الاصحاح الرابع والعشرون

سلَّتا التين

يقدم الرب لإرميا رؤيا تشرح موقف الفريقين من السبي: فريق الذين خضعوا للسبي وحسبوه تأديبًا إلهيًا، وفريق المقاومين للسبي.

تُعتبر هذه الرؤيا ختامًا لكل ما قد جُمع عن النبوات ضد الملوك والأنبياء الكذبة، ومقدمة لوعود اللَّه الصادقة المسيانية. فإن كان التين الرديء جدًا يشير إلى صدقيا الملك والذين بقوا في أورشليم، فإن اللَّه يقيم عهده مع المسبيين ويجعلهم تينًا جيدًا جدًا... يهبهم قلبًا جديدًا ليدركوا أنه هو اللَّه (ع 7).

v     ماذا وراء الرؤيا؟

1. رؤيا سلَّتى التين 1-3 .

2. التين الجيد 4-7 .

3. التين الرديء 8-10 .

v    ماذا وراء الرؤيا؟

أولاً: حدثت هذه الرؤيا بعدما أُقتيد يكنياهو (يهوياكين) أسيرًا إلى بابل مع الأسرة المالكة وغيرهم من رجال يهوذا (2مل10:24-17). كان الذين قد بقوا في أورشليم ويهوذا مملؤين تفاؤلاً من نحو المستقبل. وقد بدأ الملك الجديد صدقيا في التخطيط للثورة ضد بابل (ص27)، وكان الأنبياء الكذبة الذين سبقوا فنادوا بأنه لن يتم الأسر ينادون بان ما قد حدث هو أمر عارض وأن العودة من بابل سريعة جدًا (ص28). أما إرميا النبي فنادى بان هذا الاتجاه خاطىء. حقا سيعود الشعب من بابل ولكن ليس في أيام صدقيا وأعوانه وإنما بعد .7 عامًا من السبي.

ثانيًا: إذ تحقق السبي البابلى الأول في عهد يكنيا ظن القاطنون في أورشليم أنهم موضع سرور اللَّه ورضاه، تركهم هناك لأجل تقواهم، وأن الذين حُملوا إلى بابل كانوا موضع غضب اللَّه ورفضه إياهم. ففي هذه الرؤيا يعلن الرب أن أفكار اللَّه غير أفكار البشر، وأن الأمر مناقض تمامًا لم يظنه الساكنون في أورشليم.

ثالثًا: أراد اللَّه بهذه الرؤيا أن يطمئن إرميا النبي أنه مع ما سيحل بيهوذا من خراب تبقى بقية مقدسة للَّه. ففي كل جيل توجد سلَّتان، سلَّة تضم تينًا جيدًا جدًا والأخرى تينًا رديئًا جدًا.

في الموجة الأولى للسبي البابلي ليهوذا تطَّلع الملك الشاب يكنيا البالغ الثمانية عشرة من عمره، فإذا بكل تطلُّعاته قد تبددت. لقد ظن شعبه كما ظن هو في نفسه أنه قادر على إنقاذ بلده، فإذا به بعد ثلاثة شهور من حكمه يُسحب مسبيًا إلى بابل، ومعه رجاله رؤساء يهوذا، وأيضًا المهرة من النجارين والحدادين، كما نُقلت خزائن القصر وبيت الرب إلى بلد غريب! صُدم هو ورجاله وكل الشعب أمام هذا الحدث الذي طالما أنذر به الرب على أفواه أنبيائه، وقد كذَّبه الأنبياء الكذبة!

1. رؤيا سلَّتي التين

"أراني الرب وإذا سلَّتا تين موضوعتان أمام هيكل الرب بعدما سبي نبوخذراصر ملك بابل يكنيا بن يهوياقيم ملك يهوذا ورؤساء يهوذا والنجارين والحدادين من أورشليم وأتى بهم إلى بابل" ع1.

أمام الحدث الواحد انقسم الكل إلى فريقين لا ثالث لهما، أحد الفريقين تمثله سلَّة التين الجيد جدًا، والفريق الآخر تمثله سلَّة التين الرديء جدًا، وليس من حالٍ وسط.

أولاً: حدث واحد أمامه تجاوب كل إنسانٍ ليكون نصيبه في السلَّة الأولى أو الثانية. ليس من أنصاف للحلول: إما الانتماء لمملكة اللَّه أو مملكة إبليس. وكما كتب القديس جيروم في رسالة شكر لاستوخيوم التي أرسلت له هدية تحوى كريزًا:

[ليتكِ تحتوين فواكه كتلك التي تنمو أمام هيكل الرب،

هذه التي قيل عنها "(التين) الجيد جيد جدًا".

اللَّه لا يحب شيئًا نصف نصف،

بينما يرحب بالحار ويتجنب البارد يقول في سفر الرؤيا إنه يتقيأ الفاتر من فمه (15:3،16)[i].]

ثانيًا: كانت سلَّتا التين موضوعتين أمام هيكل الرب، حيث يُقدم البشر إلى حضرة الرب، وهو وحده فاحص القلوب قادر أن يفرز التين الصالح من الرديء. الذين قبلوه بإخلاص وخضعوا لإرادته يُحسبون تينًا صالحًا، أما الذين يحتقرون وصيته ويهينونه فيُحسبون تينًا رديَّا ليس فيه مسرة ولا يصلح قط للطعام.

يقف الكل عند باب الهيكل الخارجي ليُفرز الصالحون ويدخلون إلى المقادس يتمتعون بشركة المجد، أما الأشرار فيبقون خارجًا. شبَّه الرب الصالحين بالعذارى الحكيمات اللَّواتى دخلن مع العريس السماوي إلى حجاله، والأشرار بالعذارى الجاهلات اللَّواتي بقين في الخارج (مت25).

ثالثًا: لماذا اختار التين من بين الفواكه؟

في تفسير سفر هوشع رأينا أن اللَّه غالبًا ما يشبه شعبه بالكرمة أو التين. الكرمة تشير إلى التفاف حبَّات العنب حول فرع الخشب إشارة إلى الكنيسة المجتمعة حول الصليب، تشارك السيد المسيح آلامه وقيامته. وأن العنب يُعصر فيصير خمرًا مفرحًا، هكذا تعيش الكنيسة متألمة ومتهللة، بل ومصدر فرح لكثيرين.

أما التين فيشير إلى عذوبة الوحدة، فآلاف البذور الرفيعة جدًا يحتضنها غلاف الوحدة والحب العذب، ويعطيها قيمة. كل بذرة في ذاتها لا تستحق إلا التخلص منها، لكن مع زميلاتها تقدم عذوبة لآكليها وشبعًا وصحة!

إذن سلَّتا التين تمثلان الشعب، اتحد المؤمنون معًا بغلاف الوحدة، وارتبطا بالحب النقي الطاهر فصاروا تينًا جيدًا جدًا، بينما اتحد المقاومون معًا بغلاف الوحدة في مقاومة الحق والارتباط معًا لتحطيم العمل الإلهي، فصاروا تينًا رديئًا جدًا.

رابعًا: ماذا يعني بالتين الباكوري؟

"في السلة الواحدة تين جيد جدًا مثل التين الباكوري" ع2.

دُعي التين الجيد "باكورة"، وبحسب الشريعة تُقدم البكور إلى هيكل الرب.

يرى الدكتور Shaw أن شجر التين في فلسطين يُنتج ثلاثة محاصيل في السنة: المحصول الأول ويُدعى الباكورة Boccore وذلك في منتصف أو نهاية شهر يونيو. وهذا هو ما يُشار إليه بالتين جيد جدًا. والثاني يُدعى Kermez أو التين الصيفي، ينضج قبل شهر أغسطس. والثالث يُدعى التين الشتوي حجمه أكبر وقاتم اللون، يبقى على الشجر طوال الشتاء ويُجمع في بدء الربيع، هذا النوع لا يصلح للأكل[ii]. الذين بقوا في أورشليم ويهوذا ولم يخضعوا للسبي يشبهون التين الشتوي الذي يبقى على الأشجار طوال الشتاء، لكنه لا يصلح للأكل، بل يُلقى في مزبلة أو يُحرق بالنار.

هذا وقد حُسب التين جيدًا أو رديئًا ليس مطلقًا وإنما نسبيًا بالمقارنة فيما بينهم.

2. التين الجيد

"ثم صار كلام الرب إليّ قائلاً:

هكذا قال الرب إله إسرائيل.

كهذا التين الجيد هكذا أنظر إلى سبي يهوذا الذي أرسلته من هذا الموضع إلى أرض الكلدانيين للخير.

واجعل عيني عليهم للخير وأرجعهم إلى هذه الأرض وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم.

وأعطيهم قلبًا ليعرفوني إني أنا الرب فيكونوا لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا لأنهم يرجعون إلى بكل قلبهم" ع4-7.

كان التين الذي ينضج مبكرًا في شهر يونيو يعتبر تينًا جيدًا (إش28:4، هو9:.1).

أُقتيد إلى السبي يكنيا وهو إناء مكسور ومرذول، ولكن معه الآلاف من العمال المهرة حُملوا إلى بابل لخدمة الملك ولحرمان أورشليم من عملهم أثناء الحصار (2مل16:24)، وكان أيضًا أشراف يهوذا، ولعلَّه دعاهم بالتين الجيد لأنه وُجد بينهم من كان صالحًا مثل النبيين حزقيال ودانيال.

مادامت السلتان قد وُضعتا أمام هيكل الرب كان يليق أن يكون كل التين جيدًا، لأنه لا يُقدم للرب إلا ما هو جيد، فالسلة التي بها التين الجيد تشير إلى النفوس المقدسة التي تُقدم للرب كبكورٍ له، أما السلة الثانية فتشير إلى النفوس التي تدنست وبقيت في دنسها وهي تمارس العبادة للَّه! أي تمزج عبادتها للَّه الحي بالفساد الذي تتمسك به.

3. التين الرديء

"وفي السلة الأخرى تين رديء جدًا لا يؤكل من رداءته" ع2.

"وكالتين الرديء الذي لا يؤكل من رداءته، هكذا قال الرب، هكذا أجعل صدقيا ملك يهوذا ورؤساءه وبقية أورشليم الباقية في هذه الأرض والساكنة في أرض مصر.

وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض عارًا ومثلاً وهزأة ولعنةً في جميع المواضع التي أطردهم إليها.

وأرسل عليهم السيف والجوع والوبأ حتى يفنوا عن وجه الأرض التي أعطيتهم وآباءهم إياها" ع8-10.

السلَّة التي تحمل تينًا جيدًا تمثل أولاد اللَّه الذين يقدمهم أبوهم للتأديب خلال الحب لأجل إصلاحهم، أما السلة الثانية فتشير إلى الأبناء العصاة الذين يُتركون لإرادتهم الذاتية في عنادهم المهلك.

للأسف قُدم التين الرديء أمام هيكل الرب، الأمر غير اللآئق، إذ كان الأفضل ألاّ ُيقدم شيء عن تقديم ما هو رديء.

تُعبر هذه الرؤيا عن مفهومٍ روحي عميق وهو أن صلاح الإنسان لا يقوم على موقع جغرافي معين وإنما على عطية اللَّه (القلب الجديد والفهم الجديد ع7)، التي توهب للمسبيين المشتاقين إلى حرية مجد أولاد اللَّه .

الذين ارتبطت قلوبهم بأورشليم في شكليات خارجية مع عصيان وإصرار على الفساد حُسبوا تينًا رديئًا جدًا، أما الذين حُرموا من أورشليم وفقدوا الهيكل بالجسد، لكن أعماقهم مرتبطة به بالروح، صاروا هم أنفسهم أورشليم الروحية وهيكل الرب المقدس!

بمعنى آخر أولئك الذين ارتبطوا بشكليات العبادة مع فساد الحياة صاروا أسرى في سلة التين الرديء جدًا، لا يصلحون للأكل بل يلقون خارجًا في المزبلة ؛ أما الذين يرفعون أعين قلوبهم للرب فإنه يردهم إلى أورشليم العليا ويقيمهم الرب في سلته المقدسة، ويُحسبون كطعامٍ شهي جدًا، كما قدم الرب نفسه خبزًا حيًا، يصيرون هم تينًا روحيًا جيدًا!

 ربما عني أيضا بالتين الرديء أولئك الذين هربوا إلى مصر وأقاموا هناك (ص34-44).

 
من وحي إرميا 24

احسبني تينًا جيدًا جدًا

أيها الخبز الحيّ!

v     في مرارة تطلع النبي إلى شعبك المسبي.

 فقد شعبك كرامته وحريته،

 وفقد سكناه في مدينة الملك،‍

 وعبادته في هيكل سليمان!

 لكن حساباتك أيها الرب غير حساباتنا،

 وفكرك يعلو عن أفكارنا،

 كما علت السموات عن الأرض!

v     رأي الذين في أورشليم كمن هم في سلة تين رديء للغاية،

 والمسببين كمن هم في سلة تين جيد جدًا!

 ويحي أنا الشقي،

 كم مرة عشت بجسدي في أورشليم،

 وأما قلبي فمبتعد عنك وعن هيكل قدسك!

 ألقيت بنفسي في سلة التين الرديء!

 ترى من يحملني إلى سلة نعمتك؟!

v     احملني بروحك القدوس إلى حضن أبيك، ‍‍

 فأحمل برك وتصير نفسي أورشليمك،

 وتتحول أعماقي إلى هيكل قدسك!

 وتصير كل طاقاتي الداخلية تينًا جيدًا جدًا! ‍

v     نزلت إلينا أيها السماوي،

 وقدمت حياتك الفائقة خبزًا سماويًا،

 نأكلك فنحيا إلى الأبد!

 ارفعنا إليك وأدخلنا إلى سلة حبك،

 نصير تينًا سماويًا،

 طعام فرح للسمائيين!

 يروننا فيتهللون ممجدين غنى نعمتك علينا!‍

v     في سلة حبك نصير تينًا جيدًا!

 تضم التينة بذورًا بلا عدد،

 حلوة المذاق،

 مرتبطة معًا بغلاف الحب والوحدة!‍

 لا تعتزل بذرة عن بقية البذور،

 وإلا فقدت برها فيك وعذوبتها بك!

 ضمنا كلنا معًا فيك،

 غلفنا جميعًا بروح الوحدة والحب والقداسة،

 يا من صرخت في ليلة آلامك قائلاً:

 قدسهم في حقك...

 لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضا مقدسين في الحق...

 ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك،

 ليكونوا هم أيضا فينا!

ليكون فيهم الحب الذي أحببني به وأكون أنا فيهم.

[i] St. Jerome: Ep. 31:3

[ii] The Bethany Parallel Comm. of the O.T., 1985, P. 1584.