منه.

يفسقون ويسلكون بالكذب،

 ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجع الواحد عن شره.

صاروا لي كلهم كسدوم وسكانها كعمورة.

لذلك هكذا قال رب الجنود عن الأنبياء:

هأنذا أطعمهم أفسنتينًا،

وأسقيهم ماء العلقم،

لأنه من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق في كل الأرض" [13-15].

يقارن هنا بين أنبياء مملكة الشمال (عاصمتها السامرة) وأنبياء مملكة الجنوب (عاصمتها أورشليم). الأولون جحدوا الإيمان، وأضلوا إسرائيل حيث تنبأوا باسم البعل. إنهم أنبياء كذبة لأنهم انحرفوا بالشعب عن عبادة الله، كاسرين العهد معه. هذا القول تقبله قيادات يهوذا وأيضًا الشعب، لأنهم يتطلعون إلى مملكة الشمال كدولة منشقة. لكن ما فعلته أورشليم ليس بأقل مما فعلته السامرة. إنها لم ترفض عبادة الله الحيّ لكنها خلطت هذه العبادة بالعبادة الوثنية ورجاساتها، فكسرت العهد مع الله، وصار حالها كحال السامرة، بل ربما أشر فالمملكتان لم تسلكا بولاء لله ولعهده، غير أن أنبياء أورشليم دنسوا الهيكل المقدس بزناهم وكذبهم. وهذا أخطر، إذ يقول: "رأيت ما يُقشعر منه" [14]. سقطوا في عبادة البعل مثلهم كمثل السامرة، لكن أضافوا إلى شرهم تدنيسهم للمقدسات الإلهية.

هنا يربط بين الرجاسات والكذب، قائلاً: "يفسقون ويسلكون بالكذب" [14]. لأن الكل رفض الله الذي هو "القدوس" و"الحق"، وسلكوا بالكذب. بمعني آخر لقد أخطأ الأنبياء الكذبة في حياتهم أو سلوكهم إذ مارسوا الفسق وأخطاؤا في تعليمهم فمارسوا الكذب.

بهذا صاروا "كلهم" [14] في عيني الله كسدوم؛ يُقصد بـ "الكل" أنبياء السامرة وأورشليم، أي الأنبياء الكذبة للمملكتين معًا.

بنفس الروح يتحدث حزقيال النبي عن سكان أورشليم، قائلاً: "مخرجك ومولدك من أرض كنعان. أبوكِ أمورى، وأمكِ حِثِّية" (حز 16: 3)، كما يقول: "إن سدوم أختك لم تفعل هي ولا بناتها كما فعلتِ أنتِ وبناتك" (حز 16: 48).

قدم الأنبياء الكذبة بأفواههم الموت للشعب، لذا يقدم الله لهذه الأفواه السافكة للدماء أو القاتلة للنفوس الافسنتين مأكلاً، وهو نبات مر وسام، وماء العلقم شرابًا [15].

النبوة الثالثة [16-22]: إدانتهم لأنهم ينسبون كلماتهم للرب.

ينطقون لا بإعلان من عند الرب، وإنما بوحي من قلوبهم الكاذبة، وينسبون كذبهم وخداعهم للرب نفسه. لذلك طلب الله من الشعب ألاّ يعطوا أذانًا لهم، ولا يدخلوا حتى في حوارٍ معهم، لئلا يصيروا هم أنفسهم "باطلاً nothingness".

"هكذا قال رب الجنود:

لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم.

فإنهم يجعلونكم باطلاَ.

يتكلمون برؤيا قلبهم، لا عن فم الرب.

قائلين قولاً لمحتقريّ:

قال الرب: يكون لكم سلام.

ويقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر.

لأنه من وقف في مجلس الرب ورأي وسمع كلمته؟!

من أصغى لكلمته وسمع؟!" [16-18].

يميز إرميا النبي بين الأنبياء الكذبة والنبي الحقيقي، موضحًا علامات النبي الحقيقي، وهي:

أ. يحمل النبي الحقيقي سلام الله الداخلي بينما يُحرم الأنبياء الكذبة منه، وإن كانوا يدعون أنهم يهبونه للآخرين. يقول القديس كبريانوس: [يقدمون سلامًا الآن الذين ليس لهم سلام لأنفسهم. يعدون أنهم يردون المخطئين إلى الكنيسة، وهم أنفسهم رحلوا عنها. يوجد الله الواحد، والمسيح الواحد والكنيسة الواحدة[483]].

ب. بينما ينطق الأنبياء الكذبة برؤى قلوبهم يصير النبي الحقيقي فم الرب. رأينا ان كلمة "قلب" في سفر إرميا تعني "العقل" أو "الإرادة"، فهم ينطقون بما تراه أفكارهم أو ما يريدونه، أما النبي الحقيقي فينطبق عليه القول: "مثل فمي تكون" (15: 19).

ج. يقدم الأنبياء الكذبة رجاءً كاذبًا لمحتقري الرب في قلوبهم، الذين يقول عنهم إشعياء النبي: "رذلوا شريعة رب الجنود واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل" (إش 5: 24)، مع أنه قيل: "جميع الذين أهانوني لا يرونها (أرض الموعد)" (عد 14: 23). يتحدثون مع معاندي الرب بكلمة سلام، أما النبي الحقيقي فينطق بالحق ولو كان جارحًا.

إنهم "يقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر". لكن الله الفاحص القلوب يدينهم حسب شر قلوبهم، وكما يقول القديس كبريانوس: [إنه ينظر إلى الإشياء الخفية والسرية ويتأمل الأمور المختومة، لا شيء يختفي من عيني الرب... إنه ينظر قلب كل إنسان وعقله، وسيدين ليس فقط أعمالنا بل وكلماتنا وأفكارنا. أنه يتطلع إلى الأذهان والإرادة ومفاهيم البشر جميعًا، في مخابئ القلب التي لا تزال مغلقة[484]].

د. يتمتع النبي الحقيقي بالحضرة الإلهية: "من وقف في مجلس الرب؟!" [18]. هذه الحضرة العجيبة تتحقق على الأرض وسط شعبه المقدس.

ما هو "مجلس الرب؟" يحل الله في وسط كنيسته المقدسة، في مجمع القديسين، فيقيم منها مجلسًا ينسبه إلى نفسه. وكما يقول المرتل: "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).

هـ. يتمتع النبي الحقيقي بالاستنارة الروحية، إذ يقول: "ورأى" [18]، يتحدث من خلال رؤيته الروحية وخبرته الواقعية كقول القديس يوحنا الحبيب: "الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1: 1).

و. له الأذن المختونة ليسمع ويطيع: "وسمع كلمته، من أصغى لكلمته وسمع؟!" [18].

بينما ينطق الأنبياء الكذبة بالكلمات المعسولة لمحتقري الرب وللعنيدين بقلوبهم. يرى إرميا النبي غضب الله كعاصفة نارية تهب على رؤوس الأشرار. هذا ما سمعه وهو في مجلس الرب، وأن هذه العاصفة لن تهدأ حتى يتحقق التأديب ويقيم الله مقاصد قلبه. عندئذ يفهم الأنبياء الكذبة ذلك، وإن كانوا لا يتراجعون عن شرهم.

"ها زوبعة الرب.

غيظ يخرج ونوء هائج.

على رؤوس الأشرار يثور.

لا يرتد غضب الرب حتى يجري ويقيم مقاصد قلبه.

في آخر الأيام تفهمون فهمًا.

لم أرسل الأنبياء، بل هم جروا.

لم أتكلم معهم، بل هم تنبأوا.

ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي،

وردوهم عن طريقهم الرديء،

وعن شر أعمالهم" [19-22].

لا يقصد هنا بقوله "في آخر الأيام" [20] معني أخرويًا (إسخاتولوجيا) وإنما قصد أنه "بعد ذلك"، أو عندما تعبر هذه الأيام ويحل وقت التأديب[485].

مرة ثانية يوضح النبوة الصادقة التي تقوم على ارساله الله نفسه للنبي، وحديثه معه، مع تمتع النبي بالحضرة الإلهية والوقوف أمامه. بمعني آخر هناك حاجة إلى لقاء صادق مع الله، وقبول إرسالية صادقة، والنطق بكلمات الرب بصدق.

يقول الرب: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا" [21]. ماذا يعني بكلمة "جروا"؟ كانوا مسرعين، شغوفين نحو إعلان رسائلهم الخاصة، وذلك كإلحاحهم "حلمت حلمت" [25]. إنهم يعملون بقوة وبسرعة وبلجاجة لكن عملهم باطل، لأنه مملوء كذبًا، لا يدفع إلى التوبة بل إلى التهاون والاستهتار.

 الأنبياء الكذبة وإن أخذوا صورة الجدية في السرعة في العمل واللجاجة لكن ثمارهم تُظهرهم (مت 7: 16)، لا يدفعون الناس إلى التوبة وتغيير حياتهم.

لننتفع نحن منهم فنخجل من تراخينا في الشهادة لمسيحنا وتقديم الحياة الإنجيلية ولكن ليس بروحهم حيث البر الذاتي وعدم التمتع باللقاء مع المخلص والوجود الدائم في حضرته والاختفاء في وصيته!

يقول: "في آخر الأيام تفهمون فهمًا" [20]؛ وكما يقول القديس إيريناؤس: [لأن كل نبوة بالنسبة للبشر مملؤة غموضًا. ولكن إذ يحين الوقت، وتتحقق النبوة، تصير واضحة ومكشوفة[486]].

النبوة الرابعة [23-32]: يتكلون على أحلامهم.

يحاول الأنبياء الكذبة أن ينسبوا أنفسهم لله بكل الطرق، منها أنهم يتحدثون عن احلامٍ يدعون أنها من قبل الله. لا يعني إرميا النبي هنا "الأحلام" بمعناها الحرفي، إنما كتعبير مجازي، إذ يخدعون الناس بادعاءات وهمية أشبه بالأحلام غير الواقعية التي يقدمونها ويعطون لها تفاسير من عندياتهم، حاسبين هذه الأحلام انها كلمة الرب، وهي بعيدة كل البعد عنها.

أحيانًا يستخدم الله الأحلام لتقديم رسالة إلهية كما حدث مع يوسف الشاب وهو في بيت أبيه، وأيضًا عندما فسّر الحلمين في السجن لرئيس السقاة ورئيس الخبازين، وأخيرًا فسّر أحلام فرعون. دانيال النبي أيضًا فسّر أحلام بعض الملوك، لكن بصفة عامة يتحدث الله مع شعبه خلال رجاله، خاصة الأنبياء، وليس خلال الأحلام.

بدأ الحديث بتوبيخ الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن الله يتحدث معهم بالأحلام، معلنًا أن الله الساكن في الأعالي يتطلع إليهم ويدرك كذبهم.

"ألعَلِّي إله من قريب يقول الرب، ولست إلهًا من بعيدٍ؟!

إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا يقول الرب؟!

أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب؟!" [23-24].

لعلَّه بهذا يوبخهم لأنهم يحسبون الله كالبعل، محدود في حجمه وفي موضع سكناه، غير قادرٍ على إدراك ما يحل بالأماكن المستترة.

يسكن الله في السماء في الأعالي، وكأن الأرض كلها صغيرة بالنسبة له، يراها بكل خطاياها، ولا يقدر أحد ما أن يختفي عنه. وفي نفس الوقت يملأ السماء والأرض، أينما هرب إنسان يجد الله حاضرًا... فهو بعيد ومنزه عن كل الخليقة، وقريب جدًا وملاصق لها.

بمعني آخر يقول: الله منزه عن كل التصرفات التي يمارسها الكذبة، هو في الأعالي يعرف ويرى كل شيء، وهو قريب يود أن يلتقي الكل به!

يؤكد النبي أن الله عالٍ عن الأرض، بعيد كل البعد عن أفكارهم الأرضية الترابية، هو يدرك كل أسرارهم، أما هم فلا يدركونه. ليتخلوا عن التراب الذي التصقوا به، فيرفعهم بروحه إلى سمواته، ويكشف لهم إرادته، بهذا تُنتزع عنهم صفة "الكذب".

أخيرًا جاءت هذه العبارات متناغمة مع كلمات المرتل:

"يا رب قد اختبرتني وعرفتني...

كل طرقي عرفت، لأنه ليس كلمة في لساني إلاَّ وأنت يا رب عرفتها كلها...

أين أذهب من روحك؟! ومن وجهك أين أهرب؟

إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت..." (مز 139).

الله بعيد عن الأشرار، قريب من المتواضعين الذين يطلبونه من كل قلوبهم.

v     لو كان من جهة المكان هو بعيد عنا، لكنت تشك حقًا، لكنه إن كان حاضرًا في كل موضع لذاك الذي يجاهد، وقريب للغيور، فإنه يقول مع النبي: "لا أخاف شرًا لأنك معي"(مز 23: 4) [487].

v     ليتنا لا نستمر في الشر، ولا نيأس من المصالحة، بل لنقل نحن أنفسنا: "أقوم وأذهب إلى أبي"، ولنقترب إلى الله. فإنه هو نفسه لن يبعد عنا، وإنما نحن الذين نبتعد عنه.

نقرأ: "أنا هو الله من قريب ولست إلهًا من بعيد" [23].

مرة أخرى ينتهرهم على لسان النبي: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبيني" (راجع إش 59: 2) [488].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لأن قوة الله حاضرة دائمًا، متصلة بنا، تعمل للفحص والنفع والتعليم[489].

القديس إكليمنضس الإسكندري

v     إنه في كل موضع هذا الذي لا يحده مكان.

لا تتركه، فيكون معك.

إن أردت أن تأتي إليه فلا تتباطأ... فإنه يأتي إليك وأنت في مكانك، إن كنت تؤمن وتحب[490]!

القديس أوغسطينوس

v     مخيف هو ملئه للمسكونة، فلا يوجد موضع يهرب من عمل الله حتى بالطيران إلى السماء، أو بدخول الهاوية، أو بالهروب إلى أقصي الشرق، أو الإغلاق على أنفسنا في الأعماق ونهايات البحر[491].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الإنسان الذي ينتفع بالصلاة يصير مستعدًا أن يختلط بروح الرب الذي يملأ العالم كله، والذي يملأ الأرض كلها والسماء، القائل بالنبي: "أما أملأ أنا السموات والأرض؟ يقول الرب" (23: 24) [492].

العلامة أوريجينوس

v     إننا لا نأتي إليه جميعنا بنفس الطريق، بل يأتي كل واحدٍ حسب قدرته (مت 25: 25).

إما نأتي إليه مع الجماهير فينعشنا بالأمثال لهذا الهدف وحده: لئلا نخور في الطريق (مت 15: 32؛ مر 8: 3) من الأصوام الكثيرة.

أو أننا نجلس دومًا بلا انقطاع عند قدميه، متحررين لأجل هذا وحده: لكي نسمع كلمته دون أن نرتبك قط بالخدمات الكثيرة، بل نختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع عنا (لو 10: 39-42). بالتأكيد الذين يقتربون إليه هكذا ينالون من نوره أكثر[493].

 العلامة أوريجينوس

يتساءل العلامة أوريجينوس أين رحلت رفقة لتطلب الرب (تك 25: 24)، ما دام الرب في كل موضع (23: 24)؟

v     أظن أنها لم ترحل من موضع إلى آخر، بل عبرت من حياة إلى حياة أخرى، من عملٍ إلى عملٍ، ومما هو صالح إلى ما هو أفضل. إنها انطلقت من الأشياء المفيدة إلى ما هي أكثر فائدة، وأسرعت مما هو مقدس إلى ما هو أكثر قداسة[494].

 العلامة أوريجينوس

يكمل حديثه كاشفًا كذب هؤلاء الأنبياء:

"قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين:

حلمت حلمت.

حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب؟! بل هم أنبياء خِداع قلبهم.

الذين يفكرون أن يُنسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه،

كما نسيَ آباؤهم اسمي لأجل البعل" [25-27].

يهاجم هنا ما يدعيه الأنبياء من رؤيتهم أحلامًا يفسرونها على أنها رسائل سماوية للأسباب:

أولاً: كذبهم، إذ يقول كل منهم: "حلمت. حلمت"، ويتنبأون خلالها كذبًا.

ثانيًا: ينسبون ما يتنبأون به للرب، وهذا أخطر، لأنهم ليس فقط يكذبون، لكنهم يتسترون تحت اسم الله وهم يكذبون.

ثالثًا: شغل موضوع الأحلام أفكار الشعب حتى نسوا الله ووصاياه. نسى آباؤهم الله خلال عبادتهم البعل، أما هؤلاء فنسوا الله خلال انشغالهم بالأحلام، لا همّ لكل  شخص إلا أن يروي أحلامًا أو يشتهي أن يسمع عن أحلام إخوته.

بماذا يقيِّم إرميا النبي هذه الأحلام؟ يقارن الأحلام بكلمة الله، كالتبن بجانب الحنطة، يلزم فرز هذه عن تلك.

"النبي الذي معه حُلم، فليقص حُلمًا،

والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق.

ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟!

أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب؟!

وكمطرقة تحطم الصخر.

لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي من بعضهم البعض" [28-30].

أحلام الأنبياء الكذبة كالقش يجب فرزها من كلام الرب، أي من الحنطة.

ليس للأحلام فاعلية، أما كلمة الرب فكنارٍ تحرق الشر في القلب، وتلهبه بنار الحب الإلهي، وكمطرقة تحطم القلب الحجري لتجعله قلبًا لحميًا. بمعني آخر كلمة الرب هي طعام (حنطة)، يشبع النفس، كما يغير طبيعتها، تنقيها كما بنارٍ، وتحطم كل فسادٍ فيها.

بقوله: "ما للتبن مع الحنطة؟!" [28] يؤكد ضعف الأحلام في مواجهتها أو مقاومتها لكلمة الرب. إنها تشبه تبنًا أو عصافة لا تقف أمام ريح غضب الله. إنها تحترق أمام كلمة الله النارية وتتحطم بمطرقتها.

يكشف إرميا عن جانب آخر خطير في حياة بعض الأنبياء الكذبة؛ أنهم أحيانًا لا ينطقون بكلمات كاذبة، ولا يدّعون أنهم يروا أحلامًا، إنما يسرقون كلمة الرب من بعضهم البعض [30].

يشير التبن إلى الأشرار والحنطة إلى أولاًد الله. وكما يقول القديس جيروم: [إن كان إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل لم يكونوا بلا خطية، وان كان أفضل أنواع الحنطة به تبن ممتزج به، فماذا يُقال عنا نحن الذي كُتب عنا: "ما هو التبن للقمح يقول الرب؟" (23: 28) ومع ذلك فالتبن يُحفظ للحرق المقبل، كما أن الحنطة في الوقت الحاضر ممتزجة مع القمح في نموها[495]...].

ماذا يعني بسرقة كلمة الرب؟ إننا ننطق بكلمة الرب كأننا قد اختبرناها دون أن نسمع لها أو نمارسها في حياتنا، إنما نسرقها من أفواه الآخرين أو كتاباتهم. لهذا يليق بنا لكي لا نُحسب لصوص الكلمة أن نمارس ما ننطق به، أو نجاهد بإخلاص في ممارستنا إياها.

ربما يقصد بسرقة كلمة الرب أن بعض الأنبياء الكذبة أرادوا أن ينطقوا بكلمة الرب، لكن فساد قلوبهم وسلوكهم دفعهم إلى تحريف الكلمة حسب أهوائهم الداخلية. ولعله أراد توضيح أن الأنبياء الكذبة غير أمناء ولا مخلصين حتى فيما بينهم، إذ يسرقون بعضهم البعض، فكيف يكونوا أمناء في تقديم الكلمة صادقة للشعب؟ أو أنهم فقراء في المعرفة، ليس لهم ما ينطقون به، فكل واحدٍ يسرق من الآخر، مدعيًا أنه يرى أحلامًا مباشرة من الله.

بمعنى آخر فإنهم حتى وإن سرقوا كلمة الرب، لكن خلال هذه السمات التي سبق أن تحدثنا عنها يقدمونها بطريقة غير صادقة، ويحولونها لخدمة أغراضهم الشخصية.

يختم حديثه عن الأنبياء المدعين أنهم أصحاب أحلام إلهية أو عن سارقي الكلمة، قائلاً:

"هأنذا على الأنبياء يقول الرب،

الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال،

هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها، ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم،

وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم.

فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب" [31-32].

بقوله "ياخذون (أو يستعملون) لسانهم ويقولون: قال" [31] يعني أنهم يستخدمون كلماتهم الشخصية في شكل حديث إلهي ويقولون: "قال الرب...".

للمرة الثالثة يؤكد الرب: "هأنذا على (ضد) الأنبياء" الذين يبشرون بالأحلام الباطلة [30-32]. إنهم مخادعون ولا منفعة منهم [32].

النبوة الخامسة [33-40]: يطلبون وحي الرب بأفواههم، لا بقلوبهم.

أخيرًا يتظاهر هؤلاء الأنبياء أحيانًا بالرغبة في التعرف على وحي الرب بينما بقلوبهم يطلبون وحي أنفسهم. تسلل هذا الداء إلى الكهنة في غير مبالاة، فسقطوا في خطية أخطر وهي الرياء والخداع حتى في معاملاتهم مع الله ورجاله.

"وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟

فقل لهم: أي وحي (ثقل)؟!

إنى أرفضكم هو قول الرب.

فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول وحي (ثقل) الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته.

هكذا تقولون الرجل لصاحبه، والرجل لأخيه:

بماذا أجاب الرب؟

وماذا تكلم به الرب؟

أما وحي الرب فلا تذكروه بعد،

لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه،

إذ قد حرفتم كلام الإله الحيّ رب الجنود إلهنا.

هكذا تقول للنبي: بماذا أجابك الرب، وماذا تكلم به الرب.

وإذا كنتم تقولون: وحي الرب، فلذلك هكذا قال الرب من أجل قولكم هذه الكلمة وحي الرب، وقد أرسلت إليكم قائلاً: لا تقولوا وحي الرب.

لذلك هأنذا أنساكم نسيانًا، وأرفضكم من أمام وجهي أنتم، والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها.

وأجعل عليكم عارًا أبديًا وخزيًا أبديًا لا يُنسى" [33-40].

 جاء الحديث هنا يدور حول كلمة "وحي a  mass" التي تُستخدم بمعانٍ كثيرة؛ وهي مقتبسة من الفعل nasa، معناها "يرفع" أو يحمل"، فيكون الاسم معناه "حمل  burden" أو "ثقل". أُستخدم في العهد القديم ليعني ثقلاً يصدر عن سيد أو إله أو من حيوانات أو بشر، وهنا يعني الالتزام بثقل المسئولية القيادية أو الدينية، أو السقوط تحت ثقل حكم الله، لكن أحيانًا تستخدم كتعاليم نبوية أو وحي نبوي. هنا يقصد بها الوحي.

كثيرًا ما تكررت كلمة "ثقل" في هذه القطعة، إذ تطلع الأنبياء الكذبة والكهنة والشعب إلى كلمة الرب باحتقار واستخفاف وحسبوها ثقلاً، ترعبهم وتخيفهم، كانت ثقيلة على نفوسهم كما يقول القديس جيروم.

إذ يسأل الأنبياء الكذبة أو الشعب: ما هو وحي (ثقل) الرب؟ تأتي الإجابة: "أي وحي؛ إني أرفضكم هو قول الرب" [33]، يترجمها البعض: "أنتم هو الثقل (الوحي) إني أطرحكم (أرفضكم)"؛ وكأنه يقول: ليست كلمة الرب ثقلاً، بل أنتم بخطاياكم تمثلون ثقلاً وتستحقون الطرح خارجًا!

مرة أخرى يقول: "لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه (ثقله)" [36]، وكأن الله يؤكد إن كلمته ليست ثقلاً، إنما كلمات الإنسان هي التي تحطمه كثقل على نفسه!

إنه يطالبهم: "لا تقولوا وحي الرب" [38]، ربما لأنه يرفض استخدام هذه الكلمة  massaالتى استخدموها للتعبير عن مشاعرهم نحو كلمة الرب كثقل؛ أو أن الله بهذا يوبخهم: لماذا تطلبون تعاليم الرب وقد أقمتم أنفسكم آلهة، يسمع كل واحد لتعليمه الذاتي لا لصوتي، تطلبون أن تسمعوا تعاليمي وأنتم تهينونها برفضكم إياها؟!

لقد نسوا صوت الرب حتى إن طلبوه بأفواههم، لذلك يقول: "هأنذا أنساكم نسيانًا" [39].

لم يطيقوا سماع صوت الرب، لهذا جاءت الثمرة: "أرفضكم من أمام وجهي" [39].

أهانوا الكلمة الإلهية واحتقروها، لهذا يرفض الله المدينة التي حسبها قبلاً مدينته المقدسة، والتى وهبها لهم ولآبائهم، ويسكب عارًا وخزيًا عليهم [40].

 

 

 


من وحي إرميا 23

ليمت صدقيا القديم!

وليحيا صدقيا الجديد!

v     هب لي يا رب جراءة إرميا فأصرخ:

ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعية الرب،

ويل لصدقيا الذي أقامه البابليون!

وليحيا الراعي الجديد: "الرب برنا"!

ليمت صدقيا القديم، البر الذاتي الذي أنسبه لله كذبًا،

وليحيا صدقيا الجديد في، ويهبنى بره برًا لي!

لقد بدد بري الذاتي طاقاتي التي هي غنم الرب،

لتملك أيها المسيح الراعي الصالح في، وتجمع غنمك في!

v     نعم! لترعى أعماقي، ولتجمع حواسي وأفكاري وكل طاقاتي،

إنها غنمك!

لتردها من أرض الذل والسبي إلى مربضها!

لقد تاهت في وسط غربة هذا العالم!

لتفتح أبواب سمواتك أمامها،

ولتقدسها بروحك القدوس لحساب ملكوتك،

فأستقر وأستريح في أحضان أبيك!

هناك لا أخاف، ولا أرتعب، ولا أفقد شيئًا!

هناك أمتلىء سلامًا أبديًا فائقًا!

v      تعال أيها الملك الحقيقي، صدقيا الجديد،

لتملك في أعماقي، ولتنجح، ولتجري حقك وبرك.

حوّل أرضي إلى ملكوتك.

أنطلق بي، لا من فرعون مصر إلى أرض الموعد،

وإنما من ذاتي الطاغية إلى أورشليمك السماوية!

هب لي أن أختبر الخروج الجديد!

v     ليهلك الأنبياء الكذبة الذين تحالفوا مع صدقيا الشرير،

سلكوا في الفسق وكذبوا،

ادعوا النبوة، وجروا وراء الأحلام الكاذبة،

شغلوا قلوب البسطاء عنك بخزعبلاتهم الشريرة.

تركوا كلمتك الحية، وتمسكوا بالأوهام،

عوض الحنطة أكلوا القش!

تركوا كلمتك النارية،

ورفضوا مطرقة حبك،

ويل لهم فقد طلبوا وحي أنفسهم!

v     هب لي أن أقتنيك،

واشترك في مجلس الرب القدوس الحق!

فلا يجد الفسق له في مكانًا،

ولا يقدر الكذب أن يتسلل إلى أعماقي،

لا أعيش على أحلام واهية،

ولا أنشغل إلا باسمك أيها الحق السماوي!

أطلب كلمتك بشفتي كما بقلبي،

تلهب أعماقي بنار حبك،

وتضرب بمطرقة على خطاياي،

تسندني فأخلص!

كلمتك ليست بثقيلة، بل مبهجة وممتعة!

ما أعذبك وما أعذب كلمتك!

[474] See Thompson: Jeremiah, p. 487.

[475] Institutes 4: 38.

[476] Thompson: Jeremiah, p. 489.

[477] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 620; 4 Q Flor 1.11; Q Bless 1.3-4.

[478] George F. Moore, Judaism in the First Centuries of the Christian Era, The Age of Tannaim, Cambridge, Harvard University; 1950-59, 2: 325.

[479] Thompson: Jeremiah, p. 490.

[480] In Matt. hom. 54: 8.

[481] R. E. Clements: Jeremiah, Atlanta 1988, p. 140; Thompson, Jeremiah, p. 493.

[482] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 628.

[483] St. Cyprian: Ep. 39 (Oxford 43: 5).

[484] St. Cyprian on the lapsed, 27.

[485] John Bright: Jeremiah, p. 152; Thompson: Jeremiah, p. 498.

[486] St. Iraeneus: Adv. Haer.

[487] St. Chrysostom: In Matt. hom., 54: 8.

[488] Letter to the Fallen Theodore 1: 8.

[489] Stromata 2: 2.

[490] St. Augustine: in Joan. 36: 8.

[491] St. Gergory Naz.: On his father's silence, 16.

[492] On Prayer 10: 2.

[493] In Gen. hom. 1: 7.

[494] In Gen. hom. 12: 1.

[495] St. Jerome: Ep., 122: 3.