الأصحاح
الرابع عشر
ثمار
التوبة
إن
كان هذا السفر
في جوهره هو
سفر "العرس
الإلهي" فيه
يعلن الله
شوقه لشعبه
كعريس يطلب
عروسه،
متحدثًا معها
في صراحة
وبوضوح عن
خطاياها
وآثامها
طالبًا
رجوعها إليه،
فإنه يُختم
بنداء أخير من
جانب العريس
السماوي
طالبًا رجوع
عروسه
الزانية إليه
مبرزًا عمله
معها بطريقة
مبهجة
للغاية،
الأمر الذي يندر
أن نجد سفرًا
في العهد
القديم يختم
بمثل هذا الختام.
هذا وقد أبرز
في ندائه
الأخير
لرجوعها دورها
الإنساني،
كما أعلن دوره
الإلهي في تقديسها
وتمجيدها.
1.
الدور
الإنساني في
التوبة 1-3.
2.
الدور الإلهي
في التقديس 4-9.
1.
الدور
الإنساني في
التوبة
جاء
النداء
الأخير:
"ارجع يا
إسرائيل إلى
الرب إلهك
لأنك قد تعثرت
بإثمك، خذوا
معكم كلامًا
وارجعوا إلى
الرب" [ع1-2].
هكذا يبقى
عريسنا
السماوي
مناديًا
إيانا كل أيام
غربتنا، حتى
نفَسْنا
الأخير،
حاثًا إيانا
على الرجوع
إليه، فهو لا
يلزمنا بالرجوع
قسرًا، لكن
يستعطفنا
بحبه، ويسحب
قلبنا بدعوته
المستمرة وإعلاناته.
وكما يقول الأب
مرقس الناسك: [لا
تستطيع قوة ما
أن ترغمنا على
صنع الخير أو الشر،
غير أن الذي
نحمل له بحرية
إرادتنا -إن كان
الله أو
الشيطان -
فذاك يحثنا
على العمل الذي
يخص مملكته[67].]
إنه
ينادينا
ويبقى
مناديًا
إيانا، لكنه
لا يلزمنا، إذ
يقدر حريتنا
الإنسانية
ويتعامل معنا
على مستوى
الحب
المتبادل لا
كآلات جامدة بين
يديه، وكما
يقول القديس
يوحنا ذهبي
الفم: [نحن
سادة في
إمكاننا أن
نجعل كل عضو
فينا آلة للشر
أو آلة للبرّ
(بالمسيح يسوع)[68]]. كما
يفعل الإنسان
الإثم بكامل
حريته هكذا يليق
به أن يرجع
إلى الرب إلهه
بكامل حريته،
طالبًا العون
الإلهي
لمساندته في
الرجوع.
أول
الطريق في
التوبة هو
الشعور
بالخطأ، إذ يقول:
"لأنك قد
تعثرت (سقطت)
بإثمك"، لذا
يليق بك
الرجوع إلى
الرب إلهك
حاملاً معك
"كلامًا" هو
اعترافك
بالخطأ. فإن
من يدرك في
أعماقه أنه ساقط
بسبب إثمه لا
يعدم كلامًا
ولا يتساءل:
بماذا اعترف؟
أو كيف اعترف؟
فإن الروح
القدس الذي
يفضح له آثامه
هو يسنده في
اعترفه بهذه
الآثام.
هنا
نريد تأكيد أن
الاعترف ليس
مجرد حصر
لخطايا أو
آثام
ارتكبناها،
وإنما أولاً
وقبل كل شيء
هو شعور
بمرارة نحو ما
ارتكبناه،
وكما يقول الأب
مرقس الناسك: [الإنسان
المختبر الذي
يتعلم الحق
يعترف لله بخطاياه،
لا عن طريق
إحصائه لما
صنعه بل مرارة
نفسه لما
يعاني منه[69]]. وكما
يقول الأب
يوحنا من
كرونستادت: [لنسرع
مستعطفين
الله بالتوبة
والدموع. لندخل
إلى أنفسنا
ونتأمل
قلوبنا
النجسة بكل
دقة، إذ نرى
جموع
الرجاسات
التي تمنع
نعمة الله ندرك
أننا أموات
روحيًا[70].]
هذا
الاعترف يحمل
شقين متكاملين:
اعترف بالخطأ
وإيمان بالله
واهب الصلاح،
وكما يقول القديس
أُغسطينوس
إننا نعترف
لله بخطايانا
كما نعترف
بعمله فينا
مسبحين إياه. "قولوا
له: ارفع كل
إثم، واقبل
حسنًا (خير)،
فنقدّم عجول
شفاهنا" [ع2].
نطلب منه أن
يرفع عنا كل
إثم
ارتكبناه،
ويهبنا كل ما
هو حسن أو خير
من عنده قد
فقدناه،
ذبائح شكر هي "عجول
شفاهنا" أو
ثمر شفاهنا
حسب الترجمة
السبعينية.
إدراكنا
للإثم الذي
قتل قلبنا
وأمات نفسنا الداخلية،
واعترفنا
بالله كواهب
الحياة الفاضلة
التي من عنده
تربطنا به
كمخلص وحيد،
فلا نتكئ على
ذراع بشر أيًا
كان هذا الذراع،
قائلين: "لا
يخلصنا آشور،
لا نركب على
الخيل ولا
نقول لعمل
أيدينا
آلهتنا".
فبالنسبة
لشعب إسرائيل
في ذلك الحين
، يدركون أن
آشور الذي
اتكأوا عليه
لم يخلصهم بل
حطمهم
وسباهم،
وقوتهم
الحربية
"الخيل" لم
تقدر أن
تنقذهم من غضب
الله عليهم
بسبب شرهم،
وأصنام البعل
التي هي عمل
أيديهم ليس
بالحق آلهتهم
القادرة على
مساندتهم. هذا
من ناحية ومن
ناحية أخرى أراد
الله أن يعلن
فصل الجانب
السياسي من
الجانب
الروحي،
فالخلاص لا
يتم بذراع
بشري، مهما
كانت قدرته أو
سلطانه أو
عظمته كآشور،
ولا بقوة
زمنية كالخيل
ولا بالآلهة
التي هي من صنع
أيدينا... إنما
الخلاص هو من
عند الله.
بمعنى آخر
ليتنا لا نتكئ
على آشور، أيّ
على الآخرين،
ولا على
قدرتنا
ومواهبنا
وإمكانياتنا
الذاتيّة
(الخيل)، ولا
على برّنا
الذاتي
(آلهتنا
الداخلية)،
إنما نقول: "بك
يُرحم
اليتيم" [ع3].
بدونك صرت
يتيمًا بلا أب
سماوي، فمن
يرحمني غيرك؟!
وكما يقول
القديس جيروم:
[الأيتام هم
الذين فقدوا
الله آباهم[71].]
2.
الدور الإلهي
في التقديس
إن
كان إسرائيل
قد صار في
حالة مرضية
يصعب بل يستحيل
علاجها، فإن
الله هو
الطبيب
الوحيد القادر
على معالجته،
إذ يقول: "أنا
أشفي
ارتدادهم" [ع4].
وكما
يقول القديس
بفنوتيوس: [الحق
أن القديسين
لا يقولون قط
أنهم قد بلغوا
ذلك الطريق
الذي يسلكونه
بتقدم وكمال
في الفضيلة
بجهادهم
الذاتي،
وإنما بفضل
الله، قائلين:
"دربني في
حقك" (مز 25: 5)[72].]
يتقدم
الرب كطبيب
حقيقي يشفي
النفس
المرتدة، أما
دافعه لهذا
العمل فهو
الحب الخالص
المجاني. "أنا
أشفي
ارتدادهم،
أحبهم فضلاً
(مجانًا)، لأن
غضبي ارتد
عنه" [ع4]. لقد
أعلن الطبيب
محبته
الشافية،
قائلاً: "لأنه
هكذا أحب الله
العالم حتى
بذل أبنه الوحيد
لكي لا يهلك
كل من يؤمن به
بل تكون له
الحياة
الأبديّة" (يو
3: 16).
ماذا
قدّم الطبيب
لمرضاه
المحبوبين
إليه؟
"أكون
لإسرائيل
كالندى،
ويضرب أصوله
كلبنان.
تمتد
خراعيبه
(فروعه) ويكون
بهاؤه
كالزيتونة وله
رائحة كلبنان.
يعود
الساكنون في
ظله يحيون
حنطة ويزهرون
كجفنة (ككرمة).
يكون
ذكرهم كخمر
لبنان.
يقول
إفرايم: ما لي
أيضًا
وللأصنام؟!"
[ع5-8].
في
اختصار
يمكننا القول
بأن الله يقدم
لهم ذاته كندى
نازل من
السماء
يرويهم؛
وينعشهم فيجعلهم
كالسوسن
المزهر؛
ويجددهم
داخليًا فتتعمق
جذورهم
الخفية؛
وينميهم
روحيًا فتمتد
فروعهم بلا
توقف؛ ويهبهم
جمالاً
ومجدًا
روحيًا
فيكونون
كالزيتونة في
بهائها؛
ويسكب رائحته
فيهم فتكون
لهم رائحة
لبنان،
ويستخدمهم
لراحة
الكثيرين
فيضمون الكثيرين
تحت ظلالهم،
ولفرح
الكثيرين إذ
يزهرون
كالكرمة، ولا
يقطع ذكرهم
الطيب.
أولاً.
"أكون
لإسرائيل
كالندى" [ع5].
قديمًا قال
الرب لموسى:
"أنا أمطر لكم
خبزًا من
السماء" (خر 16: 4)،
كما قيل: "متى
الندى على
المحلة ليلاً
كان ينزل المن
معه" (عد 11: 9). أما
الآن فلا ينزل
لنا خبزًا، إنما
نزل هو نفسه
إلينا مقدمًا
جسده المقدس
خبزًا
سماويًا يشبع
القلب، نزل
إلينا كندى
يطفئ لهيب
الشهوات، يحل
على محلتنا
الداخلية
ليجعلها
محلته
ومسكنه، ينزل
ليلاً وسط
ظلمتنا في
الخفاء ليجعل
منها نهارًا
ساطعًا.
إذ
أُلقي
الثلاثة فتية
في أتون النار
ظهر كلمة الله
معهم، فصار
الأتون ندى
بالنسبة لهم،
وهكذا أن صار
العالم نارًا
وأتونًا،
فتجلى السيد
المسيح فينا
يحوِّل
حياتنا إلى
ندى!
ثانيًا:
"يزهر
كالسوسن".
يقول العريس
السماوي: "أنا
نرجس شارون،
سوسنة
الأودية" (نش 2:
1)، وها هو يجعل
من شعبه
سوسنًا مزهرًا.
وكما يقول العلامة
أوريجينوس: [إذ
صار هو سوسنة
الأودية إنما
لكي تصير
حبيبته أيضًا
سوسنة تتمثل
به... بمعنى أن
كل نفس تقترب
إليه وتتبع
خطواته
وتتمثل به
تصير سوسنة[73].] ويرى القديس
غريغوريوس
أسقف نيصص أن
النفس
كالسوسنة
تصعد مستقيمة
إلى فوق نحو المسيا
كرَّامها
الحقيقي. إنه
يرتفع بها فوق
هموم هذه
الحياة
وأشواك
الخطية
الخانقة للنفس
(مز 4: 18)، ويعلوا فوق
أتربة هذه
الحياة حتى لا
تتدنس[74]. هكذا
ينعش السيد
المسيح
كنيسته
واهبًا إياها
"كل بركة
روحيّة في
السماويات"
(أف 1: 3)، فتحمل سماته
السماوية
وتحقق رسالته
فيها.
ثالثًا:
"ويضرب أصوله
كلبنان".
إن كانت
الكنيسة
بالتصاقها بالسيد
المسيح تصير
حاملة
استقامته
وشركة طبيعته
فتحسب مثله
سوسنة في
البرية وسط
الأشواك، فإن
سر هذه الحياة
هي أصولها
الخفية، أو
جذورها التي
تتمتع بعمل
نعمته ، فتحمل
حياته فيها
لتقول على
لسان الرسول
بولس: "بنعمة
الله أنا ما
أنا، ونعمته
المعطاة لي لم
تكن باطلة" (1
كو 15: 10).
رابعًا:
بقدر ما تضرب
الأصول في
التربة لتحمل
فيها "حياة
المسيح"،
تمتد فروعها
الظاهرة
لتحمل ثمار
الروح القدس
بفيض، فلا
تعرف العقم
وعدم الإثمار.
خامسًا:
"ويكون بهاؤه
كالزيتونة".
هكذا المؤمن
يحمل سمات
السيد وحياته
خلال الجذور،
وثماره على
الفروع
(خراعيبه)،
وأيضًا بهاء
السيد ومجده
في الداخل
والخارج. وكما
يقول السيد
لعروسه:
"وجملت جدًا
جدًا فصلحت
لمملكة، وخرج
لكِ اسم في
الأمم لجمالكِ،
لأنه كان
كاملاً
ببهائي الذي
جعلته عليكِ
يقول السيد
الرب" (حز 16: 13-14).
المؤمن
الحقيقي وهو
ينتظر شركة
مجد المسيح في
الأبديّة
يتذوق عربون
هذا المجد أو
هذا البهاء في
حياته
الداخلية،
وكما يقول القديس
مقاريوس
الكبير أن ما
يناله فيما
بعد لا يكون
إلا
اِمتدادًا للعربون
الذي تمتع به
هنا في داخله.
سادسًا:
"له رائحة
كلبنان". إذ
يحمل بهاء
الله كزيتونة
مثمرة، تظهر
فيه رائحة
المسيح
الذكية. وكما
يقول الرسول:
"يُظهر بنا
رائحة معرفته
في كل مكان،
لأننا رائحة
المسيح الذكية
لله وفي الذين
يهلكون" (2 كو 2: 14-15).
سابعًا:
"يعود
الساكنون في
ظله يحيون
حنطة ويزهرون
كجفنة، ويكون
ذكرهم كخمر
لبنان".
يحملون قلبًا
منفتحًا
بالحب ليضموا
تحت ظلالهم كثيرين
يقدمون لهم
طعامًا
روحيًا
وشرابًا مفرحًا،
وتبقى سيرتهم
ذكرى طيبة
خالدة تشهد لعريسهم
السماوي.
ثامنًا:
"يقول إفرايم:
مالي أيضًا
وللأصنام؟!"
إن كان إفرايم
هو السبط الذي
أثار بقية
الأسباط
العشرة على
عبادة
الأصنام، فهو
أيضًا السبط
الذي يندم على
هذا العمل
معلنًا
كراهيته للشر.
هكذا تتحول
طاقات الشر في
الإنسان إلى
طاقات البناء
لحساب مملكة
العريس
السماوي الحق.
هذه
صورة مبسطة
لعمل الله في
حياة شعبه ،
بل في حياة كل
عضو منهم حتى
رجع إليه
بالتوبة وسلّم
حياته بين
يديه ليعمل
فيه. فالله
يستجيب لتوبتنا
ولرجوعنا
إليه، قائلاً:
"أنا قد
أحببت
فألاحظه
(ولاحظته)" [ع8].
كأنه كان
مترقبًا
رجوعنا
وملاحظًا كل
ما في داخلنا،
منتظرًا أدنى
تحرك من
جانبنا كي يتحرك
نحونا بحبه.
وكما يقول
الرسول:
"اقتربوا إلى
الله فيقترب
إليكم" (يع 4: 8).
إنه
يقترب إلينا
كشجرة سرو
دائمة
الإخضرار قائلاً
لنا: "أنا
كسروة خضراء"
[ع8]. إنه يظلل
علينا فلا
تقدر شمس
التجارب أن تؤذينا.
ويؤكد لنا
الرب أنه هو
واهب الثمر في
حياتنا: "ومن
قبلي يوجد
ثمرك" [ع8].
أخيرًا
يختم السِفر
بنصيحة
يقدمها لنا
جميعًا لكي
نتعقل فنرجع
إلى الرب
بالتوبة
لننال ثمرها:
"من هو حكيم
حتى يفهم هذه
الأمور،
وفهيم حتى
يعرفها، فإن
طرق الرب
مستقيمة
والأبرار
يسلكون فيها،
أما المنافقون
فيعثرون
فيها" [ع10].
بهذا يلهب
الشوق فينا
لفهم طرق الرب
والسلوك فيها
بحكمة فلا
نتعثر، وكما
يقول الأب
ثيوفيلس من
رجال القرن
الثاني: [من له
الرغبة في
التعلم يتعلم
كثيرًا، لهذا
يليق بك أن
تجاهد لتلتقي
معي بالأكثر
في سماع الصوت
الحيّ لتدرك
الحق بكل دقة.]
[67] الفيلوكاليا، ص102.
[68] PG 49:117.
[69] الفيلوكاليا، ص144.
[70] My Life in Christ, vol 1, P3.
[71] Comm. On osee 14:2-4.
[72] Cassion: Conf.3:13.
[73] Comm. On Cant 4:4.
[74] للمؤلف: نشيد الأناشيد، 1980م، ص57.