يونان
في البحر
الثائر
إن
كان يونان قد
هرب من الخدمة
إلى يافا
ليبحر إلى
ترشيش في
عصيان الله،
الأمر الذي
أثار البحر
بنوء عظيم حتى
لم يهدأ إلاَّ
بإلقائه فيه،
فمن جانب آخر
فإن يونان
يُمثل السيد
المسيح حامل
خطايانا الذي
ألقى بنفسه في
بحر حياتنا المضطرب
ليهبنا
سلامًا
فائقًا خلال
ذبيحة المصالحة.
1. دعوة
يونان
[١-٢].
2. هروبه
إلى
ترشيش
[٣].
3. يونان
والنوء
العظيم
[٤-٧].
4. يونان
والنوتية
[٨-١٢].
5. يونان في
جوف
الحوت
[٣-١٧].
"صار
قول الرب إلى
يونان بن
أمتاي،
قائلاً: قم أذهب
إلى نينوى
المدينة
العظيمة وناد
عليها، لأنه
قد صعد شرهم
أمامي" [١-٢].
وفي الترجمة
السبعينية:
"صعد صراخ
شرهم أمامي".
كانت
الدعوة
الفريدة في
نوعها، فهو
النبي الوحيد
الذي دُعي
لخدمة مدينة
أممية لا
ليتنبأ عنها
بالدمار
وإنما
ليدعوها للتوبة
حتى لا يحل
عليها الغضب
الإلهي. ولم
يكن ممكنًا
لهذا النبي أو
غيره أن يتقبل
مثل هذه الدعوة
ليس لكراهية
نحو الأمم
وإنما لحبه
لشعبه، كما
سبق فقلنا أن
خلاص الأمم
إنما يتحقق مع
زلة إسرائيل،
وإيمان
العالم خلال
جحود الشعب
القديم (رو ١١: ١١).
على أي
الأحوال، إذ
كان يونان غير
قادر بفكره
البشري أن
يتقبل الدعوة
فهرب، لكن
الله الذي يرى
نقاوة قلبه
إستخدم حتى
هروبه لتحقيق
مقاصده
الإلهية نحو
الأمم.
جاء
في الترجمة
السبعينية:
"لأنه قد صعد
صراخ شرهم
أمامي"، فإن
كانت الحياة
المقدسة تتجلى
في أكمل صورها
في السيد
المسيح الذي
لا يصيح ولا
يسمع أحد في
الشوارع صوته
(مت ١٢: ١٩). فإن
الحياة
الشريرة تحمل
في أُذني الله
صراخًا أو
ضجيجًا لا
تقبله السماء
ولا يستريح له
خالقها، يكشف
عن فقدان
السلام
الداخلي. لقد
قتل قايين
الشرير أخاه
هابيل وصمت
بفمه عن
الحديث في هذا
الأمر لكن
بصمات شره
كانت تصرخ
منطلقة خلال
دم إخيه
المسفوك، إذ
يقول الرب:
"صوت دم أخيك
صارخ إليَّّ
من الأرض" (تك ٤:
١٠)، كما قيل
في شر سدوم
وعمورة: "صراخ
سدوم وعمورة
قد كثر" (تك ١٨: ٢٠).
لقد
دُعي يونان،
الذي يعني
إسمه "حمامة"
للكرازة في
نينوى
المدينة
العظيمة التي
إرتفع صراخ
شرها حتى
السماء، وكأن
الله أراد أن
يحطم صرخات
الشر بوداعة
الحمامة،
ويعالج
الجراحات
الملتهبة
بالزيت
اللين،
ويطفيء النار
بالماء!
إن
كان العالم قد
تحول إلى ضجيج
لا ينقطع وصرخات
ظلم مرّة فهو
في حاجة إلى
الكنيسة أو
المؤمن الحقيقي
الذي له
العينان
الحمامتان (نش
١: ١٥؛ ٤: ١). عينا
السيد المسيح
القائل:
"تعلموا مني
لأني وديع
ومتواضع
القلب" (مت 11: 29)،
عينا الروح
القدس الحمامة
الحقيقية،
لكي بالوداعة
نرث الأرض (مت ٥:
٥) لحساب
السيد المسيح
فتصير ملكوته
المملوء فرحًا
وسلامًا.
إن
كان الأشرار
أرضًا لا
سماءً بسبب
محبتهم
للأرضيات وتعلقهم
بالزمنيات،
فإذ نحمل فينا
يونان الحقيقي،
نكسبهم
بوداعة روحه
القدوس فلا
يصيروا بعد
أرضًا بل
سماءً. وكما
يقول القديس
يوحنا
كليماكوس:
[يجد الرب
راحة في
القلوب
الوديعة، أما
الروح
المضطربة فهي
كرسي الشيطان.
الودعاء
يرثون الأرض
أو بالحري
يسيطرون
عليها، أما ذو
الخلق الشرير
فيطردون من
أرضهم[7]].
إن
كانت نينوى
المدينة
العظيمة تمثل
الجسد الذي
ترتفع صرخات
شهواته
الشريرية
أمام الرب فليس
من يقدر أن
يرفع عنه هذه
الصرخات
إلاَّ يوناننا
الحقيقي الذي
يملأ النفس
ويقدس الجسد
أيضًا.
"فقام
يونان ليهرب
إلى ترشيش من
وجه الرب فنزل
إلى يافا ووجد
سفينة ذاهبة
إلى ترشيش
فدفع أجرتها
ونزل فيها
ليذهب معهم
إلى ترشيش من
وجه الرب" [٣].
لماذا
أراد يونان
الهروب إلى
ترشيش من وجه
الرب عوض
الذهاب إلى
نينوى؟
أولاً:
يرى القديس
چيروم أن
يونان لم
يحتمل الذهاب
إلى نينوى
فتخلص على
حساب شعبه
إسرائيل،
فعصى الرب لا
عن كراهية في
القلب وإنما
عن غيرة من
جهة شعبه،
وكأنه يمتثل
بموسى النبي
الغيور في
قوله: "إن غفرت
خطيتهم
وإلاَّ
فامحني من
كتابك الذي
كتبت" (خر ٣٢: ٣١،
٣٢). فقد ظهر
موسى كمن
يقاوم الرب
لكنه إقتنى
مراحم الله
لشعبه ولم يمح
الله إسمه من
كتابه. بنفس
الروح يقول
الرسول بولس:
"أود لو كنت
أنا نفسي
محرومًا من
المسيح لأجل
إخوتي
أنسبائي حسب
الجسد الذين
هم
إسرائيليون"
(رو ٩: ٣). لقد
اشتهى لو حُرم
هو نفسه لكي
يحيا إخوته
بالمسيح،
حاسبًا موته
ربحًا، بهذا الحب
لم يمت بل
استحق الحياة
التي إشتهاها
لهم. هكذا خشي
يونان من
كرازته
للأشوريين
أعداء إسرائيل
هلاك إسرائيل
نفسه، فهرب
إلى ترشيش، أي
الإتجاه
المضاد. يرى
البعض أنها
ترتيسوس الواقعة
في جنوب
أسبانيا قرب
جبل طارق[8]، أو
قرطاجنة في
شمال أفريقيا.
ثانيًا:
كلمة "ترشيش"
كما يرى القديس
چيروم تعني
"بحر" أو
"تأمل في
الفرح"، فإن
كانت كلمة
"يافا"[9]
بالكنعانية
تعني "جمال"،
فإن يونان عوض
أن ينطلق خلال
وصية الله إلى
الكرازة
لنينوى
بالخلاص
إستحسن
النزول إلى
جمال فكره
البشرية
وحكمته
الإنسانية أي
إلى يافا
ليلقي بنفسه
في ترشيش أي
في بحر هذا العالم
أو في
التأملات
المفرحة دون
الجهاد الحق
وحمل الصليب
عمليًا. هذا
التصرف يمثل
تصرفات
الإنسان
السالك حسب
هواه لا حسب
وصية الرب الصعبة.
ثالثًا:
يونان النبي
وهو يعرف أن
الله "إله
السماء الذي
صنع البحر
والبر" (١: ٩)،
وقد يشهد
بذلك، إذ
يتكيء على
فكره البشري خارج
الإيمان
يندفع نحو
الهروب من
الله. وكما يقول
القديس
يوحنا الذهبي
الفم: [حقًا
لقد هرب من
البر لكنه لم
يهرب من غضب
الله! هرب من الأرض
لكنه جلب على
نفسه العواصف
في البحر[10]]. كان
يليق به
بالحري لا أن
يهرب من الله
بل إلى الله،
ففيه وحده يجد
المؤمن سلامه
وأمانه!
إن كان يونان
قد هرب إلى
البحر من صانع
البحر نفسه
لهذا استدعاه
الرب بلغة
جديدة تليق به
كهارب هي لغة
الضيقات المتوالية،
إذ "أرسل
الرب ريحًا
شديدة إلى
البحر فحدث
نوء عظيم في
البحر حتى
كادت السفينة
تنكسر" [٤].
صار الرب
يحدثه بلغة
الريح
الشديدة
والنوء العظيم
والسفينة
الفاقدة
لاتزانها،
الأمور التي
تُناسب يونان
وتكشف عما في
داخله من ريح
عصيان عنيف،
ونوء اضطراب
داخلي عظيم،
وسفينة قلبه
غير المتزنة.
يقول
القديس
چيروم: [يُشير
هروب يونان
إلى حال
الإنسان بوجه
عام فباحتقاره
وصايا الرب
هرب من وجهه
وسلم نفسه للعالم
فاشتد به نوء
العالم
ليغرق، عندئذ
إلتزم
بالتأمل في
الله والرجوع
إلى من هرب
منه... كانت
السفينة في
خطر...
والأمواج
هائجة بواسطة
الرياح... فإنه
متى كان الرب
غير راضٍ لا
يكون شيء في
أمان].
سمع
الغرباء صوت
الله بالرغم
من عدم
معرفتهم له،
بينما تثقلت
أُذني يونان
عن السماع، إذ
قيل "فخاف
الملاحون
وصرخوا كل
واحدٍ إلى
إلهه، وطرحوا
الأمتعة التي
في السفينة
إلى البحر
ليُخففوا
عنهم، وأما
يونان فكان قد
نزل إلى جوف
السفينة واضطجع
ونام نومًا
ثقيلاً" [٤-٥].
كان الملاحون
وثنيين،
ومعرفتهم عن
الله يشوبها
الكثير، ومع
ذلك إذ تحدث
الله بلغة
الشدة والضيق
إمتلأوا
خوفًا ولم
يتصرفوا
إلاَّ بعد أن
صرخ كل واحدٍ
منهم إلى
إلهه، فكان
الله بالنسبة
لهم أولاً
وقبل كل شيء
بالرغم من عدم
معرفتهم له.
يقول
القديس
چيروم: [لقد
ظنوا أن
السفينة
بأمتعتها
الطبيعية ثقيلة
جدًا ولم
يدركوا أن
الثقل قائم
بسبب النبي الهارب.
لقد خاف
الملاحون
فصرخ كل واحد
إلى إلهه، إذ
كانوا يجهلون
الحق لكنهم لم
يجهلوا
العناية
الإلهية. خلال
تدينهم
الخاطيء
عرفوا شيئًا
وأدركوا بعض
العمق
الروحي... أما
إسرائيل فلم
يستطع الوسع
ولا الألم أن
يقوداه إلى
معرفة الله.
لذلك بكى يشوع
على الشعب
كثيرًا أما
عيون الشعب
فكانت جافة].
كان
الوثنيون
يصرخون إلى
آلهتهم
ويلقون
بأمتعتهم في
البحر، كل
واحد يصلي
ويعمل قدر إستطاعته،
أما يونان وهو
يدرك أنه سبب
البلية فنزل
إلى جوف
السفينة
لينام نومًا
ثقيلاً، وكأنه
أراد ألاَّ
يرى أمواج غضب
الله عليه، أو
كمن تناول
مخدرًا ليهرب
من واقعه
المؤلم.
إن
كان نوم يونان
يمثل نوعًا من
الرخاوة، لكنه
في نفس الوقت
قدم لنا
جانبًا
نبويًا
طيبًا، فمن
جهة كان يمثل
البشرية
المُستريحة
في الرب وسط
أمواج هذا
العالم
المضطرب.
فعندما كان هيرودس
مزمعًا أن
يقدم الرسول
بطرس ليقتله
(أع ١٢: ٦)، كان
بطرس يغط في
نومٍ عميق وهو
مربوط بسلسلتين
بين عسكريين
في السجن وتحت
حراسة مشددة.
ومن جانب آخر
كان يونان
يمثل السيد المسيح
الذي نام على
الصليب كما في
السفينة ليُقيم
حواء الجديدة
من جنبه
المطعون تنعم
بالراحة
الحقيقية
فيّه، لقد نام
أيضًا على الصليب
لكي يُدفن في
بطن الحوت
ليقوم واهبًا
إيّانا قوة
القيامة. وكما
يقول القديس
چيروم: [بينما
كان الآخرون
في خطر إذا به
في أمان ينام
ويقوم. وبناء
على طلبه
وبسرّ آلامه
خلّص الذين
أيقظوه[11]].
نعود
إلى الملاحين
ورئيسهم
لنجدهم
يتصرفون بحكمة
فائقة مع لطف
ووداعة، إذ
قيل: "فجاء
إليه رئيس
النوتية وقال
له: مالك نائمًا،
قم أصرخ إلى
إلهك عسى أن
يفتكر الإله
فينا فلا
نهلك. وقال
بعضهم لبعض:
هلم نلقي
قرعًا لنعرف
بسبب من هذه
البلية،
فألقوا
القرعة فوقعت
القرعة على
يونان" [٦-٧].
اتسم
رئيس النوتية
بوداعة فائقة
في حديثه مع النبي
الذي يغط
نومًا في وقت
كان الكل فيه
يصرخ ويصلي
ويلقي
بالأمتعة في
البحر... لقد
تحدث برقة
زائدة لم يجرح
فيها مشاعره،
حثه على
الصلاة بلطف،
الأمر الذي لا
نجده أحيانًا
في المؤمنين
بل وفي الرعاة
أنفسهم، إذ
يفقدون
سلامهم عند
التوبيخ
ويخسرون
هدوءهم
ليصلحوا من
شأن الآخرين.
نقول
أن الله الذي
سبق فتحدث مع
النبي ربما
خلال رؤيا أو
إعلان للعمل
في نينوى، عاد
ليحدثه خلال
الطبيعة
الثائرة، وإذ
سد أُذنيه حدثه
خلال
الوثنيين،
قائلاً له:
"مالك
نائمًا، قم
اصرخ إلى إلهك
عسى أن يفتكر
الإله فينا
فلا نهلك".
وكأنه يقول:
"مالك نائمًا
في داخل قلبك،
فإن إلهك الذي
تهرب منه يقدر
أن يخلصنا نحن
الأمم من
الهلاك، إن
كنت تحب شعبك
وأمتك فانصت
إلى توسلاتنا
وتطلع إلى
إشتياقنا ولا تستهن
بإيماننا،
فإن كنا لم
نعرف بعد
الإله الذي
تعبده، لكننا
بالإيمان
نقبله فلا
نهلك!".
والعجيب
أن البحارة
ألقوا قرعة
فكشف الله عن الحقيقة
وأدركوا أن
يونان علة غضب
الله... وكما
يقول القديس
چيروم: [إن كان
الله أرشدهم
خلال القرعة
إنما يحدثهم
خلال فكرهم،
فلا يبرر هذا
إستخدامنا
للقرعة. لقد
أرشد الله
بلعام خلال
أتانه (عد ٢٢: ٢٨)،
ليعلن له أن
الحيوان
الأعجم أدرك
ما لم يدركه
الإنسان في
شره، وكما
تحدث الله مع
المجوس خلال
النجم، وكما
سمح لقيافا أن
يتنبأ وهو لا
يعرف حين قال
أنه ينبغي أن
يموت واحد عن
الشعب كله.
على أي الأحوال
إن كان يونان
في حبه لشعبه
إستهان بخلاص الأمم
فخلال القرعة
كشف له الله
أنه لا يحتقر أمميًا،
إنما يحدثهم
بلغتهم ويكشف
لهم عن الحقيقة
حتى خلال
ممارستهم فما
قدمته القرعة
حمل توبيخًا
إلهيًا خفيًا
ليونان المُستهين
بخلاص الأمم!].
"فقالوا
له: أخبرنا
بسبب من هذه
المُصيبة
علينا؟ ما هو
عملك؟ ومن أين
أتيت؟ وما هي
أرضك؟ ومن أي
شعب أنت؟ فقال
لهم: أنا
عبراني وأنا
خائف من الرب
إله السماء
الذي صنع
البحر والبر"
[٨-٩].
وفي
وسط التيارات
العنيفة
والنوء
الشديد والخطر
المحدق كنا
نتوقع في
النوتية أن
يفقدوا سلامهم
وهدوءهم،
لكنهم أثبتوا
أنهم حكماء، فإذ
رأوا في يونان
سرًا صاروا
يسألونه عن كل
حياته
بالتفصيل...
طالبين
المعرفة
الحقة. فكانت
أسئلتهم
توبيخًا
لطيفًا
إستخدمه الله
لإصلاح يونان
نفسه، ففيما
هم يسألون كان
يليق بيونان
أن يُراجع
نفسه في
تصرفاته. وكما
قال القديس
چيروم: [كان
هدف القرعة أن
يضغط النوتية
عليه ليعترف
بلسانه عن سبب
هذا النوء
وعلة غضب
الله]. أي ليعترف
بعصيانه للرب
وهروبه من ذاك
الذي خلق البحر
والبر.
وقد
جاءت الأسئلة
بالنتيجة
المرجوة إذ
إعترف قائلاً:
"أنا عبراني،
وأنا خائف من
الرب إله
السماء الذي صنع
البحر والبر".
وكما يقول القديس
چيروم: [إنه لم
يقل "أنا
عبراني"
قاصدًا اللقب
الخاص بشعبه
الذي ينتمي
إلى أحد
أسباطه، إنما
قصد أنه عابر
كإبراهيم،
وكأنه يقول:
أنا ضعيف وراحل
كسائر آبائي،
وكما جاء في
المزمور:
"عبروا من
مدينة إلى
أخرى ومن
مملكة إلى شعب
آخر... إنني
خائف من الرب
إله السماء
وليس من
الآلهة التي
تضرعون إليها
العاجزة عن
الخلاص. إنني
أتضرع إلى إله
السماء الذي
صنع البحر
والبر، البحر
الذي أهرب
إليه، والبر
الذي أهرب منه!].
اعترف
يونان بخطئه
فتعرف
البحارة على
الله المخوف
بحق، إذ قيل: "فخاف
الرجال خوفًا
عظيمًا،
وقالو له:
لماذا فعلت
هذا؟! فإن
الرجال عرفوا
أنه هارب من
وجه الرب لأنه
أخبرهم" [١٠].
أدركوا أنه
إنسان مقدس
هارب من الله
القدوس لذا
سألوه لا
توبيخًا له
وإنما كما يقول
القديس
چيروم:
[استفسارًا عن
سرّ تصرفه].
بعد
تمتعهم
بمعرفة الله
سألوا يونان: "ماذا
نصنع بك ليسكن
البحر عنا؟
لأن البحر كان
يزداد
اضطرابًا" [١١].
يقول
القديس
چيروم: [كأنهم
يقولون: إنك
تقول بأنه
بسببك صار
الريح
والأمواج
والبحر في
هياج. لقد
كشفت لنا عن سبب
المرض فافصح
عن الدواء.
هوذا البحر
يرتفع ضدنا، وعرفنا
أننا صرنا
موضع غضب
لأننا أخذناك.
أخطأنا إذ
إستضفناك،
فماذا نفعل
حتى يسكن غضب
الله علينا؟
ماذا نفعل بك؟
هل نقتلك؟
لكنك من مؤمني
الرب! هل
نحتفظ بك؟ إنك
هارب من الله!
الآن ليس لنا
إلاَّ أن
نُنفذ أمرك،
فلتأمر حتى
يهدأ البحر،
فإن إضطرابه
يشهد عن غضب
الخالق... لا
يمكن التأجيل
بعد، أمام
إنتقام الخالق؟].
"فقال
لهم: خذوني
واطرحوني في
البحر فيسكن
البحر عنكم،
لأنني عالم
أنه بسببي هذا
النوء العظيم
عليكم" [١٢].
قدم
يونان العلاج
وهو طرحه في
البحر الهائج
فيسكن النوء
العظيم، فقد
كان هذا النوء
بسبب عصيانه
للرب فلا يهدأ
إلاَّ
بإلقائه في
المياه
لتوبته، ومن
ناحية أخرى
فإن يونان
كممثل للسيد
المسيح حامل خطايا
العالم كان
لابد أن يُلقى
به على الصليب
ويُسلم للقبر
لينعم
المؤمنون به
بالمصالحة مع
الآب ويدخلون
إلى سلامه
الأبدي.
يقول
القديس
يوحنا الذهبي
الفم: [توقع
يونان أن يهرب
بواسطة
السفينة،
فإذا بالسفينة
تكون له
قيودًا[12]]. ظن أنه
قادر على
الهرب من إله
البحر خلال
سفينة فأمسك
به وسط المياه
الثائرة داخل
السفينة
ليحصره وسط
الضيق ويدخل
به إلى
التوبة. إستخدم
الله ذات
الوسيلة التي
ظنها يونان
لهربه من يد
الله لكي يمسك
به ويرده
إليه. ما أجمل
العبارة التي
قالها القديس
يوحنا الذهبي
الفم: [لم تكن
هناك حاجة إلى
أيام كثيرة
ولا إلى نصائح
مستمرة لكن في
بساطة نقول
كانت الحاجة
أن يقوده كل
شيء إلى
التوبة (أي
يستخدم الله
كل الظروف
لخلاصه).
فالله لم يقده
من السفينة
إلى المدينة
مباشرة،
وإنما سلمه
البحارة للبحر،
والبحر
للحوت،
والحوت لله،
والله لأهل
نينوى، وخلال
هذه الدائرة
الطويلة ردّ
الشارد حتى
يعرف الكل أنه
لن يمكن
الهروب من يد الله[13]].
يُعلق
القديس
چيروم على
الكلمات التي
نطق بها يونان
مع البحارة، قائلاً:
[إن هذا النوء
يبحث عني،
يُهددكم بالغرق
لكي تمسكوا
بيّ وبموتي
تحيون! إنني
أعرف بالحقيقة
أن هذا النوء
العظيم هو
بسبي... هوذا الأمواج
تأمركم أن
تلقونيّ في
البحر فتجدون
هدوءًا...
لنلاحظ هنا
عظمة الهارب
فإنه لا يراوغ
ولا يكتم
الأمر ولا
ينكر بعدما
اعترف بهروبه
من الله،
وإنما يتقبل
العقاب بقلب
متسع. يُريد
أن يموت ولا
يتحطم
الآخرون
بسببه].
وللقديس
چيروم
أيضًا تعليق
جميل على
كلمات يونان
هذه بكونها
نبوة عن عمل
السيد المسيح
– يوناننا
الحقيقي – الذي
قَبِلَ أن
يموت ليفدي
الشعب كله، إذ
يقول: [يوناننا
يقول: إنني
بالحقيقة
أعرف أن هذا
النوء العظيم
عليكم هو
بسببي، فإذ
تراني الرياح مبحرًا
معكم إلى
ترشيش أي إلى
"التأمل
المفرح"،
أقودكم إلى
المجد، حتى
حيث أوجد أنا
هناك تكونون
أنتم أيضًا
عند الآب،
لهذا يحدث غضب.
العالم يبكي
والطبيعة
تضطرب! الموت
يُريد أن
يبتلعني لكي
يقتلكم في نفس
الوقت وهو لا
يدرك أنه
يأخذني كطعم،
فبموتي يموت
هو! خذوني إذن
واطرحوني في
البحر!].
"لكن
الرجال جذفوا
ليرجعوا
السفينة إلى
البرّ فلم
يستطيعوا،
لأن البحر كان
يزداد اضطرابًا
عليهم. فصرخوا
إلى الرب
وقالوا: آه يا
رب، لا نهلك
من أجل نفس
هذا الرجل،
ولا تجعل علينا
دمًا بريئًا
لأنك يا رب
فعلت كما أمرت"
[١٣-١٤].
أبرز
هذا السفر في
بساطة
الجوانب
الطيبة لهؤلاء
الأمميين،
ففي البداية
لم يلقوا
بأمتعتهم ولا
تصرفوا بحسب
خبرتهم كبحارة
إلاَّ بعد أن
صرخ كل واحد
إلى إلهه،
فوضعوا آلهتهم
أولاً قبل
خبرتهم الأمر
الذي يتجاهله
كثير من
المؤمنين. مرة
أخرى حين
ألقوا القرعة
ووقعت على
يونان لم
يجرحوا
مشاعره بكلمة
ولا أهانوه
بالرغم من
الخسائر
الكثيرة التي
لحقت بهم
بسببه، وحتى
عندما إعترف
بخطئه وأشار
إليهم بطرحه
في البحر
حاولوا
إنقاذه بكل
وسيلة، وإذ
فشلوا تمامًا
وأدركوا أنها
مشيئة الله أن
يطرحوه في
البحر كانوا
في رعدة يخشون
غضب الله،
ويسألونه
ألاَّ يسمح
بهلاكهم من
أجل نفس هذا
الرجل! ألم
تكن هذه
التصرفات
المملوءة
حبًا ورقة
وحكمة كافية
لتوبيخ يونان
الذي دعاه
الرب لخلاص
الأمم في
نينوى فهرب!
لقد قدم له
عينة من
الأمميين
يفوقون
المؤمنين
أنفسهم. لو
قورنوا
باليهود
الذين لهم
الشريعة ومعهم
النبوات
ورأوا أعمال
المسيح
العجيبة وشهادة
السماء
والأرض
والبحر وكل
خليقة له، حتى
بيلاطس
الأممي غسل
يديه أمامهم
ومع ذلك صرخوا
"دمه علينا
وعلى
أولادنا"،
ألا يُحسبون
أفضل منهم؟!
يعلق
القديس
چيروم على
تصرفات
الملاحين،
قائلاً:
[كانوا
يريدون أن
يسحبوا
المجداف
ويهزموا الطبيعة
حتى لا يفضحوا
نبي الرب...
ظنوا أنهم قادرون
أن يخلصوا
السفينة من
الخطر ولم
يضعوا في إعتبارهم
الدور الذي
يقوم به يونان
أنه يجب أن
يتألم].
[عظيم
هو إيمان
الملاحين،
فقد كانوا في
خطر ومع هذا
كانوا يصلون
من أجل حياة
الغير. عرفوا
جيدًا أن
الموت الروحي
أبشع من الموت
الطبيعي، إذ
قالوا: "لا
تجعل علينا
دمًا بريئًا".
يجعلون الله
نفسه شاهدًا
حتى لا يتهمهم
فيما لا يستطيعون
عليه، وكأنهم
يقولون له: لا
نُريد أن نقتل
نبيك إنما هو
أعلن عن غضبك
عليه، والنوء
أكدّ إرادتك يا
رب، هذه التي
نحن نتممها
بأيدينا].
[بينما
لا يود الأمم
موت المسيح
مؤكدين أنه دم
بريء (مت ٢٧: ٢٥)،
إذا باليهود
يقولون: "دمه
علينا وعلى
أولادنا"،
لهذا متى
رفعوا أيديهم نحو
السماء لا
يُستجاب لهم،
لأن أيديهم
مملوءة دمًا].
"ثم
أخذوا يونان
وطرحوه في
البحر فوقف
البحر عن
هيجانه" [١٥].
يقول
القديس
چيروم: [لم يقل
"أمسكوه" أو
"انقضوا
عليه" بل
"أخذوه" كمن
حملوه
باحترام
وإكرام،
وطرحوه في
البحر مسلمًا
نفسه بين
أيديهم بلا
مقاومة، عندئذ
وقف البحر عن
هيجانه، إذ
وجد من كان
يبحث عنه.
عندما نقتفي
أثر شارد نجري
وراءه بكل
قدرات
أرجلنا، وإذ
نمسك به نتوقف
بالغنيمة.
هكذا كان
البحر هائجًا
بدون يونان،
وإذ أُخذ في
أعماقه من كان
يشتهيه إبتهج
بأخذه إياه
وعيَّد له
وهدأ فرحًا].
يرى
القديس
يوحنا الذهبي
الفم في
إلقاء يونان
العاصي في
البحر إشارة
إلى طرد
الخطية من
سفينة حياتنا
ليعود إلينا
سلامنا الحق
الذي نزعته
آثامنا، إذ
يقول: [إضطربت
المدينة بسبب
خطايا أهل
نينوى،
وإضطربت السفينة
بسبب عصيان
النبي. لذلك
ألقى البحارة
يونان في
العمق فحُفظت
السفينة. لنلق
نحن أيضًا
خطايانا
فتبقى
مدينتنا في
أمان أكيد![14]].
ويرى
القديس
چيروم في
إلقاء يونان
في البحر
إشارة إلى
آلام السيد
المسيح، التي
نزعت عن بحرنا
هياجه، وخلصت
السفينة ومن
بها من الخطر.
خلال آلام
السيد المسيح
إمتلأ العالم
سلامًا داخليًا
فائقًا!
"فخاف
الرجال من
الرب خوفًا
عظيمًا
وذبحوا ذبيحة
للرب ونذروا
نذورًا" [١٦].
إذ
أُلقى يونان
في البحر إي
احتمل السيد
المسيح
الآلام حتى
الموت خلصنا
من العبادات
الوثنية
القديمة،
واهبًا إيانا
مخافته
العظيمة وتقديم
ذبيحته
الكفارية
الفريدة
وإيفاء نذورنا
للرب أي تكريس
حياتنا له
تمامًا.
يقول
القديس
چيروم: [عندما
مات يونان
الهارب في
البحر خلصت
السفينة التي
هزتها الرياح
وخلص عابدوا
الأوثان]. كما
يقول: [قبل
آلام الرب
تضرعوا إلى
آلهتهم تحت
تأثير الخوف (1: ١٠)،
أما بعد
الآلام
فخافوه بمعنى
عبدوه ومجدوه...
لقد خافوه
خوفًا عظيمًا
إي من كل
النفس ومن كل
القلب ومن كل
الفكر (تث ٦: ٥؛
مت ٢٢: ٣٧).
وذبحوا
ذبيحة؛
بالتأكيد لا
تعني المعنى
الحرفي، إذ لا
توجد ذبائح في
البحر، لكن
ذبيحة الرب
إنما هي الروح
الأصيل، وكما
قيل: "قدموا للرب
ذبيحة الحمد،
أوف للعلي
نذورك" (مز ٤٩: ١٤)]
...
إذن
بطرح يونان في
البحر أو دخول
السيد المسيح
إلى آلامه حلّ
علينا روح
المخافة
الإلهية، وصار
لنا حق تقديم
ذبيحته
المقدسة،
وإيفاء نذورنا
له!
"وأما
الرب فأعد
حوتًا عظيمًا
ليبتلع
يونان، فكان
يونان في جوف
الحوت ثلاثة
أيام وثلاث ليالِ"
[٧].
لم
تسر الأمور
بلا تدبير أو
تخطيط إلهي،
لكن الله الذي
أرسل الريح
الشديدة فحدث
نوء عظيم يعلن
غضب الله على
العصيان هو
الذي أرسل
سمكة ضخمة
بجوار السفينة
تبتلع يونان
لتهبه مبيتًا
آمنًا لا
موتًا، تكشف
له عن رعاية
الله به، يقول
القديس
چيروم: [أظهر
الرب غضبه حين
كان يونان في
السفينة،
وأظهر فرحه
حين دخل إلى
الموت]،
معللاً ذلك
بأنه يمثل
السيد المسيح
الذي أمات
الموت بموته.
حقًا لقد ظهر
يونان كضحية
للموت يبتلعه
الجحيم، لكن
لم يستطيع أن
يحتمله في
داخله أكثر من
ثلاثة أيام
وثلاث ليالِ
بل قذفه من
جوفه، ليقول
النبي: "أين
أوباؤك يا
موت؟! أي شوكتك
يا هاوية؟!"
(هو ١٣: ١٤).
لقد
أكد السيد
المسيح ما حدث
ليونان في جوف
الحوت كرمز
لما حدث مع
السيد نفسه،
بقوله: "لأنه كما
كان يونان في
بطن الحوت
ثلاثة أيام
أيام وثلاث
ليالِ هكذا
يكون ابن
الإنسان في
قلب الأرض
ثلاثة أيام
وثلاث ليالِ"
(مت ١٢: ٤٠).
كيف
بقى السيد
المسيح في
الأرض هذه
المدة؟
أولاً:
يرى القديس
چيروم أن
اليهود
يحسبون الجزء
من اليوم
كيومٍ كامل،
فتُحسب مدة
الموت للسيد
المسيح من
الجمعة حتى
الأحد، وإن
كان قد مات في
نهاية الجمعة
وقام في فجر
الأحد. ويرى القديس
يوحنا الذهبي
الفم أنه لو
بقى السيد حتى
نهاية يوم
الأحد لكان
الجند قد
تركوا القبر
وصدق اليهود
أن خبر
القيامة من
صنع التلاميذ.
إفتعلوه بعد
ترك الجند
للموقع، لذا
قام والجند
يحرسون القبر.
ثانيًا:
يُقدم القديس
چيروم رأيًا
كان له من
ينادي به هو
إعتبار ساعات
الظلمة على
الصليب ليلاً
جديدًا
فريدًا من نوعه.
ثالثًا:
يُحسب البعض
مدة الدفن منذ
اللحظة التي
سلم فيها
السيد جسده
المبذول في
أحشاء
تلاميذه في
العشاء
الأخير، كمن
هو مدفون في
الأرض البشرية
ليقيمها معه
سماءً له
بقيامته في
فجر الأحد.
على
أي الأحوال
لقد دفن السيد
ثلاثة أيام
وقام، هذه هي
الحقيقة التي
شهدها التلاميذ
وأكدها الرب
ببراهين
كثيرة
لنعيشها كسرّ
قيامتنا
اليومية
وغلبتنا على
الموت والجحيم.
هذا
وقد استخدم
يونان بدخوله
إلى الموت
وخروجه كدليل
حيّ على قيامة
الجسد في
اليوم الأخير[15].
[7] Step 24: 7, 8
[8] Herod. 4: 152.
[9] يافا: مدينة على شاطيء البحر المتوسط، تبعد حوالي ٣٥ ميلاً شمال غربي أورشليم.
[10] Conc. Stat. 5: 18.
[11] PL. 26: 25 In Matt 1.
[12] Conc. Stat. 6: 14.
[13] Ibid 5: 19.
[14] Ibid 5: 18.
[15] Tert. On Resur. of The Flesh 58.