في الشاهد الأول يركز الوحي على تواصل الله مع موسى النبي بكلام مفهوم، وليس على رؤية الله. فهو يتحدث مع الله، فيسأله والله يجيبه، أو الله يتحدث إليه، وهو يتفاعل معه بالإيجاب، أو بالاستفسار، وقد حدث هذا في الخيمة، كما هو واضح، وبناء على ذلك لم يَرّْ موسى النبي وجه الله. لأن ذلك لم يكن رؤيا أو ظهورًا إلهيًا، بل قد يكون الله قد تكلم معه من فوق غطاء تابوت العهد الموضوع في الخيمة.
فيما يلي نجيب بإيضاح أكثر من خلال النقاط التالية:
أولًا: معنى رؤية وجه الله.
ثانيًا: كيف يتكلم الله مع البشر؟ ولماذا يتكلم معهم؟
ثالثًا: دراسة النصوص الكتابية التي أوردها السائل.
أولًا: رؤية وجه الله.
وجه الله
يعبر وجه الإنسان عن شخصه، فمن خلال ملامح الوجه يمكن التعرف على الإنسان، ولكن الله روح، وليس له وجه بالمعنى الحرفي، كقوله: "اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" (يو ٤: ٢٤).
تعبير اصطلاحي.
عبارة وجه الله هي تعبير اصطلاحي، وقد يعني:
1- حضور الله، ومن أمثلة ذلك، قوله: "لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسَخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي" (مز ٢٧: ٨، ٩).
٢- أو قد يعني رضا الله على الإنسان، كقوله: "أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ. خَلِّصْنِي بِرَحْمَتِكَ" (مز ٣١: ١٦).
٣- حجب وجه الله عن إنسان يقصد به غضب الله، وعدم رضاه عليه، كقوله: "لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟" (مز ٨٨: ١٤).
4- طلب رضا الله قد يعبر عنه بطلب وجه الله، كقوله: "تَرَضَّيْتُ وَجْهَكَ بِكُلِّ قَلْبِي. ارْحَمْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ. تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي، وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ" (مز ١١٩: ٥٨، ٥٩).
ثانيًا: التكلم مع الله
تواصل الله مع البشر بالرؤى والأحلام، والكلام من السماء بصوت مهيب، وأيضًا بالكلام بصوت يناسب أذن الإنسان، أي: كما يتكلم الناس مع بعضهم بعض، ولكننا سنركز حديثنا على النقطتين التاليتين:
الله يتكلم بصوت مسموع من السماء.
تكلم الله بصوت عظيم، وقد وصفه معلمنا يوحنا الرائي، بأنه كصوت مياه كثيرة أو جمهور كثير، وتكلم أيضًا بصوت عظيم مرعب صادر من السماء، وهذا يعبر عن هيبته وقدرته، وعظمته، ومن أمثلة ذلك، ما يلي:
"وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَرَوْنَ الرُّعُودَ وَالْبُرُوقَ وَصَوْتَ الْبُوقِ، وَالْجَبَلَ يُدَخِّنُ. وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى: «تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ»" (خر ٢٠: ١٨، ١٩).
"فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفًا وَسَمِعَ، قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ! ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ مَلاَكٌ!». أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ" (يو١٢: ٢٩، ٣٠).
التكلّم مع البشر فمًا لأذن، أو وجهًا لوجه.
إن التكلم مع الله بهذا الأسلوب قد يعني ما يلي:
1- الصداقة والقربى من الإنسان.
كقوله: "وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى" (عد ١٢: ٧، ٨).
٢- إظهار حب الله ووده نحو بني البشر.
الفعل يكلم (كما حدث مع موسى النبي) يحمل في طياته مودة وقرب الله من الإنسان، وهذا يعني أيضًا أن أذن النبي تسمع كلامًا مفهومًا معتدلاً في حدته، أي يناسب طاقتها، حتى يتمكن النبي من فهم قصد وأمر الله له، وبالتالي يتَمَكَّن النبي من تبادل الحديث مع الله المتكلم.
وقد خصّ الله بعضًا من أبرار العهد القديم أمثال موسى وصموئيل النبيين بالتكلم معهم بهذا الأسلوب الودود، وقد كان ذلك إشارة للتجسد الإلهي، الذي تممه الله في ابنه الوحيد يسوع المسيح، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
"فَجَاءَ الرَّبُّ وَوَقَفَ وَدَعَا كَالْمَرَّاتِ الأُوَلِ: «صَمُوئِيلُ، صَمُوئِيلُ». فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «تَكَلَّمْ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ». فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: هُوَذَا أَنَا فَاعِلٌ أَمْرًا فِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذُنَاهُ" (1صم ٣: ١٠، ١١).
وقوله أيضًا: "وَبَعْدَ الزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»" (1مل ١٩: ١٢، ١٣).
لقد أعطى الوحي الإلهي صورة لاتضاع الله وتنازله، بالتواصل مع الإنسان من خلال التكلم معه. وقد اشتهر موسى النبي بلقب "كليم الله" واعتُبِرَ هذا امتياز خاص بموسى النبي وحده.
٣- إشارة وتمهيد للتجسد الإلهي.
كلام الله مع موسى النبي فيه إشارة للتجسد الإلهي، لأن الله من خلال التجسد الإلهي أخذ جسدًا، وحلَّ بيننا وتكلم معنا، كقوله: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ" (عب١: ١، ٢).
ثالثًا: دراسة النص الكتابي.
1- لم يذكر الكتاب في هذا النص (محل البحث) أن موسى النبي رأى وجه الله، لكنه وصف حديثه مع الله، بقوله: "وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ"، لقد شبه ووصف الوحي الإلهي طريقة كلام الله معه بطريقة كلام إنسان يقف أمام إنسان آخر، فيراه وجهًا لوجه، أي على مقربة منه، مع أن هذا لم يكن هو الواقع في تلك الحالة. وما يؤكد أنه يصف الكلام، وليس الرؤية، كقوله: "كما يكلم الرجل صاحبه" فكلام الرجل لصاحبه هو حديث ودي متبادل بين الرجل وصاحبه، وفي تلك الحالة يتكلم الرجل مع صاحبه بصوت مسموع مناسب، لا يضر الأذن.
2- عدم رؤية وجه الله أمر منطقي، لأن الله عَلّم بهذا، كقوله: "لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خر ٣٣: ٢٠). وذلك لما يلي:
الله روح والروح غير محدود، وليس له وجه، ولذلك عندما شاء الله أن نعرفه، ونقترب منه تجسد، وتأنس، وظهر بين البشر كإنسان، لكي نتكلم معه وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه.
القول الإلهي: لا يراني الإنسان، ويعيش هو تعبير عن طهارة الله وقدسيته الكاملة، التي لا تتوافق مع الشر، الذي في الإنسان الضعيف، كقوله: "فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!" (مت ٧: ١١).
وفي هذا إشارة لضرورة التجسد الإلهي، لكي يتنازل الله ويعطي الفرصة للإنسان لمعرفته. ويقوده للتوبة، ويغفر له خطاياه، ويقيمه من موت الخطية.
٣- لم يرَ النبي وجه الله بمعنى رؤية مجده، لكنه تمتع ببركة حضوره اللامرئي في الخيمة، وتكلم معه، ولهذا طلب منه فيما بعد أن يُريِه الله مجده، لأنه لو كان قد رأه قبلًا، لما طلب أن يرى مجده، وذلك كقوله: "فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ»" (خر ٣٣: ١٨).
أخيرًا..
لا تناقض فيما ذكره الوحي الإلهي، ولكن الفهم الصحيح لنصوص الكتاب المقدس يظهر أن الكتاب المقدس يعطي صورة كاملة عن الله، الذي في حبه للبشر اقترب منهم ليتكلم معهم، ولكن الإنسان الجسداني المحدود الضعيف لا يمكنه أن يدرك الله المالئ السماء والأرض، والذي لا يحده مكان ولا زمان.