الأصحاح الرابع

إعلان المحاكمة

إن كان الله قد كشف لإسرائيل عن مركزه لديه كعروس أحبها وقدّم لها كل إمكانيات الحياة معه، لكنها خانته وكسرت العهد. إنه يفتح لها باب الرجاء مرة ومرات خلال التوبة خاصة في العصرالمسياني. والآن في محبته لا يصدر لها أوامر بل يدخل معها في حوار ومحاجاة بل ومحاكمة لا يغلب، وإنما لكي يعلن أبوته المحبة ويوضح أنه العريس غير المستبد. ففي هذا الأصحاح يبدأ بإعلان محاكمة إسرائيل خاصة ما كان له من قيادات دينية فاسدة.

1. إعلان المحاكمة 1-3.

2. رفض الكهنة للمعرفة4-10.

3. الرجاسات الوثنية11-19.

1. إعلان المحاكمة

يوجه الله الاتهام إلى بني إسرائيل ملقبًا إياهم أرضًا أو سكان الأرض، معلنًا مادة الإلتهام، قائلاً:

"اسمعوا قول الرب يا بني إسرائيل، أن للرب محاكمة مع سكان الأرض، لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض، لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق، يعتنفون ودماء تلحق دماء" [ع2].

إذ ارتبط بنو إسرائيل بحب الأرضيات صاروا أرضًا[30]، أما مادة الاتهام فهي هذه:

أولاً. من الجانب السلبي يقول: "لا أمانة (في الترجمة السبعينية "حق"، ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض". لقد دخل إسرائيل تحت المحاكمة بكون أرضًا فقدت اتحادها بالعريس السماوي، لأنها لا تحمل فيها الحق ولا الرحمة ولا المعرفة الله. بغير هذا الثالوث غير المنفصل في حياة الإنسان ينحدر إلى الطبيعة الأرضية الزائلة.

يبدأ بالأمانة أو الحق، وكما يقول السيد المسيح في صلاته الوداعية، "قدسهم في حقك، كلامك هو حق" (يو 17: 17). لقد رفضوا كلمة الله فرفضوا الحق، مع أنها ليست ببعيدة عنهم، "الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أيّ كلمة الإيمان التي نكرز بها" (رو 10: 8). هذا الحق يلزم أن يكون ملتحمًا بالإحسان أو الرحمة، فلا تكون كلمة الله أو الإيمان بها مجرد كلمات محفوظة أو فكر عقلي بحت، وإنما يجب أن يمس حياتنا. وإذ يتحول الحق فينا إلى عمل تزداد "معرفة الله" فينا فتستنير بصيرتنا بالأكثر. هكذا يتفاعل الحق مع العمل والمعرفة بكونهم يمثلون جوانب متداخلة معًا تخص حياتنا في المسيح يسوع.

ثانيُا: إذ فقد إسرائيل هذا الثالوث: بالإيمان والعمل والمعرفة الروحيّة، أثمر فسادًا، "لعن وكذب وقتل وسرقة، يعتنفون (يستخدمون العنف) ودماء تلحق دماء".

هذه القائمة من الخطايا تعلن في بدايتها كسرهم للوصايا العشر (وصايا 3، 9، 6، 8، 7)، أي كسر العهد مع الله. أما قوله: "يعتنفون" فيعني استخدام أعمال العنف المضادة لروح الله الوديع. وربما تعني تعديهم حدودهم مع الله بعنف، أو في خطاياهم يتعدون العقل أو الضمير أو الناموس لا عن ضعف أو بغير إرادة، وإنما عن عمد وبعنف. وبقوله: "دماء تلحق دماء" ربما قصد دم زكريا بن يهوياداع الكاهن الذي رُجم في دار بيت الرب كأمر يوآش الملك (2 أي 24: 21) فاختلط دمه البريء بدم الذبائح التي كانوا يقدمونها بروح غير مستقيمة.

ثالثًا. يختم اتهامه لبني إسرائيل بقوله: "لذلك تنوح الأرض ويُذبل كل من يسكن فيها مع حيوان البرية وطيور السماء وأسماك البحر أيضًا تنزع" [ع3]. إذ يكسر إسرائيل عهد الله يتحول إلى أرض برية لا تعرف الفرح أو السلام بل النوح والاضطراب. ولا يكون فيها ثمر بل قحط وجفاف، ولا تجد حتى حيوانات البرية أو طيور السماء أو أسماك البحر فيها طعامًا بل يذبل الكل. ثمار كسر العهد هو خراب شامل يمس الأرض كلها بحيواناتها وطيورها وأسماكها.

يقول: "تنوح الأرض" فإن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي من أجله يرتكب الإنسان الشر ليمتعه بالملذات، فإن ثمر هذا الشر هو حرمان هذا الجسد من الراحة والفرح، ليبقى نائحًا! هذا هو ثمرة كسر العهد مع الله واهب السلام، أما الاتحاد معه فيعطي للإنسان في كليته سلامًا حقيقيًا. وكما يقول: الأب يوحنا من كرونستادت: [إذ يحل المسيح في القلب بالإيمان، يسكن فيه السلام والفرح. فإنه ليس بدونه سبب يُقال عن الله أنه قدوس ويستريح في قديسيه[31]]. كما يقول: [إنني أرى بعينيّ قلبي كيف أتنسم المسيح في قلبي عقليًا، كيف يدخل إليه فيهبه فجأة سلامًا وفرحًا. لا تتركني أسكن وحدي بدونك يا واهب الحياة، يا نسمتي، يا فرحي! فإنه يصعب عليّ أن أُترك بدونك[32].]

"ويذبل كل من يسكن فيها"، أيّ تذبل طاقات الإنسان وتتبدد مواهبه كالابن الأصغر الذي بدد أمواله في عيش مسرف، فيصير كميت بلا قيمة، أو جسدًا بلا حيوية. أما المؤمن الحقيقي فيسبح بحق، قائلاً: "تعهدت الأرض وجعلتها تفيض، تغنيها جدًا، سواقي الله ملآنة ماءً... تبارك غلتها، تقطر مراعي البرية وتتنطق الآكام بالبهجة، والأودية تتعطف برًا، تهتف وأيضًا تغني" (مز 65: 9، 13). كأنه يقول لله، وإن كنت أنا أرضًا جافة لكنك تتعهدني فتجعلها تفيض خيرًا مقدسًا كل مواهبك لي، تغنيها جدًا، وتملأ حياتي بمياه الروح القدس الذي يضرم كل الطاقات لحساب ملكوتك، وتبارك غلاتي الداخلية التي هي ثمرك فيّ، تجعل حياتي مثمرة ومملوءة فرحًا وبهجة فتنطق بالتسبيح والأغاني الروحيّة.

أما قوله: "مع حيوان البرية وطيور السماء وأسماك البحر أيضًا تنزع"، ففيه إشارة إلى فساد حياة الإنسان من كل جانب: الأرض حيث توجد الحيوانات، والجو حيث الطيور والمياه حيث الأسماك، فقد صار الخراب شاملاً حتى لا تقدر حيوانات البرية المعتادة على القفر والصحراء أن تعيش بسبب شدة الجفاف، ولا تجد طيور السماء ما تلتقطه، حتى الأسماك تهرب إلى شواطئ أخرى. هذا ومن جانب آخر لعله أراد أن يكشف في محاكمته عن خطورة الخطية فإنها تفسد الحياة، فيمتد الخراب إلى الخليقة غير العاقلة من حيوانات وطيور وأسماك، كما حدث في بداية الحياة البشريّة إذ لُعنت الأرض بسبب آدم وحواء، وصارت تنبت شوكًا وحسكًا. ومن ناحية أخرى أيضًا لعل حيوانات البرية تشير إلى الحياة الجسدية (الحيوانية)، وطيور السماء إلى الفكر الذي يليق به أن يحلق في السماويات، وأسماك البحر تشير إلى الجانب الإيماني[33]، وكأن الإنسان بتركه عريسه السماوي يحطم حياته من كل جوانبها، الجسد والفكر والروح، فيخسر كل ما لديه.

2. رفض الكهنة للمعرفة

إذ أعلن محاكمته لكل بني إسرائيل مقدّمًا مادة الاتهام، طالب بمحاكمة الكهنة ومعهم الأنبياء الكذبة بكونهم المسئولين أولاً عما بلغ إليه هذا الشعب.

يقول: "لا يحاكم ولا يعاتب أحد (غيره) وشعبك كمن يخاصم كاهنًا، فتتعثر في النهار ويتعثر أيضًا النبي معك في الليل وأنا أخرب أمك" [ع5]. ولعله يقصد هنا أن كل إنسان مسئول عن نفسه، ليس لأحد أن يبرر تصرفات الكاهن لمجرد أنه كاهن، فإنه إذ يتعثر في النهار ومعه يتعثر الأنبياء الكذبة ليلاً خلال الأحلام الباطلة، يشترك الكل في خراب السامرة عاصمة إسرائيل أمهم. وكأن الكهنة الأشرار قد اتحدوا مع الأنبياء الكذبة في التعثر نهارًا وليلاً، محطمين الشعب كله.

ويرى البعض أن الحديث هنا موجه إلى الشعب حيث يطالب الله أن يصمت الموبخون الصادقون وأن يتنحوا عن هذا العمل لأنه لا يوجد من يسمع لصوت التوبيخ، فصاروا في قساوة يرفضون كل توجيه حتى أن قدّمه كاهن. إنهم يخاصمون الكاهن الصريح معهم، بل ويضطهدونه كما فعل يوآش ملك يهوذا وشعبه إذ رجموا زكريا بن يهوياداع في دار بيت الرب لأنه نطق بكلمات الرب (2 أي 24: 21).

يوجه الله حديثه إلى الكهنة معلنًا أنهم أهلكوا الشعب بسبب عدم المعرفة: "قد هلك شعبي من عدم المعرفة لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي" [ع6] وقد سبق لنا في مقدمة السفر توضيح المقصود بمعرفة الله في هذا السفر، ورأينا الربط بين معرفة الله والحياة التقوية المقدسة في الرب. لقد ترك الكهنة حياة الشركة مع الله وانشغلوا بمصالحهم الخاصة ففقدوا المعرفة التقوية، وصاروا كمن هم في ظلمة الجهل. إنه لم يقل: "لأنك أنت جاهل" بل "لأنك أنت رفضت المعرفة"؛ كأنه يقول له: إنك بلا عذر فالمعرفة متوفرة لديك والنور قائم، لكنك أنت ترفض المعرفة ولا تقبل النور، وكما قيل: "لم يسروا بمعرفة طرق الله" (أي 21: 14). أما سر رفضهم للمعرفة فهو تركهم لكلمة الله أو الوصية: "ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا بنيك" [ع6]. هكذا يربط معرفة الله بشريعة الله بكون الأخيرة مصدرًا لها. وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [الكتاب المقدس هو مركز حكمة الله وكلمته وروحه... ففيه يعلن بنفسه: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو 6: 63)، في الكتاب المقدس نرى الله وجهًا لوجه، ونرى أنفسنا كما نحن عليه، فيعرف الإنسان ذاته خلاله، ويسلك دومًا في حضرة الله[34].]

وإن أخذنا بالمعنى الرمزي، من هو الكاهن الذي يرفض معرفة الله فيهلك كل الشعب وينسى شريعة الله فينسى الله بنيه إلاّّ القلب الذي كان يليق به أن يكون مركز ملكوت الله، فإذا به يرتبط بالعالم والأمور الزمنية فيفقد نقاوته ولا يعاين الله، بل يصير كمن هو في عمى روحي بلا معرفة حية، ينسى الوصية أو يتناساها. هذا القلب الرافض للمعرفة خلال النقاوة يُهلك كل الشعب أي الجسد كله بطاقاته وإمكانياته، وإذ ينسى الوصية الإلهية لا تثمر الوصية فيه فتكون كمن نست بنيه.

بهذا ندرك ما سبق أن قلناه أن المعرفة لا تُقتنى خلال القراءة وحدها إنما خلال الحياة التقوية التعبدية المقدسة في الرب، خلال الكاهن الداخلي أي القلب النقي الذي يشفع في الجسد كله لدى الله.

يكمل الرب عتابه مع الكهنة، قائلاً: "على حسبما كثروا هكذا أخطأوا إليّ فأبدل كرامتهم بهوان، يأكلون خطية شعبي وإلى إثمهم يحملون نفوسهم، فيكون كما الشعب هكذا الكاهن، وأعاقبهم على طرقهم وأرد أعمالهم عليهم، فيأكلون ولا يشبعون ويزنون ولا يكثرون لأنهم قد تركوا عبادة الرب" [ع7-10]. لقد اتكلوا على كثرة عددهم أو كمية العمل لا على نوعيته، لذلك "حسبما كثروا هكذا أخطأوا إليّ"؛ عوض تقديسهم الداخلي وشهادتهم الحقة أمام شعب الله إذا بهم صاروا بالأكثر مخطئين في حق الله. لقد انشغلوا بالولائم الوثنية وسقطوا في الرجاسات، لهذا صاروا مدانين مع الشعب بلا محاباة.

"يأكلون خطية شعبي" أي يأكلون ذبائح الخطية التي يقدمها الشعب، فلا يهتمون بتوبة الشعب ورجوعهم عن الشر إنما يبتهجون بتقديم الشعب للذبائح لأجل تمتعهم هم بالذبائح، فكلما أخطأ الشعب زاد نصيبهم بكثرة الذبائح! لقد اهتموا لا بالتوبة بل بملء بطونهم لحمًا على حساب تقديس الشعب. لهذا فهم يأكلون ولا يشبعون، ويرتكبون الزنا باتخاذهم السراري فتُنزع البركة عنهم. إنها صورة بشعة لا تليق بالكاهن، لهذا يحذرنا الأب يوحنا من كرونستادت قائلاً: [الكاهن ملاك لا إنسان، يليق به أن يلقي كل أمر عالمي بعيدًا عنه وراءه. يارب، ليت كهنتك يلتحفون بالبرّ (مز 132: 9). ليذكروا على الدوام عظمة دعوتهم ولا يسقطوا في فخاخ العالم والشيطان بل يخلصوا من هموم العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء التي تدخل قلوبهم (مر 4: 19)[35].]

3. الرجاسات الوثنية

بعد إعلانه محاكمة كل بني إسرائيل، خاصة القيادات الدينية، يكشف عن الرجاسات التي سقط الكل فيها:

أولاً: "الزنا والخمر والسلافة تخلب القلب" [ع11]. انحرافهم عن عبادة الله إلى عبادة البعل علته الملذات الجسدية، وكما يقول القديس أُغسطينوس أن وراء كل إلحاد شهوة. فشهوات الجسد إن تُركت بلا ضابط تفسد القلب، وتقتل فيه كل حنين نحو الله كعريس للنفس، فيلجأ الإنسان إلى الهروب من الله حاسبًا إياه كاتمًا لأنفاسه ومحطمًا لشخصيته.

ثانيًا: إذ يترك الإنسان نفسه للتمتع بالملذات الجسدية بغير ضابط ينحدر إلى تصرفات غير لائقة ولا مقبولة مثل أعمال السحر التي ارتبطت في ذلك الحين بعبادة البعل. يقول الله: "شعبي يسأل خشبة (ربما تمثال البعل الخشبي) وعصاة تخبره". عوض الالتجاء إلى الرب إلههم يسألونه المشورة صاروا يلجأون إلى تمثال البعل وأعمال السحر لتحدد لهم الطريق وتكشف لهم المستقبل. إن كل من يترك كلمة الله ويلجأ إلى العالم والبشريّة يكون كمن يستشير الخشبة ويسأل العصا.

ثالثًا: اندفاعهم في العبادة الوثنية؛ يقدمون الذبائح على رؤوس الجبال والبخور على التلال، وتحت أشجار البلوط واللبني والبطم لأن ظلها حسن [ع13]. لقد ضم إسرائيل جبالاً كان يجب أن تكون مقدسة (إر 31: 23) يهرب إليها الراغبون في الخلاص (تك 19: 17)، عليها يأتي العريس السماوي طافرًا (نش 2: 8)، وعليها تقام مدينة أورشليم (مت 5: 14) فلا يمكن أن تختفي، وإليها يصعد السيد المسيح (يو 6: 3)، فتقطر عصيرًا روحيًا لا ينقطع (يؤ 3: 18). هذه الجبال الجبارة تحولت لحساب إبليس، فأُقيم عليها المذابح الدنسة.

وكما ضم إسرائيل جبالاً جبارة تحولت لحساب البعل، هكذا ضم أيضًا نفوسًا أصغر هي تلال كان يليق أن يأتي عليها السيد المسيح طافرًا (نش 2: 8)، هذه أيضًا فسدت فحملت رائحة بخور دنس.

ما أقوله عن الجبال والتلال أكرره عن أشجار البلوط واللبنى والبطم، هذه التي عوض أن تمجد الله صارت مراكز لحساب مملكة الظلمة.

على أيّ الأحوال اختار اليهود الأماكن العالية كقمم الجبال ورؤوس التلال لا ليرتفعوا بفكرهم خلالها عن الأرضيات وإنما ليظنوا أنهم قد اقتربوا إلى السماء، فإذا بهم ينحطون إلى الهاوية. واختاروا الأشجار الكثيفة ظنًا منهم أنها تساعدهم على التأملات الروحيّة، عوض الالتجاء إلى ظل الصليب والراحة في الجنب المطعون.

أخيرًا يقدم لنا صورة بشعة عن انتشار الزنا في حياتهم، معطيًا لنا ملامح لحياتهم الدنسة هي:

ا. كان يرتكب هذه الخطية البنات غير المتزوجات والكِنَّات (زوجات الأبناء) المتزوجات. وكأن الخطية قد صارت عامة اتسم بها جنس النساء، فلا تخجل الفتاة غير المتزوجة من ارتكابه، ولا تستحي الكِنة المتزوجة منه[36].

ب. كأن الله قد يئس منهن، فقد ارتكبن الخطية لا عن ضعف، ولا خلال جهادهن إنما كن يصنعن الشر بصورة مستمرة بغير حياء وبإرادتهن، لذا يرفض الله تأديبهن، وهذه هي أمر عقوبة يسقط تحتها الإنسان، أن يُحرم من أبوة الله خلال امتناع الله عن تأديبه، إذ يقول: "لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" [ع14]. وكما يقول الأب ثيؤدور: [إنه يشبه الطبيب الحاذق الذي استخدم كل وسائل العلاج ولم يعد هناك دواء يمكن استخدامه. لقد غُلب الله من ظلمهم وأُجبر على الكف عن تأديباته الرقيقة، فاضحًا إياهم، قائلاً: "وأحلّ غضبي بك فتنصرف غيرتي عنكِ وأسكن ولا أغضب بعد" (حز 16: 42).] ويقول القديس جيروم: [سعيد هو الإنسان الذي يُؤدَّب في هذه الحياة لأن الله لا يؤدِّب على أمر واحد مرتين (نا 1: 9 الترجمة السبعينية). يا لعظم سخط الرب عندما لا يغضب علينا هنا، فإنه بهذا يحفظنا كثور للذبح. في الحقيقة يقول لأورشليم أن خطاياها كثيرة وشرورها عظيمة لذا تنصرف غيرته عنها ولا يغضب بعد عليها (حز 16: 42). وبتعبير آخر يقول: "عندما كنتِ مجرد زانية أحببتكِ وكنتُ أغير عليكِ، لكن إذ صار لكِ محبون كثيرون اِزدريت بكِ فلا أغير ولا أغضب بعد. بنفس المعنى إذ يحب الرجل امرأته يغير عليها لكنه متى أبغضها لا يقول مع الله "اَفتقد بعصا معصيتهم" (مز 89: 34)، إنما يقول: "لا أعاقب بناتكم أنهن يزنين" (ع14)][37]

ج. أن ما تفعله البنات والنساء هو ثمر طبيعي لبشاعة ما يفعله الرجال، قائلاً: "لأنهم يعتزلون مع الزانيات ويذبحون مع الناذرات الزنى، وشعب لا يعقل يصرع" [ع14]. فإن كان الرجال والشبان يذهبون إلى مذابح البعل المنتشرة في كل البلاد ويعتزلون مع الزانيات مقدّمين ذبائح شر مع الكاهنات الناذرات حياتهن للفساد لحساب البعل، فيسلك هؤلاء الرجال بغير تعقل ويُصرعون أمام الدنس أو يسقطون تحت الخطية، لذلك أسلم الله نساءهم وبناتهم لهذه الشهوات، إذ يقول: "لذلك تزنى بناتكم وتفسق كناتكم" [ع13]. هكذا يؤدب الله الزناه بمرارة ليدركوا بشاعة تصرفاتهم، كما سبق فعاقب داود بتدنيس سراريه (2 صم 2: 11).

د. يصفهم في ارتكابهم لهذا الشر بالبقرة الجامحة [ع16] التي لا تقبل النير، وحينما يوضع عليها تنشمص لتقاوم وترجع إلى الخلف عوض أن تسير به إلى الأمام لتحقق غاية صاحبها. هكذا رفض هذا الشعب نير وصية الله، وأراد الركوض بجنون حسب هواهم الشخصي لا حسب إرادة الله، وصاروا يرجعون إلى الوراء عوض التقدم إلى الأمام.

لقد انطلقوا إلى الأماكن التي انتشر فيها الزنا والعبادات الوثنية كالجلجال وبيت آون (بيت الباطل)، فصاروا كالخروف الذي يرعى في مكان واسع ليُعد للذبح: "يسمنون ويرفسون" (تث 32: 15).

هـ. يقول: "إفرايم موثق بالأصنام، اُتركوه" [ع17]، وفي الترجمة السبعينية: "إفرايم مرتبط (أو شريك) بالأصنام، يضع لنفسه معاثر في طريقه". لقد ربط نفسه بنفسه بالأصنام، فصار شريكًا لها، يحمل سماتها فيه. إذ هي حجرية صار قلبه حجريًا، وإذ هي زائلة وباطلة، قدّم نفسه للهلاك والبطلان.

ارتبط إفرايم بالأصنام فصار كمن هو موثق بها ومستعبد لها لا يقدر أن يسمع نصيحة صالحة ولا أن يتحرر منها، هذه طبيعة الخطية، وكما يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير: [عندما تجهل النفس الخطية، تكون الخطية محبوبة لها، بل وتستعبد النفس التي تحبها وتأسرها[38].]

و. أخيرًا يتساءل: ماذا انتهت منادمتهم؟! أو ماذا تكون نهاية هذا الشراب المر؟ "أحب مجانها أحبوا الهوان، قد صرتها الريح في أجنحتها وخجلوا من ذبائحها" [ع18-19]. لقد أحبوا الهوان أيّ الربح القبيح والفساد، ونالوا عارًا. وأخيرًا يحملهم الريح العاصف إلى السبي، كما على أجنحة الشر ليدخل بهم إلى مذلة العبودية، وعندئذ يخجلون من ذبائحهم الوثنية التي لم تستطيع أن تخلصهم.

إن كان هذا الشعب قد عاش زمانًا بروح الأمم يعبدون الأصنام، فإنهم ينالون شهوة قلبهم إذ يُحملون مسبيين إلى حيث العبادة الوثنية والحرمان من أورشليم وهيكل الرب فيذوقوا مرارة ثمر عملهم!

[30] راجع تفسير هوشع 1: 1.

[31] My Life in Christ. Jardanville 171, Vol 1, P 15

[32] Ibid P.20.

[33] راجع الكنيسة بيت الله 1983م.

[34] My Life in Christ, vol 1, P2. Ibid. P25

[35] Ibid. P25.

[36] Cassion: Conf. 6:11.

[37] On Ps. Hom 51.

[38] الفيلوكاليا، ص32.