إن قصد السائل من افتراض ظهور ربنا يسوع المسيح بعد قيامته من الأموات بطريقة علنية هو إقناع الرافضين والجاحدين بقدرة المسيح له المجد وألوهيته، ولكن ذلك لا يتفق مع فكر الكتاب المقدس. فيما يلي نتأمل أسباب عدم توافق ذلك الفكر مع تعاليم الكتاب في النقاط التالية:
أولًا: أهمية وبركة ظهورات قيامة الرب يسوع، ثم ثانيًا: الوسيلة المثلى للكرازة، ثم ثالثًا: علاقة المعجزات والآيات بالكرازة، والخدمة، وأخيرًا ورابعًا: نؤكد عدم فاعلية ظهور الرب بعد قيامته للجاحدين وغير المؤمن.
أولًا: أهمية ظهورات القيامة:
- تأكيد حقيقة القيامة لتلاميذ الرب المقبلين على الكرازة:
إن ظهورات الرب بعد قيامته لتلاميذه القديسين كان لها أهمية كبرى في تثبيت إيمانهم بقيامة الرب. لقد ظهر الرب لتلاميذه القديسين قبل انطلاقهم للبشارة والكرازة، وكيف يمكن لمن لم يتحقق من قيامة الرب أن يكرز بقيامته من الأموات؟! لقد كرز معلمنا بولس الرسول بقيامة الرب بعدما ظهر له الرب مؤكّدًا حقيقة القيامة قائلًا: "فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا" (١كو١٥: ٣- ٦).
- ظهورات الرب يسوع بعد القيامة نعمة وسند لأحبائه:
لقد كانت ظهورات الرب يسوع المسيح (بعد قيامته) بركة خاصة لفئة معينة من أحبائه كوعده الصادق القائل: "اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي" (يو١٤: ٢١).
أعطى الرب في كل ظهور من هذه الظهورات قوة لمن ظهر لهم. لقد بدد ظهوره شك توما الرسول، وأعاد معلمنا بطرس إلى خدمته عند ظهوره بعد قيامته على بحيرة طبرية، وفسر الرب لتلميذي عمواس ما غفل عنهما من النبوات عند ظهوره لهما في الطريق إلى بلدة عمواس. لقد كانت هذه الظهورات بمثابة تأكيد للقيامة، واجتماعات مباركة لتقوية إيمانهم وتعليمهم، وتوصيتهم بما هو نافع للكرازة كقول الكتاب: "وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا "مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي" (أع١: ٤). أما المعاندين الرافضين له فليس لهم نصيب في هذه البركة.
ثانيًا: كيفية الكرازة ومواصفاتها:
- الكرازة بالكلمة أو بالسمع:
حدد الوحي الإلهي كيفية الكرازة، وهي وصول كلمة الله للناس بالذهاب إليهم، وتبشيرهم بكلمة الله قائلًا: "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ... إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ." (رو١٠: ١٤- ١٧). إن المعجزات ليست طريقًا بديلًا للكرازة، وكم من معجزات صنعها الرب أمام الكتبة والفريسيين، ولم يؤمنوا.
- الكرازة والتعليم تسبق المعجزات، لأنها شهادة على صدق التعليم:
أمر الرب تلاميذه بالكرازة ببشارة الملكوت قائلًا لهم: "... اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ" (مر16: ١٥- ١٧). في الأعداد السابقة لم يأمر الرب تلاميذه بصنع المعجزات أولًا، لكنه طالبهم بالكرازة أولاً، ووعدهم بتبعية الآيات أو المعجزات بعد ذلك، لأن المعجزات دليل، أو شهادة على صدق تعاليمهم وإيمانهم، وليس العكس، كقول الكتاب: " ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ… وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ" (مر١٦: ١٩- ٢٠).
- الرب لا يبهر، ولا يرهب عقول الناس بالمعجزات:
يستعمل السحرة حيل كثيرة لصنع أعمال مبهرة، قد تبدو خارقة للطبيعة ليوهموا الناس كذبًا أن لديهم القدرة على تحقيق رغبات الناس، أو قد يخيفونهم بالإيحاء لهم بقدرتهم على إيذائهم؛ ليفرضوا عليهم سيطرتهم ونفوذهم، وبالتالي يخضعون لهم ويتبعونهم كيفما شاءوا، ومن أمثلة ذلك قول الكتاب عن سيمون الساحر: "وَكَانَ قَبْلاً فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ، يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ، قِائِلاً إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!. وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ:"هذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةُ" (أع٨: ٩- ١٠). إن الله يدعونا للحياة الأبدية بإنارة عقولنا وقلوبنا وضمائرنا، وليس بالتخويف، أو الإبهار كشهادة معلمنا بولس الرسول: "وَلكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ. لِذلِكَ يَقُولُ: "اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ" (أف٥: ١٣- ١٤). لم يظهر الرب بعد قيامته بطريقة مرهبة، أو مبهرة ليجذب نفوس الناس بالقوة، لأنه يريد أن يؤمن الناس به بقناعة ورضا فرحين، لأن الإيمان هو القناعة، وهوالثقة، وليس فيه إرهاب ولا إبهار.
- استعراض القدرات ليس هو أسلوب خدمة الرب يسوع المتضع:
افتراض ظهور الرب بعد قيامته بمجد عظيم بدون كرازة تسبق ذلك الظهور فكرة بسيطة لن تكلف الرب يسوع شيئًا، ولكنها ليست من طبيعة الرب يسوع المتضع، لما فيها من مظهرية واستعراض، لم يقبله الرب المتضع في حياته. لقد اختار الرب طريق البذل والصلب لإظهار حبه… أصر على شرب كأس الآلام إلى النهاية، ولم يستجب لطلب المستهزئين بالنزول عن الصليب، فهل بعد هذا كله يتراجع الرب، ويستخدم ذلك الأسلوب الساذج ليخلص به الناس؟! لقد فضل تلاميذ الرب الملهمين بالروح القدس ذهابهم الهيكل للكرازة بقيامة الرب من الأموات، بالرغم من معرفتهم مسبقًا بخطورة الاصطدام برؤساء الكهنة والفريسيين… إن طريق الإقناع أفضل من الإبهار، واستعراض القدرات. فيما يلي بعض الأمثلة، التي توضح رفض الرب يسوع المسيح لذلك الأسلوب في الكرازة:
" - وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعًا. وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ" (مت١٢: ١٥- ١7).
- وأيضًا قوله: "وَالأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: "إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللهِ! "... "وَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ" (مر٣: ١١- ١٢).
- وأيضًا وصيته وقوله لتلاميذه بعد حادثة تجلي الرب فوق جبل طابور: "...لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ" (مت١٧: ٩).
- كما رفض الرب إلقاء نفسه من فوق جناح الهيكل ليبهر سكان أورشليم بعظمته.
ثالثًا: المعجزات والكرازة:
ليست المعجزات هي الوسيلة المثلى للكرازة. إن الواقع العملي يثبت عدم جدوى المعجزات في إقناع المعاندين من الناس، ذلك لأن من لا يريد أن يؤمن يتماحك، ويخترع لنفسه مبررات كاذبة يوهم نفسه بعدم صدق ما يراه من معجزات، حتى لا يؤمن. فيما يلي بعض أسباب عدم جدوى فاعلية المعجزات في إيمان المعاندين:
- المعجزات تشهد لحقائق الإيمان، ولا قيمة لها بدون معرفة حقائق الإيمان:
إن أهمية العجائب والمعجزات هي في الشهادة بحقائق الإيمان، وعلى سبيل المثال معجزات الشفاء، التي أجراها الرب يسوع تشهد بقدرته وحنانه، وظهورات الملائكة والقديسين تشهد بحقيقة العالم الروحاني الذي لا نراه بأعيننا الجسدية، وهكذا… ولكن أهمية تلك العجائب في تثبيت الإيمان متوقفة على معرفة الحقائق الإيمانية التي تمت بسببها هذه المعجزات؛ فإن لم يوجد الإيمان مثلًا بقدرة الله وحنانه يحتار الناس في تفسير أسباب معجزات الشفاء التي أجراها الرب يسوع، وقد يضل الناس وهم يحاولون تفسير كيفية حدوثها لجهلهم، وعدم إيمانهم. لقد عَّلمنا معلمنا بولس الرسول تَفَوق الإيمان على ظهورات الملائكة الروحانين قائلًا: "وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ "أَنَاثِيمَا"! (غل١: ٨).
- حاجة الإنسان إلى الحكمة والاستنارة الذهنية:
قد يرى الناس المعجزة، ولكنهم مع ذلك قد لا يؤمنون بقوة الله، لأنهم يضلون في تفسيرهم، أو تحليلهم للقوة، التي تمت بها المعجزة. لقد اعتقد سحرة فرعون أن المعجزات، التي يجريها موسى النبي قد تمت بقوة سحرية، ولهذا حاولوا استعمال السحر في إجراء أعمال مماثلة، وعندما فشلوا اضطروا للاعتراف بقوة الله قائلين: " وَفَعَلَ كَذلِكَ الْعَرَّافُونَ بِسِحْرِهِمْ لِيُخْرِجُوا الْبَعُوضَ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا... فَقَالَ الْعَرَّافُونَ لِفِرْعَوْنَ: "هذَا إِصْبَعُ اللهِ" (خر٨: ١٨). ومع ذلك لم يؤمن فرعون بسبب ضلاله وجهله، رغم وضوح تلك الآيات وشهادة مشيريه من السحرة والعَّرافين كقول الكتاب: "وَلكِنِ اشْتَدَّ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمِا، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ" (خر٨: ١٩). لقد شدد فرعون قلبه ورفض النور المقدم له من الله فتقسى قلبه، ولم ينتفع بما رآه من عجائب الله.
- الإيمان له الأولوية على المعجزات:
إن المعجزات تفسَّر على أساس المعتقدات الإيمانية، وليس العكس. أن المعتقدات الإيمانية حقائق ثابتة، لا تحتمل الكذب أو الزيف. أما المعجزات فقد تكون كاذبة، ولابد من التاكد من صحتها أولًا، ولهذا أكَّد الوحي الإلهي أهمية، وأولوية التمسك بالإيمان بالله، وعدم تبعية الأنبياء الكذبة، حتى ولو صنعوا المعجزات قائلًا: "إِذَا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلْمًا، وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً، وَلَوْ حَدَثَتِ الآيَةُ أَوِ الأُعْجُوبَةُ الَّتِي كَلَّمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا" (تث١٣: ١- ٢). لقد حذَّرنا الوحي الإلهي من الأعمال، والعجائب، التي قد يصنعها السحرة، والأشرار لأنهم يستعملون فيها الخداع، والوهم، أو الإيحاء، أو خِفَّة اليد. لقد وصف الكتاب المقدس ما سيفعله ضد المسيح في آخر الأيام من أعمال مبهرة بالكذب والضلال قائلًا: "الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ" (٢تس٢: ٩). وقد وضع لنا الرب قاعدة ذهبية لكشف ضلال هؤلاء الأشرار قائلًا: "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟" (مت16:7). إن أولاد الله لا ينساقون وراء الأشرار، حتى ولو صنعوا العجائب.
- هوى الإنسان يؤثّر على إدراكه الحقائق:
لقد صنع الرب يسوع معجزات كثيرة أمام أعين اليهود المعاندين، ولكنهم لم يؤمنوا، لأنهم لم يريدوا أن يؤمنوا، كقول الكتاب: "لأَنَّ قَلْبَ هذَا الشَّعْب قَدْ غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ" (مت١٣: ١٥).
لم يصدّق رؤساء اليهود من الكتبة والفريسيين قيامة الرب، بالرغم من عدم وجود تفسير لديهم عن خلو قبر المخلص من جسده، الذي دُفن في القبر، وأمر بيلاطس بختمه وحراسته. لقد أنكروا ما لا يريدون أن يقبلوه بعقولهم. لم يفكروا ولو للحظة فيما قاله عسكر الرومان عن قيامته، لأنهم كانوا مشغولين بأمر آخر، وهو مقاومة الرب، وعدم الاعتراف به ربًّا. وقد ادَّعوا سرقة تلاميذ الرب لجسده، حتى يتمكنوا من تفسير حقيقة خلو قبره. ولقد أعلن الرب أن سبب عدم إيمانهم هو حبهم للظلمة أكثر من النور، وأنهم لا يريدون أن يصنعوا مشيئة الله قائلًا: "إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي" (يو٧: ١٧).
رابعًا: ليس هناك حاجة، أو ضرورة لظهور الرب علانية للمعاندين بعد قيامته:
- كيف يٌظهر لهم الرب ذاته وهم لا يريدون معرفته؟
رَفَضَ اليهود بإرادتهم الحرة الإيمان بالرب يسوع الطريق والحياة والحق، فاستحقوا اللعنة، وخربت ديارهم، بالرغم من إرادة الرب الصالحة نحوهم، كقوله الصادق: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَاأُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" (لو١٣: ٣٤). فلماذا يُظهر الرب ذاته لهؤلاء الجاحدين؟!
- نعمة ظهورات القيامة نعمة لا يستحقها الأشرار:
ساوم اليهود الرب يسوع المسيح طالبين منه أن يعطيهم آية، حتى يؤمنوا مع أن الرب كان قد صنع أمامهم العديد من المعجزات والآيات، ولكن الرب لم يقبل هذه المساومة، لأنه كان نورًا في وسطهم، وهل يحتاج النور إلى دليل على حقيقة وجوده؟! لقد عاش الرب في وسطهم، كقول الرسول: "وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يو١: ٥). إن عدم إيمان البعض لم يكن سببه النور، ولكن السبب هو محبتهم للشر أكثر من الحق. لقد أحب الناس الظلمة أكثر من النور، كقول الكتاب أيضًا: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" (يو٣: ١٩).
لقد كان اليهود المعاندون في احتياج شديد للتوبة، وليس للمعجزات كقول الرب: "فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: "جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ" (مت١٢: ٣٩). لقد رفض أب الآباء إبراهيم طلب الرجل الغني (في مَثَل الغني ولعازر) بإرسال لعازر، الذي كان قد مات قبلًا إلى إخوة الغني قائلًا: "فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يَا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي... قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لاَ، يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (لو١٦: ٢9- ٣١).
- الحاجة إلى الاستنارة وتفنيد المعتقدات الخاطئة:
اقتناع الناس بفكر أو معتقد ما يتأثر بأمور كثيرة، ولذلك من السهل أن يضل الناس عن إدراك قوة الله من وراء أي معجزة أو ظهور إلهي وذلك بالتعاليم والتفاسير الخاطئة المضللة. لقد انبهر الناس في لسترة بشفاء معلمنا بولس الرسول لرجل مقعد من بطن أمه منذ أكثر من أربعين عامًا، فنادوا به إلهًا لهم، وحاولوا أن يقدموا له العبادة فذبحوا له ذبائح، ولكن الرسول رفض بشدة، وكرز لهم بالحق مفندًا لهم ضلالهم قائلًا لهم عن نفسه ورفيقه برنابا الرسول:" نحن بشر مثلكم" وابتدأ يكرز لهم بالرب يسوع المسيح إلهًا، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى أتى أناس من اليهود من مدينتي أنطاكية وإيقونية، وأقنعوا شعب لسترة بغير ذلك فرجموا الرسول بولس كقول الكتاب: "ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا الْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ" (أع١٤: ١٩).
الاستنتاج:
الكرازة ليست أمراً بسيطاً يمكن إتمامه بإبهار الناس، أو بتغييب العقل، ولكنها عمل إلهي بنعمة روح الله، يُنير الذهن، فيستطيع الإنسان أن يدرك الإنسان حقائق الإيمان. هي عمل نعمة روح الله القدوس الذي ينخس القلب، ويكشف خفاياه فيتوب، ويقبل إليه النور. يؤيد الله عمل الكارزين والمبشرين بالشهادة لكلمة نعمته بطرق كثيرة حسب إرادته، وليس بالضرورة بعمل المعجزات المبهرة كقول الكتاب: "فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ؟ قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ" (عب٢: ٣- ٤).