صلى الرب يسوع في خطابه الوداعي طالبًا وحدة المؤمنين به، قائلًا: "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي" (يو 17: 21). إن كثرة أعداد الطوائف المسيحية في العالم ليست موضع رضا الله، لأن وحدانية المؤمنين هي مشيئة قلب ربنا يسوع المسيح، كقول الوحي الإلهي: "رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ" (أف 4: 5).
لقد أبدى معلمنا بولس الرسول أسفه بسبب انقسام أهل مدينة كورنثوس، وتحزبهم، قائلًا: "هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟" (1كو1: 13).
فيما يلي نجيب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
1. أولًا: الكنيسة واحدة وحيدة.
2. وثانيًا: أسباب ازدياد أعداد الطوائف المسيحية.
3. وثالثًا: الأسباب الحقيقة لتأسيس طوائف حديثة.
4. ورابعًا: ضرورة الثبات في الحق.
أولًا: الكنيسة واحدة وحيدة
صهيون الأم
يتكلم الكتاب المقدس عن الكنيسة ككيان واحد، ليس له ثانٍ، ويرمز إليها بجبل صهيون الذي بُنِيَ عليه بيت الله في القديم، إن صهيون هي مكان سُكْنَى الله وسط شعبه، وفيها تحل بركاته ونعمه، وهناك العديد من الشهادات، التي تتحدث عن صهيون كبيت له، ومكان خاص للقاءه بشعبه، ومن هذه الشهادات نذكر ما يلي:
"أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي. إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ" (مز ٢: ٦-٨).
"رَنِّمُوا لِلرَّبِّ السَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ، أَخْبِرُوا بَيْنَ الشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ" (مز ٩: ١١).
"إِلهُ الآلِهَةِ الرَّبُّ تَكَلَّمَ، وَدَعَا الأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا. مِنْ صِهْيَوْنَ، كَمَالِ الْجَمَالِ، اللهُ أَشْرَقَ" (مز٥٠: ١، ٢).
إن الكنيسة أو صهيون (رمزيًا) يولد في جرن معموديتها كل المخلّصين، ولهذا هي أمّ كلّ مَن كُتبَ اسمه في الحياة الأبدية، كقول المزمور: "وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: هذَا الإِنْسَانُ، وَهذَا الإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ الْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا. الرَّبُّ يَعُدُّ فِي كِتَابَةِ الشُّعُوبِ: «أَنَّ هذَا وُلِدَ هُنَاكَ». سِلاَهْ" (مز ٨٧: ٥، ٦). وكما أنه لا يوجد غير حواء واحدة خرج منها كل الأحياء، هكذا أيضًا لا يوجد غير كنيسة واحدة جامعة رسولية يخرج منها جميع أبناء الله الحي.
كلُّ الطوائف واحد!!
هي مقولة خاطئة وغير صحيحة بالمرة؛ لأنه لكي يكون كل أبناء الكنيسة واحد، لا بد أن يرتبطوا معًا بعوامل مشتركة قوية، تجعلهم في وحدانية. لقد ذكر الوحي الإلهي أسس وحدانية الكنيسة، قائلًا: "مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ. جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضًا فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ. رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ" (أف ٤: ٣-٦).
فإن لم يكن الإيمان واحد كيف تكون المعمودية واحدة؟ وبالتالي لا يكون الكل كنيسة واحدة.
ثانيًا: أسباب ازدياد أعداد الطوائف
الخارجون عن الكنيسة.
الخارجون عن الكنيسة يرفضون سلطان الكنيسة، ويهجرون الكنيسة، التي جعلها الرب أُمًّا لكل من له الحياة الأبدية، ويذهبون لتأسيس طوائف حديثة، مُتَنَاسين قول معلمنا بولس الرسول: "إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ. وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»!" (غل١: ٦-٨).
لقد حذر الكتاب من أمثال هؤلاء، لأنهم يجتذبون لطوائفهم الحديثة البسطاء من الناس، ليبعدوهم عن أمهم الكنيسة، ويضلّونهم، كقوله: "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ. وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ" (رو ١٦: ١٧، ١٨).
هم غرباء عن الكنيسة
مَن يصرُّ على عدم السماع لتعاليم الكنيسة يكون قد قطع نفسه من عضوية الكنيسة، ولهذا تعلن الكنيسة قرارها المؤسف بحرمانه، لخروجه عن شركة الإيمان بتعاليمها المحيية، كقول الكتاب: "مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا" (1يو 2: 19).
ومع هذا ترحب الكنيسة بمَن يعلن توبته وتقبله، كما حدث مع خاطئ كورنثوس، الذي أوصى معلمنا بولس الرسول بشأنه كنيسة كورنثوس، قائلًا: "حَتَّى تَكُونُوا - بِالْعَكْسِ - تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ" (2كو 2: 7).
خطورة الانشقاق
الطوائف الحديثة مختلفة في إيمانها عن إيمان كنيستنا الأرثوذكسية، ولهذا انشقت على الكنيسة، والطوائف التي أُسست نتيجة الانشقاق يُلازمها الانشقاق على الدوام، فيخرج من بين أعضائها معترضون ورافضون جدد، وبمرور الوقت يُكَّونون طوائف أخرى أحدث، ذلك، لأن قادتها ورؤساءها قدوة لأعضائها، والأخطر من ذلك أيضًا أنهم ليس لديهم نظامًا كنسيًا يحفظ لهم الوحدانية، ويتابع صحة تعاليمهم، التي يقدمونها للناس، وهكذا يستمر الانشقاق والانقسام، كقول الرب: "فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ" (مت ١٢: ٢٥).
أسباب ومبررات غير مقبولة
يترك البعض كنيسته ذات الإيمان القويم، لينضموا إلى طوائف مجهولة، دون التدقيق في معتقداتها، لأسباب شخصية وغير موضوعية، مثال ذلك: حجة الزواج أو الانفصال عن الزواج بتغيير الطائفة، أو الاختلافات الشخصية مع أحد خدام الكنيسة، أو لأنهم يَدّعون أن كل الطوائف واحد في المسيح، وأن الاختلافات الإيمانية والعقائدية بين الطوائف اختلافات ثانوية!
مبررات واهية
مَن يدعي أن الله ليس من المعقول أن يرفض الخارجين عن الكنيسة، لأنهم كثيرون، يقيم نفسه ديانًا بدلًا من الله، ويصدر نيابة عن الله حكمًا حسب فهمه، ويبني عليه قرارًا بمخالفة مبادئ الكنيسة الأرثوذكسية القويمة الإيمان، لكي يجد لنفسه مبررًا يخالف به الحق، بدلًا من الخضوع لتعليم الكتاب، القائل: "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ" (1تس5: 21). وينسى أن واجبه الشخصي، الذي سيحاسب عليه هو السلوك بالتدقيق في حياته والتمسك بالحق الإلهي حتى الدم.
ثالثًا: الأسباب الحقيقة
فيما يلي الأسباب الحقيقية التي تجذب البعض للانضمام لتلك الطوائف:
الجهل وعدم المعرفة.
الجهل وعدم المعرفة يعميان الأعين عن الحقيقة. لقد وبخ الرب شعبه في سفر إشعياء لعدم معرفتهم به، وحذر الرب يسوع المسيح من عدم المعرفة التي تسبب الهلاك، قائلًا: "قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضًا بَنِيكَ" (هو٤: ٦).
لقد أقام الرَّب في الكنيسة آباء ورعاة ومعلمين، حتى يزيلوا أي عثرة أو عدم معرفة أو جهالة، كقوله: "وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ" (أف ٤: ١١).
الكبرياء والاعتداد بالذات
اِعتداد الإنسان بفهمه وعدم قبوله التعليم هو نوع من الكبرياء، وهذا يسبب الضلال والسقوط في البدع والهرطقات، ويذكر تاريخ الكنيسة أن الهراطقة لم يستجيبوا لنصح أو إرشاد الكنيسة. ولهذا أعطى الرب كنيسته سلطان الحلِّ والربط لقبول توبة التائب، وللوقوف أيضًا في وجه المعاند، كقوله: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ" (مت 18: 18).
لقد استعمل الآباء الرسل هذا السلطان في التعامل مع المتكبرين الهراطقة، لتحفظ الكنيسة أبناءها من الانحراف عن الإيمان السليم، فتظل الكنيسة نقية في تعاليمها.. واحدة في إيمانها، فلا يجتمع فيها إلا أصحاب الإيمان السليم، لأنه لا يمكن أن تضم الكنيسة ضمن جسدها الواحد أصحاب البدع المختلفة.
رابعًا: الثبات في الحق
وحدانية إيمان أعضاء الكنيسة تضمن ثبات، واستمرارية ونمو الكنيسة، والعكس يسبب التفتت لطوائف كثيرة صغيرة مختلفة.
إنه واجب حق على الإنسان، الذي يحب الله أن يتمسك بالحق، لأن الله هو الحق، ومَن يحيد عن الحق يفصل نفسه عن الله. لقد جاء ابن الله خصيصًا لكي ما يقودنا في طريق الحق، كقوله: "وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (1يو5: 20).
ولكن الحق لا بد له من مواصفات واضحة محددة لكي نعترف به كحق، نذكر منها ما يلي:
1. الحقُّ واحد.
الحق دائمًا واحد، وليس له شبيه أو نسخة معدلة، وما هو غير الحق بالتأكيد غش وكذب.
2. الحق محدد بثوابت لا يجب تعديها..
إن الحق محدد بثوابت لا يجب تَعَدِّيها، وإن كان من يشتري لنفسه طعام أو ملابس أو أي شيء من لوازم هذه الحياة يدقق في التأكد أن ما يشتريه ليس فيه عيب، وأنه له مواصفات تناسبه، فهل من المنطقي التساهل والتنازل في مواصفات الإيمان.
لقد طالب معلمنا بولس الرسول المؤمنين بالكمال في الفكر، وبالطبع في قبول الإيمان الصحيح بكماله، كقوله: "وَلكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ" (١كو ١: ١٠).
3. ولا يُقبَلَ إلا كاملًا.
لقد تكلم الرب يسوع بالحق، وكثيرًا ما وصف كلامه، بقوله: "الحق الحق.." فإن كان الرب يسوع المسيح لا يتكلم إلا بالحق كله، وروح الله القدوس يرشد لكل الحق، كقوله: "وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ" (يو١٦: ١٣). فهل نتنازل، ونقبل بعض الحق، ونتغاضى عن بعضًا منه.
إنه لا يمكن إطلاقًا لمنصف أن يتنازل عن جزء من الحق بحجة عدم أهمية، لأنه في هذه الحالة لن يكون الحق حقًا.
أخيرًا
إن الدقة في الحفاظ على الإيمان المسلم لنا، تعبر عن اعتقادنا الثابت أن أمور الإيمان هي أمور إلهية سماوية، يجب الثبات عليها، وحفظها كما هي دون نقص أو زيادة، وواجبنا أن نسلمها للأجيال
اللاحقة كما هي.