دعوة
لبناء بيت
الرب
إذ
فتر الشعب في
غيرته نحو
بناء بيت الرب
صاروا يقولون:
"إن الوقت لم
يبلغ بعد
لبنائه"،
فصار النبي
يحثّهم على
العمل، وجاء
حديثه بالثمر
المطلوب.
1.
موضوع
النبوّة
[1-2].
2. توبيخ
على الأهتمام
بالزمنيّات
[3-11].
3. ثمر
الدعوة
[12-15].
1.
موضوع
النبوّة
في
مقدّمة
النبوّة حدّد
تاريخها،
ولمن سُلّمت،
ولمن وُجّهت،
وموضوعها:
أولاً: فمن
جهة تاريخها،
نطق بها النبي
في أول يوم من
الشهر السادس
(أيلول) في
السنة
الثانية لملك
داريوس
الفارسي.
لعلّه اجتمع
مع المحتفلين
بالعيد
الشهري، حيث
اعتاد اليهود
(إلى يومنا هذا
بالنسبة للأرثوذكس
منهم) أن
يجتمعوا في
أول الشهر
القمري لممارسة
العبادة
الجماعيّة.
استغل النبي
الاجتماع
ليعلن كلمة
الرب الصريحة
والفعّالة.
ثانيًا:
سُلّمت
النبوّة "عن
يد حجى
النبي"... كيف
تُسلّم
النبوّة في
اليد؟ يقول القديس
أغسطينوس: [إن
كلمة "يد" هنا
تعني "قوة"،
وأن كلمة
النبويّة قد
سلّمت في أيدي
الأنبياء كسيف
قوي يُحطّم
الشرّ. لقد
قبلوا في
أيديهم كلمة
الله في قوّة
لينطقوا ما
أرادوا لمن
يريدوا الحديث
معهم، فلا
يهابون قوّة
ولا يستخفون فقرًا.
في أيديهم سيف
(روحي)
يستلّونه
حينما أرادوا،
يمسكون به
ويضربون. هذا
كلّه في سلطان
الكارزين[5]].
ثالثًا:
وجّه النبي
الكلمة
النبويّة إلى
الوالي والكاهن
اللذين كانا
متحمّسين
للعمل لكن
المقاومات
الخارجيّة
والداخليّة
قد أوقفتهما.
أما الوالي
فيدعى
"زربابل" وهو
حفيد
يهوياكين الملك
من نسل داود،
اسمه يعني
(مولود في
بابل). ويدعى
أيضًا شيشبصر
أقامه كورش
الفارسي
واليًا على
يهوذا (عز 5: 14).
أما يهوشع بن
يهوصادق
الكاهن
العظيم، فأسمه
يعني (يهوه
خلاص) واسم
والده يعني
(يهوه برّ)،
وقد سبق لنا
الحديث عنه
كرمز للكاهن
الأعظم يسوع
المسيح
خلاصنا
وبرّنا في
الآب[6].
في
دراستنا لسفر
زكريّا رأينا
الوالي يرمز للإرادة
الإنسانيّة
التي أقامها
الله في الإنسان
لكي تدير
الحياة في
الرب كملك
صاحب سلطان
على النفس
والجسد
والفكّر
والأحاسيس،
بينما الكاهن
يُشير إلى
القلب الذي
يتقدس لله بالروح
القدس فيسكن
فيه مسيحنا
بكونه أسقف
نفوسنا
وشفيعنا بدمه
لدى أبيه. فإن
كان الحديث النبوي
هناك موجّهًا
نحو الوالي
والكاهن، إنّما
لأن كلمة الله
تُحدّث
الإرادة
الإنسانيّة
والقلب معًا.
فإنه لن يُبنى
هيكل الرب
فينا ما لم
تنحن إرادتنا
ويخضع قلبنا
أمام الله قائلين:
"أنا أمة الرب
ليكن ليّ
كقولك". بمعنى
آخر يليق بنا
لكي ننعم
بالمقدس
الإلهي الذي
أُقيمت
أساساته في
مياه
المعمودية
بالروح القدس بل
وتشكل في
داخلنا
ليزداد مجدًا
يومًا فيومًا
بعمل الله
فينا، يليق
بنا أن نُسلّم
زربابلنا
الداخلي
ويهوشعنا بين
يديه، أي
نسلّمه الإرادة
الحيّة
العاملة مع
القلب بكل
مشاعره.
حقًا
إن إرادتنا هي
"زربابل"، إذ
وُلدت في بابل
حيث كنا تحت
سبى الخطيّة،
لكن الرب وحدة
يُحرّرها من
سبيها
ويطلقها إلى
أورشليم
العليا لا
لتقود خمسين
ألفًا من
الرجال
للعمل، وإنّما
تحمل في
داخلها طاقات
وإمكانيّات
الرب نفسه
فيها ليعمل
بها وبكل
مواهبها
وأحاسيسها...
لحساب ملكوته.
وكما
نحتاج إلى
تقديس
الإرادة
بتحريرها من سبيها
العنيف بعمل
الصليب، هكذا
نحتاج إلى تقديس
القلب أيضًا،
حتى يسكنه
يهوشع
الحقيقي أي
يسوعنا الذي
هو "الله
مخلصنا" وفي
نفس الوقت هو
"يهوصادقنا"
أي (الله
برّنا).
رابعًا: أما
موضوع
النبوّة فهو: "هكذا
قال رب الجنود
قائلاً: هذا
الشعب قال إن الوقت
لم يبلغ، وقت
بناء بيت الرب"
[2].
يبدأ
حديثة مع
الشعب بقوله:
"قال رب
الجنود"، وكأنّه
أراد أن يؤكّد
لهم أنهم إن
كانوا يعملون
لحساب ملكوته
فهم جنوده وهو
قائدهم الذي لا
يعرف سوى
الجهاد
الروحي بلا
رخاوة، إنّه
رب الجنود!
ولعلّه قصد
أيضًا
توبيخهم إنهم
إن كانوا قد
تركوا العمل
في رخاوة
واستهتار فهو
في غير حاجة
إلى أيدي
عاملة، إذ هو
رب الجنود السماويّة...
لكنّه يطلبهم
للعمل لأنه
يحبّهم ويشتاق
للعمل خلالهم.
وفي
بداية حديثة
لا يقل "شعبي"
بل "هذا
الشعب" ففي
دراستنا لسفر الخروج
وبعض أسفار
الأنبياء
لاحظنا أنّه
متى أخطأ
الشعب لا
يدعوه: "شعبه"
أي لا ينسبه
إلى نفسه،
وذلك كما حدث
في حديثة مع
موسى، إذ قال له:
"قد فسد شعبك"
(خر 32: 7)، ناسبًا
الشعب لموسى
لا لنفسه. أما
حينما يتقدّس
الشعب فيحلو
له أن يفتخر
به حاسبًا
إيّاه شعبه،
وسبوتهم
سبوته،
وأعيادهم
أعياده،
وتقدماتهم تقدماته.
أما
سرّ حزن الله
على هذا الشعب
فهو أنهم أقاموا
الحجج
والتبريرات
للامتناع عن
العمل، قائلين:
لم يبلغ الوقت
لبناء بيت
الرب. لقد
تعلّلوا بأن
المقاومات
الخارجيّة هي
إشارة إلهيّة
بأن وقت العمل
لم يحن،
ولعلّهم أيضًا
برّروا ذلك
بأنه يليق بهم
أولاً أن
يهتمّوا
ببيوتهم حتى
تستريح
عائلاتهم،
وعندئذ يعملون
لحساب بيت
الرب بقلب
مستريح، ولم
يدركوا أنّه
يليق أن يكون
الله أولاً في
حياتهم، كقول
السيّد:
"أطلبوا
أولاً ملكوت
الله وبرّه وهذه
كلها تزاد
لكم" (مت 6: 33).
حياتنا
في الواقع هي
مجموعة من
الفرص، إن ضاعت
فرصة قد لا
تتكرّر، فلا
يليق بنا
القول: "إن الوقت
لم يبلغ بعد"
لئلا نصير
كفيلكس
الوالي الذي
أرجأ فرصة
التوبة إلى أن
يجد الوقت
المناسب (أع 24: 25)
فلم نسمع أنّه
وجد الوقت،
إنّما يليق
بنا القول:
"عظوا أنفسكم
كل يوم مادام
الوقت يُدعى
اليوم لكي لا
يقسَّى أحد
منكم بغرور
الخطيّة" (ع 3: 13)،
"مفتدين
الوقت لأن
الأيام
شريرة" (أف 5: 16).
2.
توبيخ على
الاهتمام
بالزمنيّات:
في
الوقت الذي
فيه يقولون
بأن الوقت لم
يحن لبناء بيت
الرب يسكنون
هم في بيت لهم
مغشاة، تليق
بالملوك (1 مل 7: 7؛
إر 22: 14)، وكأنهم
ليس فقط
قدّموا
الزمنيّات عن
الأبديّات
وإنّما حتى في
تدبيرهم
للأمور
الزمنيّة
سكنوا في قصور
مترفة تليق
بالملوك
والعظماء.
إن
كانوا يسكنون
القصور
الفخمة لكن
يليق بهم أن
يرجعوا
أنفسهم
ويتأمّلوا
حياتهم من
جديد، إذ يقول
لهم: "اجعلوا
قلوبكم على
طرقكم" [5].
ولعلّ كلمة
"قلوبكم" هنا
تعني التأمّل
في الحياة
الداخليّة أو
مراجعة
النفس، وكما
يقول الرسول:
"ليمتحن كل
واحد عمله"
(غلا 6: 4)، أي يحكم
على نفسه قبل
أن يحكم الغير
عليه... وها هو
النبي
يُساعدهم على
مراجعة أنفسهم
بقوله: "زرعتم
كثيرًا
ودخلتم
قليلاً،
تأكلون وليس إلى
الشبع،
تشربون ولا
تروون،
تكتسون ولا تدفئون،
والآخذ أجرة
يأخذ أجرة
لكيس مثقوب" [6].
إذ
يرفض الإنسان
الالتصاق
بالله خالقه
إنّما يرفض
البركة في
حياته،
فالطبيعة
تقاومه والأرض
لا تعطيه
ثمرها، حتى
جسده لا يتمتّع
بالشبع
والكفاية
مهما قُدم له.
قد يزرع
كثيرًا لكن
الحصاد قليل،
وقد يأكل
بنهَم كل ما
يشتهيه ولكن
بلا شبع،
وينال أجرة
بلا كيل لكنّه
كمن يضعها في
كيس مثقوب.
هذا ما حذّر
منه الكتاب في
أكثر من موضع،
فيقول الكتاب:
"بكسريّ لكم
عصا الخبز
تخبز عشر نساء
خبزكم في تنور
واحد
ويردّدون
خبزهم بالوزن
فتأكلون ولا
تشبعون" (لا 26: 26)؛
"من أجل
خطاياك أنت
تأكل ولا تشبع
وجوعك في
جوفك... أنت
تزرع ولا
تحصد، أنت
تدوس زيتونًا
ولا تدهن
بزيت، وسلافة
ولا تشرب
خمرًا" (مي 6: 14-15
راجع هو 4: 10).
يرى القديس
إكليمنضس
الإسكندري
أن صاحب الكيس
المثقوب هو
الذي يجمع
أمواله ويغلق
عليها فلا
يعطي
للآخرين، إذ
يقول: [من يجمع
قمحه ويغلق
عليه، من لا
يعطي أحد يصير
إلى حالة أفقر[7]]. لهذا
عندما مدح القديس
جيروم الكاهن
الضرير
أبيفايوس
قال له: [إنك لا
تضع أجرتك في كيس
مثقوب بل تضع
كنوزك في
السماء[8]].
وفي مناظرات القديس
يوحنا كاسيان
يقول الأب
إبراهيم: [إن
صاحب الكيس
المثقوب هو من
يسمع أقوال
الغير لكنه
يفقدها بسبب
عدم ضبطه
لنفسه وعدم
تركيز ذهنه[9]].
هكذا
يفقد الإنسان
البركة حتى في
الأمور الزمنيّة
باعتزاله
مصدر البركة.
هذا ما يؤكّده
الرب مرّة
أخرى مهدّدًا
لا للانتقام
وإنّما ليردّ
الإنسان
إليه، فيقول: "لأجل
بيتي الذي هو
خراب وأنتم
راكضون كل
إنسان إلى
بيته، لذلك
منعت السموات
من فوقكم
الندى، ومنعت
الأرض غلتها،
ودعوت بالحرّ على
الأرض وعلى
الجبال وعلى
الحنطة وعلى
المسطار وعلى
الزيت وعلى ما
تنبته الأرض
وعلى الناس
وعلى كل أتعاب
اليدين" [11].
إذ
يتجاهل
الإنسان
خالقه
تتجاهله
الخليقة فتمنع
السموات
نداها والأرض
غلتها، حتى
الجو يفقد
لطفه فيختنق
بحرّه
الإنسان
والحيوان
والنبات على
الجبال
والمناطق
السهلة،
مفسدًا كل تعب
اليدين. جاء
في سفر
التثنية:
"وتكون سماؤك
التي فوق رأسك
نحاسًا،
والأرض التي
تحتك حديدًا،
ويجعل الرب
مطر أرضك
غبارًا
وترابًا ينزل
عليك من السماء
حتى تهلك" (تث 28:
23-24). حينما يُقسي
الإنسان قلبه
تصير له
السماء قاسية
كالنحاس
والأرض حديدًا
بلا ثمر، وإذ
تكون أفكاره
أرضية ترابية
يتحوّل المطر
بالنسبة له
إلى تراب
يهلكه... وكأن
الطبيعة
تُقدّم له مما
هو مختفي فيه.
جاء في
الترجمة
السبعينيّة
"ودعوت بالسيف
على الأرض
وعلى الجبال...
الخ"، فلا يكفي
غضب الطبيعة
عليه، إنّما
يفقده سلامه
مع إخوته
فيلاحقونه
بالسيف أينما
وُجد، حتى إن
اختفي على
الجبال وسط
الصخور،
ويبدّدون
بالعنف كل
ثماره.
يمكننا
أيضًا تفسير
الكلمات
الإلهيّة
"لأجل بيتي
الذي هو خراب
وأنتم راكضون
كل إنسان إلى
بيته" هكذا،
إنّه يعني
مسكنه الداخلي
فينا الذي
يصير خرابًا
بفقدانه الله
نفسه كساكن
فيه فتهرب
النفس إلى
بيتها، أي تتقوقع
حول ذاتها
وتتشبّث
بأنانيّتها،
عندئذ عوض
المكسب تدخل
إلى خسارة
وفقدان تام،
إذ تفقد النفس
(السموات)
نعمة الله
(الندى)
وتُحرم من عمل
الروح القدس،
وتمنع الأرض
غلّتها أي يفقد
الجسد
قدسيّته، فلا
يكون فيه ثمر
مفرح لله
والإنسان،
فتتحوّل
حياته إلى
اضطراب شديد حيث
يلاحقه السيف
الداخلي
أينما وجد.
يُحطّم السيف
أرضه أي جسده،
وجباله أي
إمكانيّاته المتشامخة
ويُفسد حنطته
ومسطاره
(الخمر الجديد)
وزيته أي يفسد
طعامه وشرابه
ودواءه
ليجعله جائعًا
ظمآنًا
ومريضًا!
لم
يتركنا الله
هكذا لكنّه
يقدم العلاج: "هكذا
قال رب
الجنود:
أجعلوا قلبكم
على طرقكم،
اصعدوّا إلى
الجبال وأتوا
بخشب وابنوا
البيت فأرضى
عليه وأتمجّد"
[7-8].
أ. يبدأ
العلاج
بالقول:
"أجعلوا قلبكم
على طرقكم"
فلا إصلاح
للنفس بدون
مراجعة الإنسان
لنفسه، لا
بمحاسبته
لنفسه على
تصرّفاته
الخارجيّة أو
الظاهرة
فحسب، وإنّما
بالتأمّل في
القلب ذاته.
فإن كان هذا
السفر هو سفر
بناء بيت الرب
الداخلي،
فإنه يرفع
فكرنا إلى
داخل القلب
بكونه مركز
العمل. وكأنّه
يقول: هيّئوا
قلبكم ليقيم
الرب مسكنه
فيكم بروحه القدّوس.
ب. لا
يقف الأمر عند
مجرّد
التأمّل في
القلب وإنّما
يقول: "اصعدوا
إلى الجبل"...
عوض جبلنا المتشامخ
أي (الأنا)
التي تهدمنا
إلى
الهاويّة، نرتفع
إلى الجبل
الذي قال عنه
دانيال النبي:
"أما الحجر
الذي ضرب
التمثال فصار
جبلاً كبيرًا
وملأ الأرض
كلها" (دا 2: 35).
هذا هو الجبل
الذي قيل عنه:
"لا يمكن أن
تخفى مدينة
موضوعة على
جبل" (مت 5: 14).
إذن
لنصعد بالرب
نفسه لنتأسّس
عليه كجبل يملأ
الأرض
ويرفعنا
كمدينة منيرة
وكهيكل مقدّس،
بكونه صخر
إيماننا. هناك
نجلب خشبًا
لنبني بيت الرب،
أي نحمل صليبه
ونشترك معه في
آلامه، إذ لا
تقوم مقدّسات
الرب فينا
خارج آلامه.
ج.
أخيرًا يقول:
"ابنوا البيت
فأرضى عليه
وأتمجّد". مع
أنّه هو
الباني للبيت
كقول المرتل:
"إن لم يبنى
الرب البيت
فباطلاً يتعب
البناءون"
لكنّه يؤكّد
"ابنوا
البيت"
مؤكّدًا
تقديسه
للحرّيّة
الإنسانيّة،
فهو لا يقيم
البيت فينا
بغير إرادتنا
ولا بدوننا،
بل وينسب
العمل لنا مع
أنّه هو
العامل فينا.
3.
ثمر الدعوة:
جاءت
الكلمات
النبويّة
بثمرها
المفرح إذ سمع
الوالي
والكاهن وكل
بقيّة الشعب
كلمات الرب
وخافوا أمام
وجهه وبدءوا
في العمل.
وكأن الإنسان
إذ ينصت
للكمات
الإلهيّة
تخضع إرادته
(الوالي)
وينحني قلبه
(الكاهن)
وتتجاوب كل
طاقاته (بقيّة
الشعب) ليمتلئ
بكليّته من
مخافة الرب
ويعمل بقوّة
خلال انسجام
داخلي مفرح.
[5] On Ps. 149.
[6] راجع تفسير هوشع أصحاح 3.
[7] Instr 2:3.
[8] Ep. 76:3.
[9] Conf. 24:13.