ليس هناك تناقض في أقوال الرب يسوع، لأن المدقق في دراسة النصين سواء في الإصحاح الخامس أو الثامن سيكتشف أن الرب يسوع يؤكد أنه هو الحق ذاته.
فيما يلي نؤكد صدق شهادات الرب يسوع، ثم ضرورة شهادة الرب يسوع للحق، ثم نبرهن على عدم وجود تناقض في أقوال الرب.
أولًا: صدق شهادات الرب يسوع
لقد وصف الوحي الإلهي الرب يسوع بالشاهد الأمين قائلًا: "وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ الّلاَوُدِكِيِّينَ: "هذَا يَقُولُهُ الآمِينُ، الشَّاهِدُ الأَمِينُ الصَّادِقُ، بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ" (رؤ٣: ١٤). إن شهادات الرب يسوع صادقة وحق. لأن الرب يسوع هو الحق ذاته، لأنه الله الظاهر في الجسد، وهو الأمين، وهو النور الحقيقي.
فيما يلي نوضح كل نقطة من تلك النقاط على حدة:
- الرب يسوع هو الله وهو الحق ذاته، المنزه عن الكذب
إن الله هو الحق، والحق هو اسم من أسماء الله. لقد لقب الرب يسوع أقنوم الآب بالحق قائلًا: "إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَق. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، فَهذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ" (يو٨: ٢٦).
وقد وصف الرب يسوع الروح القدس أيضًا بالحق قائلًا: "وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ" (يو١٦: ١٣).
ولقب الرب يسوع أيضًا نفسه بالحق قائلًا: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو١٤: ٦).
مما سبق يتضح أن الرب يسوع هو الحق، لأنه الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس لله الواحد. إنه المنزه عن الكذب، وليس فيه غش كقول الوحي الإلهي: "عَلَى رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، الَّتِي وَعَدَ بِهَا اللهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْكَذِبِ، قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ" (تي١: ٢).
- الرب يسوع المسيح هو الأمين، الذي ليس عنده نعم ولا
الإنسان الأمين لا يعرف إلتواء أو غش، فهو يقصد ما يقوله، ولا يبطن في داخله أمر غير ما يقوله. لقد شهد الكتاب عن أمانة الرب يسوع وصدق أقواله قائلًا: "لأَنَّ ابْنَ اللهِ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، الَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ، لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ" (٢كو١: 19).
لقد كانت أقوال الرب يسوع الأمين كلها حق، لأنه لم يعرف غش أو مكر، ولم يقل شيئًا غير الحق الإلهي، وكل ما قاله متوافق ومتطابق مع المشيئة الإلهية كقوله: "أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو5: ٣٠). إن الابن في الآب، والآب في الابن (كشهادة الكتاب) فكيف يقول الابن شيئًا لا يوافق مشيئة الآب؟!
- هو النور وليس فيه ظلمة البتة
الرب يسوع المسيح هو النور الحقيقي، وقد جاء ليضيء العالم، لأن فيه كل الحق الذي يفضح ويكشف الشر كقوله عن نفسه: "ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ" (يو٨: ١٢).
لقد تكلم الرب يسوع بالحق الذي يحرر الناس من الظلمة، كي لا يتعثر الناس، ويهلكوا بالشر. لقد كانت كل كلمة من كلماته حق يخلص الإنسان من الهلاك الأبدي، هو نور يقود من يقبله في طريق الحياة، وذلك لأن كلامه محيي كقول الوحي الإلهي: "فَأَجَابَ وَقَالَ:"مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (مت٤: ٤).
ثانيًا: الحق يستوجب الشهادة له
في النقطة السابقة أوضحنا أن كل شهادات وأقوال الرب أثناء فترة تجسده على الأرض هي حق، وفيما يلي نوضح أن الرب يسوع المسيح قد تجسد، وتأنس خصيصًا ليشهد للحق، وأنه كان لا بد أن يشهد للحق، ولا يمكن أبدًا أن يكتم شهادته من أقوال الحق أو أفعال الصلاح عن بني البشر.
إن من يعرف الحق يحبه ويعتز به، ولا يمكنه أن يكتمه في داخله، لكنه يسلك فيه ويعمل به، لأنه هو الذي يقوده إلى الحياة. إن الشهادة للحق واجبة، لأن معرفة الحق هي سبيل الخلاص والحياة الأبدية.
لقد وبخ الرسولان بطرس ويوحنا رؤساء كهنة اليهود، لأنهم هددوهما وطلبا منهما عدم النطق باسم يسوع قائلين: "فَأَجَابَهُمْ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا وَقَالاَ: "إِنْ كَانَ حَقًّا أَمَامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ اللهِ، فَاحْكُمُوا. لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا" (أع٤: ١٩- ٢٠).
إن كتمان الحق يتسبب في ضرر كثير، لأن الحقَ نورٌ يضيء الظلام، ولتبسيط تلك الحقيقة نتخيل أن إنسانًا رفض أن يشهد بما رآه وعرفه من حقائق عن جريمة وقعت أمام عينيه. إن ذلك الإنسان لا بد أن يُحسب مجرمًا، لأنه ضلل العدالة، ولم ينيرها بما يعرفه من حقائق.
ويحسب أيضًا مجرمًا في حق البريء الذي أُتهم زورًا، بسبب كتمانه للحق الذي يعرفه. إن من يكتم شهادته عن الحق سواء بالقول أو بالفعل يشبه بمن يملك مصباحًا منيرًا، ولكنه أطفأه، وترك الناس تتعثر في الظلام، غير مبالٍ بنتائج عدم شهادته للحق.
إن الحق هو العمل الحسن الذي قال عنه الكتاب: "فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ" (يع٤: ١٧).
- الرب يسوع أتى خصيصًا من أجل الشهادة للحق
لقد قرر الرب يسوع في محاكمته أمام بيلاطس البنطي أنه أتى إلى العالم خصيصًا ليشهد للحق قائلًا: "فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذًا مَلِكٌ، أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي" (يو١٨: ٣٧).
الاستنتاج
نخلص مما سبق أن الرب يسوع كان لا بد أن يشهد عن نفسه، وعن بنوته لله، وكان لا بد أيضًا أن يشهد لنا عن الحق بالأقوال وبالأفعال، لأنه لا يقدر أن ينكر نفسه كما قال الكتاب: "إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ" (٢تي٢: ١٣).
ولكن بقي التساؤل لماذا قال الرب: "إنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا" وهل هذا يمثل تناقض. هذا ما سنجيب عليه من خلال النقطة الأخيرة.
ثالثًا: لا تناقض في كلام الرب
- نص قول الرب في الإصحاح الخامس هو: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا. الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَق" (يو5: 31 – 32).
- سياق وملابسات قول الرب في الإصحاح الخامس
إن قول الرب جاء بعدما اعترض اليهود على بنوته لله لأنه قال إنه ابن الله كقول الكتاب: "فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ" (يو٥: ١٧- ١٨).
لم يقصد الرب أنه تكلم بغير الحقيقة، لأنه هو الحق ذاته كما أثبتنا سابقًا، لكن قول الرب جاء بأسلوب الشرط، وهو أسلوب أدبي كثير الاستعمال. فالمقصود هو أنه إن كان الرب يشهد فقط لنفسه، ولا يوجد من يشهد له. فشهادته ليست حقًا، ولكن هذا لم يحدث إطلاقًا؛ فقد شهد له كثيرون كما سنذكر فيما بعد.
لقد أعطى ربنا يسوع المسيح اليهود عذرًا في حالة عدم تصديق شهادته عن نفسه، وذلك إذا لم يتم تأكيدها بشهادات أخرى، لأن شريعة العهد القديم علّمت بضرورة وجود شاهدين أو ثلاثة كقول الكتاب: "عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يُقْتَلُ الَّذِي يُقْتَلُ. لاَ يُقْتَلْ عَلَى فَمِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ" (تث١٧: ٦).
- شهود الرب يسوع المسيح ابن الله
أكد الرب في انجيل القديس يوحنا لليهود صدق شهادته عن نفسه لأولئك الفقراء في معرفتهم بالله في صورة شهادات أخرى وهي:
- شهادة الآب الذي شهد له أثناء عماده على يد يوحنا، وشهد له أثناء تجليه على جبل طابور، وشهد له بصوت واضح قبل آلامه وصلبه مباشرةً بقوله عنه بصوت صادر من السماء: "مجدت وأمجد".
- شهادة يوحنا المعمدان الذي قال الرب عنه أنه السراج المضيء.
- شهادة الأعمال التي كان يصنعها، وهي تشهد له.
- شهادة كتب موسى والأنبياء، والتي تنبأت عنه بوضوح.
"ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ. فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَق، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ" (يو٨: ١٢- ١٤).
- سياق وملابسات قول الرب في الإصحاح الثامن
هاجم الفريسيون الرب، لأنه أخزى الكتبة والفريسيين، الذين أتوا إليه بامرأة أُمسكت وهي ساقطة في خطية زنا، ومنعهم من الحكم عليها، ثم أعلن أنه نور العالم، وهذا يعني أنه الحق، لأن النور هو الحق والحق هو اسم من أسماء الله.
اعترض الفريسيون على قول الرب وادعوا أن شهادته ليست حق، لأنها غير مؤيدة بشهادات أخرى، لكنه عاد وأكد لهم أنه الديان قائلًا: "وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَق، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو٨: ١٦).
وأما هم فلا حق لهم أن يدينوا هذه المرأة. إن دينونة الرب للبشر أو غفرانه لهم حق، لأنه الابن وهو الحق أي الله والآب يشهد له بذلك، وأنه واحد مع الآب.
- المعنى المقصود في الإصحاح الثامن
الشهادة المقصودة في هذا النص هي صدق وصفه لنفسه بنور العالم، حسب قوله في (يو٨: ١٢). أي إنه الحق أو هو الله. لقد أراد الرب أن يؤكد لليهود أنه النور أي الحق، وأنَّ كل ما قاله لهم هو حق، ولكن اليهود شكّكوا في كلامه بحجة أن شهادته عن نفسه لا تكفي.
لكن الرب كان قد سبق وأعطاهم أربع شهادات أخرى تؤكد أنه المسيح ابن الله الحي، -كما ذكرنا في النقطة السابقة- ولكنهم بمكر قد تجاهلوا كل ما سبق وقاله لهم تمامًا، ولهذا برهن لهم عن صدق شهادته عن نفسه بقوله علانية أنه العَالم بكل شيء أي الله، قائلًا: "لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ" (يو٨: ١٤).
الخلاصة
لا تناقض في أقوال الرب لأن القول الأول جاء في صيغة الجملة المشروطة أي أنه في حالة عدم وجود شهادات أخرى تشهد عن كونه المسيح ابن الله تكّون شهادته غير صادقة، وهذا ليس هو واقع الحال، لأن الرب يسوع المسيح ذكر لهم سابقًا أربع شهادات أخرى تؤكد أنه ابن الله.
والقول الثاني جاء بعد الأول وبعدما برهن الرب يسوع على أنه هو ابن الله، وأنه هو النور والحق، بل أكثر من هذا فقد أضاف أيضًا أنه الديان فأين التناقض إذًا؟!