تقديم يفتاح ابنته ذبيحة بشرية لا يتفق مع إيمان يفتاح ومعرفته الواعية عن الله. إن ذلك الافتراض لا يصدر إلاَّ من رجلٍ جاهلٍ وقاسٍ، لا يشفق على ابنته، التي كان يمكن نجاتها من مأزق الموت بأمر الشريعة ولكنه تقاعس وأهمل في طلب نجاتها، وفي هذه الحالة يكون يفتاح أيضًا أحمق، لأنه لم يحاول إيجاد مخرجًا لإنقاذها.
إن تقديم يفتاح أيضًا ابنته ذبيحة محرقة لله أمر مستحيل، لأن الله لا يقبل محرقات بشرية، وتقديم يفتاح ابنته ذبيحة محرقة أيضًا أمر لا يمكن إتمامه عمليًا لأسباب عديدة.
فيما يلي نذكر ذلك بالتفصيل من خلال النقاط التالية:
أولًا: ناموس موسى يتنافى مع تقديم يفتاح ابنته ذبيحة محرقة
نلاحظ أن طقس المحرقة كما جاء بسفر اللاويين يتنافى مع تقديم يفتاح ابنته محرقة للأسباب الآتية:
١. حدد سفر اللاويين الحيوانات الطاهرة، التي تقدم محرقة للرب، وهي ذكور البقر والغنم والماعز، ومن الطيور الحمام واليمام، وما عدا ذلك من ذبائح لا يجوز تقديمه لأنه مكرهة للرب.
٢. يتم طقس ذبيحة المحرقة بمعرفة الكاهن، كقول الكتاب: "وَيَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُقَرِّبُ بَنوُ هَارُونَ الْكَهَنَةُ الدَّمَ، وَيَرُشُّونَهُ مُسْتَدِيرًا عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ" (لا١: ٥).
وهذا يعني أن تقديم ابنة يفتاح محرقة كان لا بد أن يكون بيد كهنة ذلك الزمان، وهذا أمر مستحيل، لأنه يخالف الشريعة، التي لا تحتوي على طقس خاص بتقديم ذبائح بشرية.
- الذبائح الحيوانية رمز لموت الفادي بدلًا عن الناس
عز على الله منذ بداية وجود البشر على الأرض هلاكهم؛ فأسس الله مبدأ الفداء وموت البديل من الحيوانات كرمز لموته هو نيابة وبديل عن البشر، ولم يحدث مطلقًـــا أن الله قبل ذبائح بشرية على مر الزمان، لكنه أعلن مرارًا وتكرارًا كرهه وغضبه الشديد تجاه تلك العبادات الوثنية البغيضة، التي يُقدم فيها مثل هذه الذبائح.
إن طلب الله من إبراهيم تقديم ابنه إسحاق محرقةً كان على سبيل امتحان طاعته، وإظهار ما بقلبه نحو الله. وقد تدخل الله في الوقت المناسب بعد نجاح أب الآباء إبراهيم في الامتحان، فقدم ملاك الله الكبش البديل، الذي ذبح بديلاً عن إسحاق، وهكذا رجع الفتى حيًا، وهو ما يرمز لقيامة الرب يسوع ابن الله حيًا من الأموات.
- منع الله بني إسرائيل تقديم ذبائح بشرية
ذكر الوحي الإلهي في أكثر من موضع غضب الله على سكان كنعان بسبب كثرة شرورهم، والتي تمثلت في أبشع صورها في تقديم أبنائهم ذبائح بشرية لآلهتهم، وقد حَرَّم الله على شعبه هذا الشر عند دخولهم أرض كنعان بقوله:
- "لاَ تَعْمَلْ هكَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ، لأَنَّهُمْ قَدْ عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ كُلَّ رِجْسٍ لَدَى الرَّبِّ مِمَّا يَكْرَهُهُ، إِذْ أَحْرَقُوا حَتَّى بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ بِالنَّارِ لآلِهَتِهِمْ" (تث١٢: ٣١).
- "مَتَى دَخَلْتَ الأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولئِكَ الأُمَمِ. لاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ، وَلاَ مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً، وَلاَ عَائِفٌ وَلاَ مُتَفَائِلٌ وَلاَ سَاحِرٌ" (تث١٨: ٩-١٠).
- "وَأَهْرَقُوا دَمًا زَكِيًّا، دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ الَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ، وَتَدَنَّسَتِ الأَرْضُ بِالدِّمَاءِ" (مز١٠٦: ٣٨).
ثانيًا: إيمان يفتاح يتنافى مع تقديمه ابنته للموت لآلهة غريبة
يفترض البعض أن يفتاح قدم ابنته ذبيحة بشرية على طريقة الوثنيين سكان كنعان، الذين قدموا أبناءهم محرقات لآلهتهم، لكن هذا الادعاء لا يتفق مع إيمان الرجل، الذي شهد له الوحي الإلهي في سفر العبرانيين بقوله: "وَمَاذَا أَقُولُ أَيْضًا؟ لأَنَّهُ يُعْوِزُنِي الْوَقْتُ إِنْ أَخْبَرْتُ عَنْ جِدْعُونَ، وَبَارَاقَ، وَشَمْشُونَ، وَيَفْتَاحَ، وَدَاوُدَ، وَصَمُوئِيلَ، وَالأَنْبِيَاءِ" (عب١١: ٣٢).
فيما يلي نشرح خطأ هذا الاعتقاد:
كان يفتاح يتقي إلهه ويتكل عليه، ولهذا ابتدأ يفتاح عمله كقاض لإسرائيل بالذهاب للمصفاة حيث خيمة الاجتماع (مكان عبادة إله إسرائيل) كقول الكتاب: "فَذَهَبَ يَفْتَاحُ مَعَ شُيُوخِ جِلْعَادَ، وَجَعَلَهُ الشَّعْبُ عَلَيْهِمْ رَأْسًا وَقَائِدًا. فَتَكَلَّمَ يَفْتَاحُ بِجَمِيعِ كَلاَمِهِ أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْمِصْفَاةِ" (قض١١: ١١).
لقد التقى يفتاح بالكهنة هناك طالبًا الصلاة لأجله، والاسترشاد بنصائحهم وتعاليمهم، وبالطبع قدم يفتاح هناك توبة وتعهدات بالإخلاص لإلهه، وأيضًا تضرعات وطلبات لينصره الله على أعدائه؛ فكيف يذهب بعد انتصاره ليقدم ابنته ذبيحة بشرية لإرضاء إله وثني غير إلهه، الذي يؤمن أنه نصره، واستجاب له في وقت شدته؟!
يتضح إيمان يفتاح العميق بقدرة الله من حديثه مع ملك عمون قبل دخوله في الحرب معه. لقد أكد يفتاح معرفته بتاريخ معاملات الله، ورعايته لشعبه، وأن الله وراء نصرتهم وامتلاكهم الأرض، قائلًا: "فَدَفَعَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ سِيحُونَ وَكُلَّ شَعْبِهِ لِيَدِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوهُمْ، وَامْتَلَكَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ سُكَّانِ تِلْكَ الأَرْضِ" (قض١١: ٢١). وأكد يفتاح أيضًا ثقته بسلطان الله بقوله: "أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ" (قض١١: ٢٤).
أراد يفتاح إكرام الله إله إسرائيل بعد أن أعلن ثقته في قدرته وسلطانه صراحة أمام ملك بني عمون، وقد تعهد يفتاح بالإخلاص لإلهه، والاتكال عليه في خيمه الشهادة بالمصفاة، وقد نذر له نذرًا عرفانًا بجميله، فكيف يذهب بعد الانتصار ليقدم ابنته ذبيحة لوثن؟! إن هذا مستحيل، ويحسب نكث لتعهده في خيمة الشهادة في المصفاة، وعدم الوفاء بالنذر، الذي ألزم نفسه به بقوله: "وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلًا: إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي" (قض١١: ٣٠).
مخالفة يفتاح بتقديمه ابنته ذبيحة بشرية يتعارض مع شهادة الله لإيمانه وتوبته ومساندته وقيادته ونصرته له في حربه مع بني عمون، كقول الكتاب: "فَكَانَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ، فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ، وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ" (قض١١: ٢٩). وقوله أيضًا: "ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِهِ" (قض١١: ٣٢).
ثالثًا: دراسة تحليلية لنذر يفتاح الجلعادي
القراءة المتأنية لنذر يفتاح في (قض ١١: ٣١). تُظهر أنه يتكون من شقين وهما: الأول في قوله: "فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ".
أما الثاني فهو في قوله: "وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً". لم يَصغ يفتاح هذا النذر على جزئين للتكرار دون قصد، ولا لتأكيد معنى واحد، لكن يفتاح نذر تقديم الخارج من أبواب بيته للرب، لكنه لم يكن يتوقع من هو هذا الخارج من أبواب بيته (إنسان أم حيوان). هذا هو سبب صياغة نذره على شقين ليكون مناسبًا لأي كائن يخرج من أبواب بيته.
لقد كان يفتاح كرجل إيمان يتقي الله، يعرف أبسط قواعد شريعة دينه وبالأخص الذبائح والتقدمات التي تُقدم لله: ولذلك لزم الأمر أن يحدد نوعين من النذور. الأول: يناسب بني البشر والحيوانات غير الطاهرة، والثاني: يناسب الحيوانات الطاهرة، التي يصلح تقديمها ذبيحة محرقة.
إنَّ مَن يدعي أن الرجل كان ناويًا تقديم الخارج من بيته محرقة لله مهما كانت طبيعته (حيوانًا أو إنسانًا) يِدّعي جهل الرجل وغباءه، لأنه يفترض أن الرجل لم يتوقع أن يخرج أحد من منزله إلاَّ خروف أو عجل (يصلح ذبحه محرقة للرب).
لم تقتصر النذور على ذبائح المحرقات بل نذر البشر رجالًا ونساءً أنفسهم لخدمة الرب كقول الكتاب عن النساء اللواتي نذرن أنفسهن لخدمة الرب في زمن موسى النبي: "وَصَنَعَ الْمِرْحَضَةَ مِنْ نُحَاسٍ وَقَاعِدَتَهَا مِنْ نُحَاسٍ. مِنْ مَرَائِي الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ" (خر٣٨: ٨).
لقد كان يفتاح قد وضع في قلبه أن يقدم من يخرج من أبواب بيته إذا كان من الحيوانات غير الطاهرة لخدمة الرب أو يفديه بالمال.
أما إذا خرج أحد عبيده فكان ناويًا على تقديمه لخدمة الرب، أو كان يجوز فداءه بالمال بحسب الشريعة كقول الكتاب: "كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِذَا أَفْرَزَ إِنْسَانٌ نَذْرًا حَسَبَ تَقْوِيمِكَ نُفُوسًا لِلرَّبِّ، فَإِنْ كَانَ تَقْوِيمُكَ لِذَكَرٍ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَى ابْنِ سِتِّينَ سَنَةً، يَكُونُ تَقْوِيمُكَ خَمْسِينَ شَاقِلَ فِضَّةٍ عَلَى شَاقِلِ الْمَقْدِسِ. وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَكُونُ تَقْوِيمُكَ ثَلاَثِينَ شَاقِلًا" (لا٢٧: ٢-٤).
أما في حالة خروج حيوانًا طاهرًا من أبواب بيته فكان سيقدمه ذبيحة محرقة بحسب قوله: "وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً"
- صيغة النذر في الترجمة الإنجليزية MKJV للكتاب المقدس:
تُرجم النذر بالإنجليزية في هذه الترجمة على شقين هكذا:
“Then it shall be that whatever comes out from the doors of house to meet me when I return in peace from the sons of Ammon, surely it shall belong to the LORD or I will offer it up instead of a burnt offering”.
نلاحظ أن أداة العطف المستخدمة هيOr بمعنى (أو) بدلًا من and التي تعني(و) وهذا يعني أن يفتاح كان أمامه اختيار واحد من اثنين، وهو كان سيختار المناسب للتكريس أو الخدمة إذا كان لا يصلح تقديمه محرقة، أو يقدمه محرقة لله إذا كان الخارج حيوانًا طاهرًا بحسب شخصية وطبيعة الخارج من أبواب بيته.
رابعًا: حزن يفتاح وابنته ليس دليلًا على نيته حرق ابنته
- نذر يفتاح وما يحمله من معاني
آمن يفتاح بقدرة الله على نصرته، وقرر أن يكرم الله بنذرٍ يتضمن تضحية غالية. لقد تهور يفتاح، ولم يحسب أن ابنته قد تكون هي أول من يخرج لاستقباله، لكن إيفاء يفتاح بتكريس ابنته لخدمة الرب كان أمرًا لا يحتمل التراجع؛ ذلك لتقوى الرجل وحبه لله ومعرفته بضرورة إيفاء الإنسان بنذوره نحو الله كقول الكتاب: "إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْرًا لِلرَّبِّ، أَوْ أَقْسَمَ قَسَمًا أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِلاَزِمٍ، فَلاَ يَنْقُضْ كَلاَمَهُ. حَسَبَ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ يَفْعَلُ" (عد٣٠: ٢).
- نذر يفتاح وابنته في الميزان
قسم يشوع أرض كنعان على أسباط بني إسرائيل، وتمتع كل إنسان بنصيب من الأرض، وأصبح امتلاك الأرض دليل على انتساب الإنسان لشعب الله، وعلامة رضا الله عليه، كقول الكتاب: "ثُمَّ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: لِهؤُلاَءِ تُقْسَمُ الأَرْضُ نَصِيبًا عَلَى عَدَدِ الأَسْمَاءِ. اَلْكَثِيرُ تُكَثِّرُ لَهُ نَصِيبَهُ، وَالْقَلِيلُ تُقَلِّلُ لَهُ نَصِيبَهُ. كُلُّ وَاحِدٍ حَسَبَ الْمَعْدُودِينَ مِنْهُ يُعْطَى نَصِيبَهُ" (عد٢٦: ٥٢- 54).
لقد فقد يفتاح نصيبه في أرض كنعان بعد موته بتكريس ابنته، وبقائها عذراء طيلة أيام حياتها، وانقطع ذكر اسمه من سلسلة أنساب إسرائيل، وحُسب يفتاح كأحد الأشرار الملعونين، الذين قال عنهم الوحي الإلهي: "مِنْ تَحْتُ تَيْبَسُ أُصُولُهُ، وَمِنْ فَوْقُ يُقْطَعُ فَرْعُهُ. ذِكْرُهُ يَبِيدُ مِنَ الأَرْضِ، وَلاَ اسْمَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَرِّ. يُدْفَعُ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلْمَةِ، وَمِنَ الْمَسْكُونَةِ يُطْرَدُ. لاَ نَسْلَ وَلاَ عَقِبَ لَهُ بَيْنَ شَعْبِهِ، وَلاَ شَارِدَ فِي مَحَالِّهِ" (أي١٨: ١٦- ١٩).
أما ابنته فقد حرمت من الإنجاب، وهو ما كان يُحسب عار لكل عاقر من نساء إسرائيل، كقول الوحي الإلهي عن راحيل زوجة يعقوب بعدما ولدت يوسف الصديق: "وَذَكَرَ اللهُ رَاحِيلَ، وَسَمِعَ لَهَا اللهُ وَفَتَحَ رَحِمَهَا، فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا فَقَالَتْ: قَدْ نَزَعَ اللهُ عَارِي" (تك٣٠: ٢٢- ٢٣).
- ابنة يفتاح تبكي عذراويتها
بكاء ابنة يفتاح كان على عذراويتها، ولم يكن على شبابها أو موتها كقول الكتاب: "فَقَالَ: اذْهَبِي. وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى الْجِبَالِ" (قض١١: ٣٨).
وما يؤكد ذلك قول الوحي الإلهي في العدد التالي بعد ذلك مباشرة: وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ الشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَ. وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلًا. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ" (قض١١: ٣٩).
لقد ترجمت طبعة WEB الإنجليزية للكتاب المقدس تلك العبارة هكذا: “She was a virgin. It became a custom in Israel”
أي أنها بقيت عذراء..
وتصف الترجمة نفسها ما كتبه سفر القضاة عن ذهاب بنات إسرائيل من سنة لسنة لينحن على بنت يفتاح بكلمة celebrateأي يحتفلن، وهو ما يتفق مع الرأي بأنها كرست نفسها للرب، ولهذا كنّ يحتفلن بها من سنة إلى سنة.
من الملاحظ أيضًا أن الوحي الإلهي لم يذكر أن أمها (زوجة يفتاح)، أو أقاربها ذهبن معها لبكاءِ عذراويتها، لكن الوحي الإلهي قد ذكر أن من ذهب معها هنّ صاحباتها فقط، ونلحظ أيضًا أن الذين يذهبون كل سنة لينحن على بنت يفتاح كن عذارى فقط، وهذا يفسر أن نذرها له علاقة بتكريس نفسها لله عذراء (بكّت عذراويتها).
خامسًا: التهاون والتقاعس لا يليق بأبٍ ورئيسٍ عظيم لبني إسرائيل
المدقق في قرائته لسفر القضاة يدرك أن يفتاح رجلٌ غفورٌ لأنه غفر لإخوته الذين طردوه، وهو محب لأنه استجاب لهم عندما دعوه لنجدتهم، وأنه أيضًا قوي الإيمان لأنه أظهر غيرة عظيمة على اسم وعظمة إلهه. لقد تقوى الرجل بالإيمان، وامتلأ بالروح القدس؛ فقام وحارب الأعداء الأشداء بشجاعة، ومع إنه تهور ونطق بنذر لم يدرس عاقبته، لكنه قرر دون تردد الوفاء بنذره إكرامًا لله.
لقد تعظم الرجل في إسرائيل بعد نصرته وصار قاضيًا معروفًا لأعيان وشعب إسرائيل. كل ما سبق يؤكد أنه ليس جاهلًا بدينه حتى يقدم بالخطأ محرقة ابنته طاعة لشريعة لم تأمر بذلك، ويؤكد أيضًا فساد الرأي القائل بأن الرجل قدمها للآلهة الوثنية الخاصة بالشعوب المجاورة، لأن ذلك يتعارض مع تقواه وإيمانه.
- لم يكن الرجل محتاج لفداء ابنته
كل ما سبق يدفعنا أن ننفي عن الرجل القساوة نحو ابنته، وتقديمها للموت، وعدم اهتمامه بالبحث عن مخرج لإنقاذها من الهلاك.
إن التفكير المنطقي يؤكد أن الرجل كان لا بد له أن يسأل الكهنة عن مخرج لإنقاذ ابنته الوحيدة -إن لم يكن يعلم-، ولو فعل ذلك لكان أحد الكهنة قد أخبره بإمكانية فدائها بالمال كما شرحنا سابقًا.
ونحن نعتقد أن خبر نذر يفتاح قد وصل إلى مسامع رئيس الكهنة والعارفين بالشريعة في تلك الأيام. فلماذا يخفوا عن قائدهم وقاضيهم المكرم شريعة الله بتحريم الذبائح البشرية؟!
إنَّ افتراض عدم معرفة يفتاح بالشريعة، وعدم سؤاله العارفين عنها أمر غير منطقي، وافتراء على الرجل، واتهام بالجهل للرجل، وهذا لا أساس له من الصحة.
إن التفسير المنطقي لعدم محاولة يفتاح الجلعادي إنقاذ ابنته من الموت هو أنه لم يكن مضطرًا لتقديمها محرقة لله، لقد كان نذره هو تكريسها لخدمة الله وهي قد وافقت على هذه التضحية العظيمة بتكريس نفسها لخدمة الله.
أي يمكن التعويض بمبلغ مالي بدلاً من تقديمه ذبيحة