أولًا: الحرب المشروعة:
تمتلئ صفحات تاريخ البشرية بأخبار الحروب، ولكن هل كل من قاد حربًا قد ارتكب خطأَ في حق البشرية؟ إن من يظن ذلك مخطئ وهل يجرؤ أحد أن يوجه لومًا لمن حاربوا ليخلصوا المظلومين والمضطهدين؟ أو ليخلصوا العالم من شر الأشرار؟ لقد مدح الناس هذه الأنواع من الحروب.
إن الحق والخير، وتحمل المسئولية نحو المظلومين والضعفاء دافع ومحرك لذلك النوع من الحروب، حتى أن البعض يذهب في وصفها بالحروب المقدسة.
- مثال تطبيقي:
عرف عن إبراهيم أب الآباء أنه رجل مسالم، ولم يذكر عنه التاريخ أنه اعتدى على أحد قط، لكن الكتاب المقدس يشهد له أنه جمع غلمانه وذهب ليخلص أهل سدوم، ومعهم لوط ابن أخيه كقول الكتاب: "فَلَمَّا سَمِعَ أَبْرَامُ، أَنَّ أَخَاهُ سُبِيَ جَرَّ غِلْمَانَهُ الْمُتَمَرِّنِينَ، وِلْدَانَ بَيْتِهِ، ثَلاَثَ مِئَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ... فَكَسَّرَهُمْ وَتَبِعَهُمْ إِلَى حُوبَةَ الَّتِي عَنْ شَمَالِ دِمَشْقَ. وَاسْتَرْجَعَ كُلَّ الأَمْلاَكِ، وَاسْتَرْجَعَ لُوطاً أَخَاهُ أَيْضًا وَأَمْلاَكَهُ، وَالنِّسَاءَ أَيْضًا وَالشَّعْبَ" (تك١٤: ١٤- ١٦). إن دافع أب الآباء من وراء هذه الحرب هو الحق ورفع الظلم، ولهذا يمكن أن تندرج هذه الحرب تحت مسمى الحرب المقدسة.
ثانيًا: خصائص الحرب المشروعة (المقدسة):
- هي مسئولية صاحب السلطان الصالح:
كل ذي سلطان أُعطي القوة لكي يستخدمها حسنًا حسب قول الكتاب: "لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ" (رو١٣: ٤). إن المسئولية والواجب تلزمان صاحب السلطان سواء كان رئيسًا أو ملكًا أو هيئة أو… أو... بالدفاع عن الحق ضد الأعداء، الذين لا يريدون الحق ويشيعون الفساد والفوضى عنوة، وكلما زادت قوة وسلطة صاحب السلطان كلما حتمت عليه المسئولية محاربة الشر.
إن أبسط مثال لذلك في عالمنا هو ما تضعه الدول العظمى (كصاحبة سلطان أعظم) من مسئولية على نفسها في محاربة، وتدمير قوة الدول التي تحمل عداءً لجيرانها، وتهددهم دون وجه حق معتمدة على قوتها العسكرية (لامتلاكها أسلحة فتاكة نووية أو كيماوية)، أو أيضًا ما تفعله حكومات الدول في قتال ومحاربة الجماعات التي تستخدم وتستجمع قوى شريرة لتستخدمها في القتل والدمار (كما يحدث الآن من جماعات الإرهاب البغيضة)؛ أملاً في فرض سيطرتها وإرادتها الشريرة وعقائدها بالقوة والعنف.
- باسم الحق ومن أجل الصلاح:
هناك حروب كثيرة تشن طمعًا في ممتلكات الغير، أو قد تكون لفرض سيطرة، وهيمنة عدو شرير له سياسات أو شرائع مفسدة، لكن الحرب المقدسة أو المشروعة هي من أجل خير الناس، والدفاع عنهم كقول الكتاب: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ" (إش 42: 1- 4)
- لحماية الناس من سيطرة ونفوذ الطغيان:
إن سيطرة الأشرار وسيادتهم لأمور الحياة مصيبة على الناس كقول الكتاب: "إِذَا سَادَ الصِّدِّيقُونَ فَرِحَ الشَّعْبُ، وَإِذَا تَسَلَّطَ الشِّرِّيرُ يَئِنُّ الشَّعْب"ُ. (أم29: ٢). وأيضًا قول الكتاب: "إِذَا سَادَ الأَشْرَارُ كَثُرَتِ الْمَعَاصِي، أَمَّا الصِّدِّيقُونَ فَيَنْظُرُونَ سُقُوطَهُمْ." (أم29: 16).
إن ترك صاحب السلطان شعبه لسيطرة سادة أشرار بحجة كرهه للحرب (مثلًا) لا تُحسب له فضيلة إطلاقًا، بل رذيلة ويحسب هو غير أهلٍ للمسئولية والرعاية لشعبه، وبفعله هذا يكون قد أسلمهم للهلاك والدمار كقول الكتاب: "الرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ. لأَنَّهُ لاَ تَسْتَقِرُّ عَصَا الأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ الصِّدِّيقِينَ، لِكَيْلاَ يَمُدَّ الصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى الإِثْمِ." (مز١٢٥: ٢- ٣).
ثالثًا: الحرب للرب:
- القضاء على الشر مسئولية إلهية:
مما سبق يتضح أن الحرب، التي يعني بها الكتاب المقدس هي حرب لنصرة الحق وللقضاء على الشر. وإن صاحب السلطان المطلق (الله) والصالح أيضًا لابد أن يحارب الشر ليقضي عليه حتى ينتصر الحق، وهذا ما سيتحقق في الأبدية، وبناء على ذلك يتضح أن الله هو الأولى بمحاربة الشر. لقد رأى داود النبي صلاح الرب يسوع وقوته بروح النبوة فطالبه بنزع الشر ونصرة الحق قائلًا: "فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ. مُتَكَلِّمٌ أَنَا بِإِنْشَائِي لِلْمَلِكِ. لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ مَاهِرٍ. أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ. تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. وَبِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ" (مز ٤٥: ١- ٤).
- الله القوي في الحروب:
إن محاربة الشر، والقضاء عليه هي من صميم عمل الله لا الإنسان، وهو لا يحتاج البشر ليتمم نصرته على الشر. إنه كفيل أن يقضي على الشر بكلمة من فمه كقوله: "فَتُبْ وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعًا وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي" (رؤ٢: ١٦). وأيضًا قوله: "وَالْبَاقُونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الْجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ الْخَارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَمِيعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ" (رؤ١٩: ٢١).
لقد اختبر الأبرار المتوكلون على الله القدير قوة غلبته، وقد تغنى داود النبي بقوة الرب وهو يتقدم، وبيده خمس من الحجارة الملساء؛ ليحارب بها جليات المحارب الجبار، الذي أذل هو وجيشه شعب الله قائلًا له: "... أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ" (١صم١٧: ٤٥).
- طرق الله للقضاء على الشر:
إن لله طرق عديدة للقضاء على الشر نذكر منها: الكرازة والتعليم لفضح فظاعة الشر، وإقناع البشر بأفضلية الصلاح والحق، وضرورة الحب، ثم تأتي إنذارات الله، وتأديبه لمن لا يستجيب، وقد يعاقب الله؛ فيضرب الأشرار بضربات طبيعية، أو قد يُسخر أمة للانتقام من أمة شريرة، كل هذا حسب حكمته فهو الديان والقاضي العادل كقول المرنم: "لِيَنْتَهِ شَرُّ الأَشْرَارِ وَثَبِّتِ الصِّدِّيقَ. فَإِنَّ فَاحِصَ الْقُلُوبِ وَالْكُلَى اللهُ الْبَارُّ. تُرْسِي عِنْدَ اللهِ مُخَلِّصِ مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ. اَللهُ قَاضٍ عَادِلٌ، وَإِلهٌ يَسْخَطُ فِي كُلِّ يَوْمٍ. إِنْ لَمْ يَرْجعْ يُحَدِّدْ سَيْفَهُ. مَدَّ قَوْسَهُ وَهَيَّأَهَا" (مز٧: ٩- ١٢).