شتان الفرق بين موقف زكريا الكاهن من بشارة الملاك له بميلاد يوحنا المعمدان، وبين موقف القديسة العذراء من بشارة الملاك لها بميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح. لقد تشكك زكريا الكاهن ناسيًا قدرة الله على تحقيق وعده له.
أما العذراء القديسة مريم فقد آمنت أن يتم كل ما قاله لها الملاك. صدَّقت فامتلأ قلبها فرحًا وحمدًا وفاض تسبيحًا، ولهذا انطلق لسانها بمشاعر الحب لتبارك، وتسبح الله على عظم صنيعه لها كقول الوحي الإلهي:
"فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي." (لو1: 46- 48). فيما يلي نشرح ذلك بالتفصيل من خلال النقاط التالية:
أولًا: خلفيات ومكنونات وراء تساؤل العذراء القديسة
- قرار نذر البتولية وتساؤل العذراء القديسة
قرار البتولية: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ:"كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟" (لو١: ٣٤).
أمنا العذراء التي ترَّبت في الهيكل منذ سن صغير صارت إناء مختار مملوء من نعمة الله بشهادة الملاك الذي لقبها بالممتلئة نعمة، لقد كرست العذراء مريم حياتها لله في طاعة وخضوع واتضاع عجيب. ولهذا قررت العذراء أن تنذر نفسها لله لتعيش دون زواج في بتوليةٍ دائمةٍ، وهذا يظهر واضحًا من ثقة العذراء في قولها للملاك: "وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟"، أي أنها ستظل عذراء طول عمرها، ولن تتزوج، بالرغم من خطبتها ليوسف النجار الذي أخذها إلى بيته في الناصرة، والذي كانت تسكن معه حين جاء غبريال الملاك ليبشرها بالحبل الإلهي المقدس. إن قول العذراء هذا يعني ما يلي:
١- أنها قد عقدت النية وقررت أن تعيش بتولًا بدون زواج، ولا رجوع في هذا الأمر.
٢- أنها أتمت اتفاقًا مع يوسف النجار يقضي بأن يعيشا مع بعضهما كالإخوة دون زواج، لقد وافق يوسف البار على ذلك الاتفاق، ودليل ذلك قولها في ثقة: "أنا لا أعرف رجلًا".
٣- يبدو من كلام العذراء مع الملاك أنها تتكلم معه عن أمر معروف من قِبَّل الله، وقد وافقت السماء من قَبل على ذلك الأمر، ويتضح ذلك بالأكثر من كلامها بأسلوب الحال الواقع: "أنا لا أعرف رجلًا" وليس بصيغة المستقبل.
فلو كان الأمر مجرد نية أو أمنية تريدها العذراء لكانت قد قالت: "وأنا سوف لا أعرف رجلًا"، أو "قد نوينت ألاَّ أعرف رجلًا".
4- قد يبدو أن توقيت مجيء الملاك للعذراء، لم يكن بعد ترك العذراء للهيكل مباشرةً، ولكنه تم بعد فترةٍ من تركها للهيكل وعيشها كعذراء مكرّسة تعبد الله، وتخدم يوسف النجار كما اعتادت أن تفعل، وتحيا في الهيكل.
ثانيًا: معنى وقصد كل من زكريا وأليصابات من سؤال كل منهما
إجابة زكريا الكاهن على الملاك:"فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: "كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو١: ١٨). صيغة سؤال زكريا الكاهن للملاك هي: "كيف أعلم؟" وهي تحمل تشكيكًا. لقد جاء سؤال زكريا الكاهن في الترجمة الإنجليزية (CPDV) كما يلي: "How may I know?" وفي ترجمة كتاب الحياة العربية جاءت هكذا: "بما يتأكد لي"، لقد أراد زكريا الكاهن دليل لكي يؤمن، ويصدق خبر بشارة الملاك له بميلاد يوحنا المعمدان. وهذا بالطبع ليس من الإيمان.
إجابة العذراء على الملاك: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: "كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟"(لو١: ٣٤). صيغة تساؤل العذراء القديسة والدة الإله مريم هي: "كيف يكون؟".
وهناك فرق كبير بين كيف أعلم؟ وكيف يكون؟.. لقد استفسرت العذراء عن كيفية حدوث ذلك الحمل بدون زواج، وهذا أمر لا يغضب الله، ولا الملاك في شيء، لأن الاستفسار عن الأمور الغامضة حق طبيعي أعطاه الله للإنسان.
إن تساؤل العذراء أمرٌ يدل على وعي العذراء، وحكمتها، ومعرفتها، ودالتها عند الله. لقد أدركت العذراء أن الملاك المكلف مِن قبل ببشارتها سيجيبها حتمًا، ذلك لأن الله لا يخفي عن أحبائه أسراره كقوله لإبراهيم أب الآباء: "فَقَالَ الرَّبُّ: هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ؟" (تك١٨: ١٧- ١٨).
لقد أخبر الوحي الإلهي عن دالة موسى وكرامته عند الله وكيف كان يكلمه الله قائلًا: "فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟" (عد١٢: ٨).
إن الله المتضع الودود لا يقبل أن نضعه في موضع شك، لكنه لا يرفض أن يستفسر الإنسان، أو أن يطلب المعرفة فيما يخص أمور حياته وخلاص نفسه، كقول المزمور: "طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ" (مز١١٩: ٢٧).
لقد طلب دانيال النبي بدالة من الله أن يُفَهّمهُ، ويفسر له الله نبوات إرميا النبي عن نبوة السبعون أسبوع، فأجاب الله طلبه، وأرسل له جبرائيل الملاك كقول الكتاب: "فِي ابْتِدَاءِ تَضَرُّعَاتِكَ خَرَجَ الأَمْرُ، وَأَنَا جِئْتُ لأُخْبِرَكَ لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ. فَتَأَمَّلِ الْكَلاَمَ وَافْهَمِ الرُّؤْيَا" (دا٩: ٢٣).
- سؤال العذراء أمر ضروري وواجب
كان من الضروري أن تتسائل العذراء عن كيفية حبلها، ولو لم تكن العذراء قد تسائلت، لكان الملاك أخبرها عن كيفية حبلها بابن الله الوحيد، وهل من المعقول أن يحل جنين في بطن فتاة، أو شابة كالعذراء دون أن تدري من هو أبوه؟ فترتبك وتضطرب! وهل يسمح الله لها بحيرة كذلك؟ ولماذا؟ وهل ما سينتج عن ذلك من اضطرابات نفسية سيجعل من العذراء أمًا تصلح للعناية بخالق البشرية؟
ثالثًا إيمان العذراء وإيمان زكريا الكاهن في الميزان
لقد نطق زكريا الكاهن بما يجول في قلبه من شك قائلًا: "فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو١: ١٨).
لقد كان زكريا الكاهن ملومًا في عدم إيمانه، لأنه لم يصدق الله الذي أرسل له جبرائيل الملاك.. لقد ظهر له الملاك بمجد وعظمة ملائكية حتى أنه اضطرب، وخاف كقول الكتاب: "فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ" (لو١: ١٢).
لم يرسل له الله إنسانًا ليبشره، بل أرسل له جبرائيل المبشر العظيم الذي ظهر له بمجد نوراني. فلماذا لم يؤمن بقدرة الله على إتمام المعجزة التي بشره بها الملاك؟! ألَّا يعتبر ذلك علامة واضحة على صدق البشارة بميلاد ابنه يوحنا. أما إيمان وتسليم العذراء القديسة، وخضوعها لله فقد فاق العقل والمنطق.
في النقاط التالية نلقي الضوء على عظمة إيمان والدة الإله مريم القديسة:
إن أعظم دليل يشهد على إيمان الإنسان هو تسليمه وخضوعه لله حين يطلب الله منه أمرًا ضد إرادته، أو حين يطلب منه الله أمرًا غريبًا غير مألوف أو مجهول العاقبة.
لقد خضع أب الآباء إبراهيم لله، وخرج من أرضه ومن عشيرته، وأطاع الله في تسليم لمشيئته مقدمًا إسحاق ذبيحة، حتى قيل عنه: "بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي" (عب١١: ٨). وهكذا فعلت العذراء حين سلمت كل أمرها في يد الله ليفعل بها كل ما أراده في طاعة وخضوع قائلة للملاك: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ" (لو١: ٣٨).
لقد تجلى خضوع العذراء، وتسليمها التام لله في قولها:
١- "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ" لقد وصفت نفسها بالأمة أي العبدة التي يجب أن تسلم وتطيع أسيادها في خضوع تام.
٢- "لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" أي أنها توافق أن يتم فيها كل ما قاله الملاك بالضبط كما رسمه لها الله.
- شهادة أليصابات بالروح القدس عن إيمان أمنا العذراء
امتلأت أليصابات زوجة زكريا الكاهن بالروح القدس لمجرد سماع سلام العذراء مريم، وشهدت بالروح القدس (دون سابق معرفة) عن إيمان أمنا العذراء قائلة: "طوبى لمن آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو١: ٤٥).
رابعًا: موضوع إيمان كل من العذراء وزكريا الكاهن
- عدم عقلانية ما آمنت به العذراء
الحبل بلا زواج أمر يفوق العقل، ويفوق الطبيعة، التي تشهد باستحالة الإنجاب بدون زواج. لقد آمنت أمنا مريم العذراء بأمر لا يمكن أن يخطر على عقل بشر، ويفوق كل معقول. إن اعتقاد العذراء بقدرة الله، واستطاعته على كل شيء هو أساس ومرجع تصديقها لكلام جبرائيل الملاك المبشر. لقد آمنت العذراء بقدرة الله فتغنت وسبحت عظمته قائلة: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ" (لو١: ٤٩)
- الإنجاب في الشيخوخة معجزة إلهية مألوفة
أما زكريا الكاهن فلم يكن الحال كذلك، لأنه كان يعلم أن الله أعطى إبراهيم وسارة زوجته نسلًا بعدما شاخا، ولم يعد لهما قدرة على الإنجاب؛ إذ كان أبونا إبراهيم قد بلغ من العمر في ذلك الحين مائة سنة، وأيضًا بعدما شاخ مستودع سارة أي رحمها، ولم يعد صالحًا لحمل جنين كقول الكتاب عنهما: "فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا" (رو٤: ١٨- ٢١).
خامسًا: ليست عقوبة، بل صمت للامتلاء والخلوة المقدسة
استنكر الملاك عدم إيمان وشك كاهن الله العلي، الخبير في كلمة الله ومعاملاته، فاضطر أن يكلمه بنبرة التوبيخ، كاشفًا له عن هويته، مؤكدًا له أنه هو جبرائيل رئيس الملائكة الجليل الواقف قدام الله، وبخه لأنه لم يصدق كلامه. ثم أعطاه العلامة التي طلبها لكي يؤمن قائلًا له: "فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ" (لو١: ١٩- ٢٠).
إن صمت زكريا الكاهن لا يحسب عقوبة، لكنه بالحري نوع من التوبيخ والاستنكار لخطية الشك وعدم الإيمان. لقد احتاج زكريا التبكيت الذي دفعه للتوبة ومعرفة فضل الله وعظمة مقدار نعمته، التي أفاضها عليه.
كان الأولى بزكريا الكاهن أن يصدق كلام الله، فيمتلئ قلبه بالفرح الذي يؤدي به للشكر والحمد، ولكنه شك، ولم يؤمن. لقد أعطاه الله أن يصمت قليلًا، لعله يتأمل عظمة الله وهو يتابع مظاهر الحمل تبدو على زوجته.
لقد كان صمته بمثابة فترة خلوة مقدسة يعتزل فيها الناس قليلًا ليراجع النبوات والمواعيد، التي قيلت عن المسيا المنتظر، وعن يوحنا المعمدان، الذي سيتقدمه بروح إيليا، كما شهدت نبوءات الكتب المقدسة.
كانت فترة مراجعة للنفس وصلاة وتسبيح، وبعد أن أتت الخلوة المقدسة ثمارها انطلق حينئذ لسانه بالتسبيح والتمجيد لله العلي كقول الكتاب:
"وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ" (لو١: ٦٤).
Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:8.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:107%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}
شتان الفرق بين موقف زكريا الكاهن من بشارة الملاك له بميلاد يوحنا المعمدان، وبين موقف القديسة العذراء من بشارة الملاك لها بميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح. لقدتشكك زكريا الكاهن ناسيًا قدرة الله على تحقيق وعده له.
أما العذراء القديسة مريم فقد آمنت أن يتم كل ما قاله لها الملاك. صدَّقت فامتلأ قلبها فرحًا وحمدًا وفاض تسبيحًا، ولهذا انطلق لسانها بمشاعر الحب لتبارك، وتسبح الله على عظم صنيعه لها كقول الوحي الإلهي:
"فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي." (لو١: ٤٦- 48).فيما يلي نشرح ذلك بالتفصيل من خلال النقاط التالية:
أولًا: خلفيات ومكنونات وراء تساؤل العذراء القديسة
v قرار نذر البتولية وتساؤل العذراء القديسة
قرار البتولية: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ:"كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟" (لو١: ٣٤).
أمنا العذراء التي ترَّبت في الهيكل منذ سن صغير صارت إناء مختار مملوء من نعمة الله بشهادة الملاك الذي لقبها بالممتلئة نعمة، لقد كرست العذراء مريم حياتها لله في طاعة وخضوع واتضاع عجيب. ولهذا قررت العذراء أن تنذر نفسها لله لتعيش دون زواج في بتوليةٍ دائمةٍ، وهذا يظهر واضحًا من ثقة العذراء في قولها للملاك: "وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟"،أي أنها ستظل عذراء طول عمرها، ولن تتزوج، بالرغم من خطبتها ليوسف النجار الذي أخذها إلى بيته في الناصرة، والذي كانت تسكن معه حين جاء غبريال الملاك ليبشرها بالحبل الإلهي المقدس. إن قول العذراء هذا يعني ما يلي:
١- أنها قد عقدت النية وقررت أن تعيش بتولًا بدون زواج، ولا رجوع في هذا الأمر.
٢- أنها أتمت اتفاقًا مع يوسف النجار يقضي بأن يعيشا مع بعضهما كالإخوة دون زواج، لقد وافق يوسف البار على ذلك الاتفاق، ودليل ذلك قولها في ثقة: "أنا لا أعرف رجلًا".
٣- يبدو من كلام العذراء مع الملاك أنها تتكلم معه عن أمر معروف من قِبَّل الله، وقد وافقت السماء من قَبل على ذلك الأمر، ويتضح ذلك بالأكثر من كلامها بأسلوب الحال الواقع: "أنا لا أعرف رجلًا" وليس بصيغة المستقبل.
فلو كان الأمر مجرد نية أو أمنية تريدها العذراء لكانت قد قالت: "وأنا سوف لا أعرف رجلًا"، أو"قد نوينت ألاَّ أعرف رجلًا".
4- قد يبدو أن توقيت مجيء الملاك للعذراء، لم يكن بعد ترك العذراء للهيكل مباشرةً، ولكنه تم بعد فترةٍ من تركها للهيكل وعيشها كعذراء مكرّسة تعبد الله، وتخدم يوسف النجار كما اعتادت أن تفعل، وتحيا في الهيكل.
ثانيًا: معنى وقصد كل من زكريا وأليصابات من سؤال كل منهما
v سؤال زكريا الكاهن
إجابة زكريا الكاهن على الملاك:"فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: "كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو١: ١٨).صيغة سؤال زكريا الكاهن للملاك هي: "كيف أعلم؟" وهي تحمل تشكيكًا. لقد جاء سؤال زكريا الكاهن في الترجمة الإنجليزية (CPDV) كما يلي:"How may I know?"وفي ترجمة كتاب الحياة العربية جاءت هكذا: "بما يتأكد لي"، لقد أراد زكريا الكاهن دليل لكي يؤمن، ويصدق خبر بشارة الملاك له بميلاد يوحنا المعمدان. وهذا بالطبع ليس من الإيمان.
v تساؤل العذراء
إجابة العذراء على الملاك: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ:"كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟"(لو١: ٣٤).صيغة تساؤل العذراء القديسة والدة الإله مريم هي: "كيف يكون؟".
وهناك فرق كبير بين كيف أعلم؟ وكيف يكون؟.. لقد استفسرت العذراء عن كيفية حدوث ذلك الحمل بدون زواج، وهذا أمر لا يغضب الله، ولا الملاك في شيء، لأن الاستفسار عن الأمور الغامضة حق طبيعي أعطاه الله للإنسان.
إن تساؤل العذراء أمرٌ يدل على وعي العذراء، وحكمتها، ومعرفتها، ودالتها عند الله. لقد أدركت العذراء أن الملاك المكلف مِن قبل ببشارتها سيجيبها حتمًا، ذلك لأن الله لا يخفي عن أحبائه أسراره كقوله لإبراهيم أب الآباء: "فَقَالَ الرَّبُّ: هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ؟" (تك١٨: ١٧- ١٨).
لقد أخبر الوحي الإلهي عن دالة موسى وكرامته عند الله وكيف كان يكلمه الله قائلًا:"فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟" (عد١٢: ٨).
إن الله المتضع الودود لا يقبل أن نضعه في موضع شك، لكنه لا يرفض أن يستفسر الإنسان، أو أن يطلب المعرفة فيما يخص أمور حياته وخلاص نفسه، كقول المزمور:"طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ" (مز١١٩: ٢٧).
لقد طلب دانيال النبي بدالة من الله أن يُفَهّمهُ، ويفسر له الله نبوات إرميا النبي عن نبوة السبعون أسبوع، فأجاب الله طلبه، وأرسل له جبرائيل الملاك كقول الكتاب:"فِي ابْتِدَاءِ تَضَرُّعَاتِكَ خَرَجَ الأَمْرُ، وَأَنَا جِئْتُ لأُخْبِرَكَ لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ. فَتَأَمَّلِ الْكَلاَمَ وَافْهَمِ الرُّؤْيَا" (دا٩: ٢٣).
v سؤال العذراء أمر ضروري وواجب
كان من الضروري أن تتسائل العذراء عن كيفية حبلها، ولو لم تكن العذراء قد تسائلت، لكان الملاك أخبرها عن كيفية حبلها بابن الله الوحيد، وهل من المعقول أن يحل جنين في بطن فتاة، أو شابة كالعذراء دون أن تدري من هو أبوه؟ فترتبك وتضطرب! وهل يسمح الله لها بحيرة كذلك؟ ولماذا؟ وهل ما سينتج عن ذلك من اضطرابات نفسية سيجعل من العذراء أمًا تصلح للعناية بخالق البشرية؟
ثالثًا إيمان العذراء وإيمان زكريا الكاهن في الميزان
لقد نطق زكريا الكاهن بما يجول في قلبه من شك قائلًا:"فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو١: ١٨).
لقد كان زكريا الكاهن ملومًا في عدم إيمانه، لأنه لم يصدق الله الذي أرسل له جبرائيل الملاك.. لقد ظهر له الملاك بمجد وعظمة ملائكية حتى أنه اضطرب، وخاف كقول الكتاب:"فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ" (لو١: ١٢).
لم يرسل له الله إنسانًا ليبشره، بل أرسل له جبرائيل المبشر العظيم الذي ظهر له بمجد نوراني. فلماذا لم يؤمن بقدرة الله على إتمام المعجزة التي بشره بها الملاك؟! ألَّا يعتبر ذلك علامة واضحة على صدق البشارة بميلاد ابنه يوحنا. أما إيمان وتسليم العذراء القديسة، وخضوعها لله فقد فاق العقل والمنطق.
في النقاط التالية نلقي الضوء على عظمة إيمان والدة الإله مريم القديسة:
v إيمان العذراء القديسة
إن أعظم دليل يشهد على إيمان الإنسان هو تسليمه وخضوعه لله حين يطلب الله منه أمرًا ضد إرادته، أو حين يطلب منه الله أمرًا غريبًا غير مألوف أو مجهول العاقبة.
لقد خضع أب الآباء إبراهيم لله، وخرج من أرضه ومن عشيرته، وأطاع الله في تسليم لمشيئته مقدمًا إسحاق ذبيحة، حتى قيل عنه:"بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي" (عب١١: ٨). وهكذا فعلت العذراء حين سلمت كل أمرها في يد الله ليفعل بها كل ما أراده في طاعة وخضوع قائلة للملاك:"فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ" (لو١: ٣٨).
لقد تجلى خضوع العذراء، وتسليمها التام لله في قولها:
١- "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ"لقد وصفت نفسها بالأمة أي العبدة التي يجب أن تسلم وتطيع أسيادها في خضوع تام.
٢-"لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" أي أنها توافق أن يتم فيها كل ما قاله الملاك بالضبط كما رسمه لها الله.
v شهادة أليصابات بالروح القدس عن إيمان أمنا العذراء
امتلأت أليصابات زوجة زكريا الكاهن بالروح القدس لمجرد سماع سلام العذراء مريم، وشهدت بالروح القدس (دون سابق معرفة) عن إيمان أمنا العذراء قائلة:"طوبى لمن آمنت أن يتم ما قيل لها منقبلالرب" (لو١: ٤٥).
رابعًا: موضوع إيمان كل من العذراء وزكريا الكاهن
v عدم عقلانية ما آمنت به العذراء
الحبل بلا زواج أمر يفوق العقل، ويفوق الطبيعة، التي تشهد باستحالة الإنجاب بدون زواج. لقد آمنت أمنا مريم العذراء بأمر لا يمكن أن يخطر على عقل بشر، ويفوق كل معقول. إن اعتقاد العذراء بقدرة الله، واستطاعته على كل شيء هو أساس ومرجع تصديقها لكلام جبرائيل الملاك المبشر. لقد آمنت العذراء بقدرة الله فتغنت وسبحت عظمته قائلة: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ" (لو١: ٤٩)
v الإنجاب في الشيخوخة معجزة إلهية مألوفة
أما زكريا الكاهن فلم يكن الحال كذلك، لأنه كان يعلم أن الله أعطى إبراهيم وسارة زوجته نسلًا بعدما شاخا، ولم يعد لهما قدرة على الإنجاب؛ إذ كان أبونا إبراهيم قد بلغ من العمر في ذلك الحين مائة سنة، وأيضًا بعدما شاخ مستودع سارة أي رحمها، ولم يعد صالحًا لحمل جنين كقول الكتاب عنهما:"فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا" (رو٤: ١٨- ٢١).
خامسًا: ليست عقوبة، بل صمت للامتلاء والخلوة المقدسة
v الملاك يوبخ زكريا الكاهن
استنكر الملاك عدم إيمان وشك كاهن الله العلي، الخبير في كلمة الله ومعاملاته، فاضطر أن يكلمه بنبرة التوبيخ، كاشفًا له عن هويته، مؤكدًا له أنه هو جبرائيل رئيس الملائكة الجليل الواقف قدام الله، وبخه لأنه لم يصدق كلامه. ثم أعطاه العلامة التي طلبها لكي يؤمن قائلًا له:"فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ" (لو١: ١٩- ٢٠).
إن صمت زكريا الكاهن لا يحسب عقوبة، لكنه بالحري نوع من التوبيخ والاستنكار لخطية الشك وعدم الإيمان. لقد احتاج زكريا التبكيت الذي دفعه للتوبة ومعرفة فضل الله وعظمة مقدار نعمته، التي أفاضها عليه.
v التسبيح الواجب
كان الأولى بزكريا الكاهن أن يصدق كلام الله، فيمتلئ قلبه بالفرح الذي يؤدي به للشكر والحمد، ولكنه شك، ولم يؤمن. لقد أعطاه الله أن يصمت قليلًا، لعله يتأمل عظمة الله وهو يتابع مظاهر الحمل تبدو على زوجته.
لقد كان صمته بمثابة فترة خلوة مقدسة يعتزل فيها الناس قليلًا ليراجع النبوات والمواعيد، التي قيلت عن المسيا المنتظر،وعن يوحنا المعمدان، الذي سيتقدمه بروح إيليا، كما شهدت نبوءات الكتب المقدسة.
كانت فترة مراجعة للنفس وصلاة وتسبيح، وبعد أن أتت الخلوة المقدسة ثمارها انطلق حينئذ لسانه بالتسبيح والتمجيد لله العلي كقول الكتاب:"وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ" (لو١: ٦٤).