حروب بني إسرائيل مع الأموريين (الكنعانيين) هي أشهر الحروب المعروفة في العهد القديم، وقد تمت هذه الحروب بأوامر مباشرة من الله. لقد تأنى الله كثيرًا على تلك الشعوب؛ لعلهم يرجعون عن ضلالهم، ولكن هذه الشعوب فسدت تمامًا، وانعدم غرض وجودها.
وفيما يلي نشرح بالتفصيل الحيثيات والمبررات التي أوجبت القضاء على تلك الشعوب الشريرة.
أولًا: حيثيات الحرب على الأموريين:
لم يأتِ الأمر بمحاربة سكان كنعان بين يوم وليلة. لقد مَلَّك الله شعب إسرائيل أرضهم بعدما امتلأ، وفاض مكيال شرورهم، وبعد أن تأنى الله عليهم كثيراً أملًا في توبتهم. إن خير دليل لذلك تاجيل الله حكمه عليهم بالطرد من الأرض أربعمائة عام حسب قوله لأب الآباء إبراهيم: "وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ. وَفِي الْجِيلِ الرَّابعِ يَرْجِعُونَ إِلَى ههُنَا، لأَنَّ ذَنْبَ الأموريين لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلاً" (تك١٥: ١٥- ١٦).
- الحكم بطرد الأشرار:
إن المدقق في دراسة الكتاب يعلم، أن حكم الله كان أساسه الطرد للسكان الأشرار، والكتاب يوضح لنا أن طرد شعوب لشعوب أخرى والسكنى مكانها كان أمرًا مألوفًا في ذلك الزمان، وبالطبع كان هذا بأمر الله، فعلى سبيل المثال قول الكتاب: "كَمَا فَعَلَ لِبَنِي عِيسُو السَّاكِنِينَ فِي سِعِيرَ الَّذِينَ أَتْلَفَ الْحُورِيِّينَ مِنْ قُدَّامِهِمْ، فَطَرَدُوهُمْ وَسَكَنُوا مَكَانَهُمْ إِلَى هذَا الْيَوْمِ. وَالْعُوِّيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي الْقُرَى إِلَى غَزَّةَ، أَبَادَهُمُ الْكَفْتُورِيُّونَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ كَفْتُورَ وَسَكَنُوا مَكَانَهُمْ" (تث٢: ٢٢- ٢٣). وأيضًا قوله: "أَلَسْتُمْ لِي كَبَنِي الْكُوشِيِّينَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَلَمْ أُصْعِدْ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَالْفِلِسْطِينِيِّينَ مِنْ كَفْتُورَ، وَالأَرَامِيِّينَ مِنْ قِيرٍ؟" (عا٩: ٧).
إن الكتاب المقدس يحتوي على عشرات الشواهد، التي تؤكد أن هدف الحرب هو طرد السكان الأشرار من الأرض، التي تنجست، وصار كل موضع فيها نجسًا. فيما يلي نذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
-"أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِك" (قض١١: ٢٤)ُ ..وأيضًا قوله:
-"لِكَيْ يَطْرُدَ مِنْ أَمَامِكَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَيَأْتِيَ بِكَ وَيُعْطِيَكَ أَرْضَهُمْ نَصِيبًا كَمَا فِي هذَا الْيَوْمِ" (تث٤: ٣٨)
-"وَلكِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ يَطْرُدُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبَ مِنْ أَمَامِكَ قَلِيلاً قَلِيلاً. لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفْنِيَهُمْ سَرِيعًا، لِئَلاَّ تَكْثُرَ عَلَيْكَ وُحُوشُ الْبَرِّيَّةِ" (تث٧: ٢٢).
- قرار الحرب للأشرار المعاندين لقضاء إله الأرض:
لقد أمضى شعب إسرائيل أربعين عامًا في البرية، وعرفت الشعوب قوة إله إسرائيل، الذي أخرجهم من وسط أرض مصر، وعلموا أيضاً مقصدهم بطرد الشعوب الشريرة، ولكن من أصروا على تحديه وعصيانه، وحاربوا بني إسرائيل أسلمهم الله ليد بني إسرائيل، وأمر بقتالهم.
لقد سجل سفر يشوع محاربة الكنعانيين الرافضين قضاء الله بني إسرائيل قائلًا: " ثُمَّ عَبَرْتُمُ الأُرْدُنَّ وَأَتَيْتُمْ إِلَى أَرِيحَا. فَحَارَبَكُمْ أَصْحَابُ أَرِيحَا: الأَمُورِيُّونَ وَالْفِرِزِّيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَالْحِثِّيُّونَ وَالْجِرْجَاشِيُّونَ وَالْحِوِّيُّونَ وَالْيَبُوسِيُّونَ، فَدَفَعْتُهُمْ بِيَدِكُمْ. وَأَرْسَلْتُ قُدَّامَكُمُ الزَّنَابِيرَ وَطَرَدْتُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ، أَيْ مَلِكَيِ الأموريين، لاَ بِسَيْفِكَ وَلاَ بِقَوْسِكَ." (يش٢٤: ١١- ١٢).
ثانيًا: مبررات وأسباب تتعلق بالآلهة الشريرة:
صارت هذه الآلهة المزعومة سببًا رئيسيًا في ضلال، وهلاك الكثيرين فتنجست الأرض (صار الجميع شركاء في النجاسة والشر) بسببها. لقد اعتقدت الشعوب في وجوب الخضوع والطاعة التامة لشرها، مع أنها ليست آلهة. لم يكن هناك أمل في تخلي هذه الشعوب عن شرها إلا بإبادة تلك العبادات الشريرة، وإظهار ضلالها. لقد سمح الرب بهذه الحروب ليخزى عابدو الأصنام من أصنامهم الشريرة، التي اتكلوا عليها كقول الرب: "أَعْطُوا مُوآبَ جَنَاحًا لأَنَّهَا تَخْرُجُ طَائِرَةً وَتَصِيرُ مُدُنُهَا خَرِبَةً بِلاَ سَاكِنٍ فِيهَا... فَيَخْجَلُ مُوآبُ مِنْ كَمُوشَ، كَمَا خَجِلَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْتِ إِيلَ مُتَّكَلِهِمْ" (إر٤٨: ٩- ١٣). إن هذا هو العلاج الوحيد الذي أعلنه الله على فم صفنيا النبي بقوله: "الرَّبُّ مُخِيفٌ إِلَيْهِمْ، لأَنَّهُ يُهْزِلُ جَمِيعَ آلِهَةِ الأَرْضِ، فَسَيَسْجُدُ لَهُ النَّاسُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ، كُلُّ جَزَائِرِ الأُمَمِ" (صف2: ١١). فيما يأتي نوضح ما سببته هذه العبادات من فساد:
- سلطان الآلهة الوثنية القاسي والفاسد:
اخترع البشر آلهة كثيرة. وقد عملت تلك الآلهة في خدمة شهوات ورغبات الناس الشريرة؛ فصارت سببًا لهلاك الناس، فعلى سبيل المثال لا الحصر اخترع البشر آلهة للخصوبة والجنس، وأخرى للشر والعنف، وأخرى تمجد الذات والعظمة (مثل تمثال نبوخذ ناصر الذي صنعه لنفسه وأمر شعبه بالسجود له).
لقد تفانى الناس في صنع الشر بضمير مستريح؛ استرضاءً لآلهتهم الشريرة، لأن هذه الشرور كانت طقوسًا لازمة للعبادة، وهكذا ضل الناس وهم يظنون أن ما يصنعونه من فجور هو عبادة، وخضوع واجب للآلهة. الشواهد الكتابية التالية تؤكد ذلك:
- "فَاحْتَرِزْ ... وَمِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْ آلِهَتِهِمْ قائلًا: كَيْفَ عَبَدَ هؤُلاَءِ الأُمَمُ آلِهَتَهُمْ، فَأَنَا أَيْضًا أَفْعَلُ هكَذَا؟ لاَ تَعْمَلْ هكَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ، لأَنَّهُمْ قَدْ عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ كُلَّ رِجْسٍ لَدَى الرَّبِّ مِمَّا يَكْرَهُهُ، إِذْ أَحْرَقُوا حَتَّى بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ بِالنَّارِ لآلِهَتِهِم" (تث١٢: ٣٠- ٣١).
- "الْمُتَوَقِّدُونَ إِلَى الأَصْنَامِ تَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، الْقَاتِلُونَ الأَوْلاَدَ فِي الأَوْدِيَةِ تَحْتَ شُقُوقِ الْمَعَاقِلِ" (إش٥٧: ٥).
-"لِذلِكَ قُلْ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَلْ تَنَجَّسْتُمْ بِطَرِيقِ آبَائِكُمْ، وَزَنَيْتُمْ وَرَاءَ أَرْجَاسِهِمْ؟ وَبِتَقْدِيمِ عَطَايَاكُمْ وَإِجَازَةِ أَبْنَائِكُمْ فِي النَّارِ، تَتَنَجَّسُونَ بِكُلِّ أَصْنَامِكُمْ إِلَى الْيَوْمِ…" (حز٢٠: ٣٠- ٣١).
- الخضوع للآلهة الوثنية رفض لسلطان الله الخالق:
إن اعتقاد الشعوب، وإيمانهم بتلك الآلهة يعني خضوعهم لسلطان تلك الآلهة الشريرة؛ وبالتالي معاداة الإله الحقيقي، ولهذا حذر موسى النبي شعبه قائلًا: "وَلاَ تَسْلُكُونَ فِي رُسُومِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ أَنَا طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ. لأَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوا كُلَّ هذِهِ، فَكَرِهْتُهُمْ" (لا٢٠: ٢٣).
لقد أحيطت هذه الآلهة الكاذبة بهالة من المجد والعظمة الكاذبة، التي دفعت الناس للخضوع والطاعة العمياء لها؛ فرفض الناس سلطان إله السماء. وذلك يتضح من تعيير ربشاقي القائد الأشوري لله الحي وتمجيده لإلهه بقوله: "لا يغُرَّكُمْ حَزَقِيَّا قائلًا: الرَّبُّ يُنْقِذُنَا. هَلْ أَنْقَذَ آلِهَةُ الأُمَمِ كُلُّ وَاحِدٍ أَرْضَهُ مِنْ يَدِ مَلِكِ أشور؟ أَيْنَ آلِهَةُ حَمَاةَ وَأَرْفَادَ؟ أَيْنَ آلِهَةُ سَفَرْوَايِمَ؟ هَلْ أَنْقَذُوا السَّامِرَةَ مِنْ يَدِي؟" (إش٣٦: 18- 19).
- الآلهة الوثنية تشجع على العنف والظلم:
لعبت هذه الآلهة دورًا رئيسيًا في إثارة الحروب، فقد حاربت الممالك القديمة جيرانها ثقة منها في قوة آلهتها التي لا تغلب، وأيضًا اعتقادًا منها بضعف آلهة خصومها، فأقدمت على مقاتلة جيرانها بجرأة. وما يؤكد ذلك قول الكتاب عن اعتقاد شعب آرام بعدم قدرة إله إسرائيل على قتالهم في الأماكن المنخفضة: "وَأَمَّا عَبِيدُ مَلِكِ أَرَامَ فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّ آلِهَتَهُمْ آلِهَةُ جِبَال، لِذلِكَ قَوُوا عَلَيْنَا. وَلكِنْ إِذَا حَارَبْنَاهُمْ فِي السَّهْلِ فَإِنَّنَا نَقْوَى عَلَيْهِمْ" (١مل٢٠: ٢٣).
- إظهار ضعف تلك الآلهة:
لقد كانت النصرة في هذه الحروب دليلًا على عظمة الإله القوي على الإله الضعيف، وقد تعامل الله مع الشعوب المتمسكة بشرور آلهتها من هذا المنطلق، مظهرًا عظمته وقوته وأيضًا قداسته، وعدم رضاه عن شرور هذه الأمم. وقد سجل الكتاب عظمة الرب على داجون إله الفلسطينيين بقوله: "فَثَقُلَتْ يَدُ الرَّبِّ عَلَى الأَشْدُودِيِّينَ، وَأَخْرَبَهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْبَوَاسِيرِ فِي أَشْدُودَ وَتُخُومِهَا. وَلَمَّا رَأَى أَهْلُ أَشْدُودَ الأَمْرَ كَذلِكَ قَالُوا: «لاَ يَمْكُثُ تَابُوتُ إِلهِ إِسْرَائِيلَ عِنْدَنَا لأَنَّ يَدَهُ قَدْ قَسَتْ عَلَيْنَا وَعَلَى دَاجُونَ إِلهِنَا" (١صم٥: ٦- ٧).
لقد أظهر قدرته على كل الأشياء بهزيمة الآراميين، الذين اعتقدوا بعدم قدرة إله إسرائيل على هزيمتهم في الأودية كقول الكتاب: "فَتَقَدَّمَ رَجُلُ اللهِ وَكَلَّمَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الأَرَامِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ إِلهُ جِبَال وَلَيْسَ إِلهَ أَوْدِيَةٍ، أَدْفَعُ كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ الْعَظِيمِ لِيَدِكَ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ" (١مل٢٠: ٢٨).
ثالثًا: مبررات للحرب تتعلق بالله القدوس صاحب السلطان:
- إعلان الله سلطانه وملكه:
ساد نظام الحكم الثيؤقراطي (الحكم باسم الله أو الدين) الممالك القديمة، وقد حكم الله أيضًا شعب بني إسرائيل في عصور العهد القديم به. فقد كان الله هو الملك أو الحاكم الفعلي لشعبه، الذي يقضي لهم وفق شريعته، وما يؤكد ذلك قوله لصموئيل النبي عندما طالبه شعب إسرائيل بتنصيب ملك عليهم: "... اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" (١صم٨: ٦- ٧).
لعب الأنبياء والقضاة والملوك، الذين أمر الله بتنصيبهم من سبط يهوذا دور المنفذ لأوامر الله وأحكامه، لكن يخطئ من يظن أن سلطان الله في تلك العصور كان محدودًا وسط شعب إسرائيل فقط؛ لأن سلطانه الإلهي ينبغي أن يشمل جميع ممالك الأرض كلها كقول الكتاب: "لأَنَّ الرَّبَّ عَلِيٌّ مَخُوفٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ." (مز٤٧: ٢). إن أحكام الله بمعاقبة شعبه، أو بطرد ومحاربة الشعوب الشريرة، التي أفسدت مجتمعاتها هي من صميم اختصاص الله كملك للأرض كلها.
- تحقيق سلطان الله على الأرض كلها:
اعتقدت الشعوب الوثنية كل منها بأحقية ملكية إلهها للأرض؛ اعتقادًا منها بقوة وسلطان آلهتها، وهكذا أيضًا آمن شعب الله بقوة الله وسلطانه على الأرض كلها ومن عليها، ذلك لأنه خالق السماوات والأرض. لقد أعلن يفتاح الجلعادي ذلك لملك بني عمون قائلاُ له: " وَالآنَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ الأموريين مِنْ أَمَامِ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُهُ؟ أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ" (قض١١: ٢٣- ٢٤).
- لقد أكد الله سلطانه على الأرض كلها؛ بطرده الأشرار من الأرض، وتمليكه الأرض لمن يشاء حسب إرادته، لذلك فقد أجاب الله اليهود المتذمرين على عقابه لهم بسبب طرده لهم من أرضهم، وسبي نبوخذنصر ملك بابل لهم، وتشردهم إلى أرض غريبة قائلاً: "لِذلِكَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: تَأْكُلُونَ بِالدَّمِ وَتَرْفَعُونَ أَعْيُنَكُمْ إِلَى أَصْنَامِكُمْ وَتَسْفِكُونَ الدَّمَ، أَفَتَرِثُونَ الأَرْضَ؟" (حز33: 25).
- تحقيق القضاء والعدالة الإلهية:
أعلن الله قداسته من خلال الناموس، وأحكامه المعطاة لشعبه. لقد كان شعب إسرائيل هم المنفذ والمطيع لأحكامه، أما الله فكان هو الملك الحقيقي والحاكم والقاضي الفعلي، الذي يحكم، ويغضب على شر شعبه كقوله: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقْضِي عَلَيْكُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، كُلِّ وَاحِدٍ كَطُرُقِهِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. تُوبُوا وَارْجِعُوا عَنْ كُلِّ مَعَاصِيكُمْ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمُ الإِثْمُ مَهْلَكَةً" (حز١٨: ٣٠). وقوله أيضًا عن إدانته، وقضائه على أمم وشعوب الأرض " بَلَغَ الضَّجِيجُ إِلَى أَطْرَافِ الأَرْضِ، لأَنَّ لِلرَّبِّ خُصُومَةً مَعَ الشُّعُوبِ. هُوَ يُحَاكِمُ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. يَدْفَعُ الأَشْرَارَ لِلسَّيْفِ، يَقُولُ الرَّبُّ" (إر٢٥: ٣١).
- الإله القوي لابد أن يعلن عن ذاته:
لم تكن الحروب في تلك الأزمنة حروبًا بين شعوب وشعوب فقط، لكنها كانت بالأحرى حروبًا بين آلهة تلك الشعوب وبعضها؛ بغرض إظهار وإعلان قوتها وعظمتها. إن حرب الفلسطينيين مع بني إسرائيل في زمن عالي الكاهن، واستيلائهم على تابوت عهد الرب ووضعه في بيت إلههم داجون بغرض تمجيده يؤكد هذا الاعتقاد، ولكن الرب أظهر مجده، وقوته كما سجله الوحي الإلهي القائل: "وَأَخَذَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ تَابُوتَ اللهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ دَاجُونَ، وَأَقَامُوهُ بِقُرْبِ دَاجُونَ. وَبَكَّرَ الأَشْدُودِيُّونَ فِي الْغَدِ وَإِذَا بِدَاجُونَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ أَمَامَ تَابُوتِ الرَّبِّ، فَأَخَذُوا دَاجُونَ وَأَقَامُوهُ فِي مَكَانِهِ. وَبَكَّرُوا صَبَاحًا فِي الْغَدِ وَإِذَا بِدَاجُونَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى الأَرْضِ أَمَامَ تَابُوتِ الرَّبِّ، وَرَأْسُ دَاجُونَ وَيَدَاهُ مَقْطُوعَةٌ عَلَى الْعَتَبَةِ. بَقِيَ بَدَنُ السَّمَكَةِ فَقَطْ." (١صم٥: ٢- ٤).
- الإعلان العظيم (قداسة الله):
لابد أن يعلن الإله العظيم القدير عن ذاته، وكيف يختفي نوره العظيم كقول الرب: "لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ" (لو١١: ٣٣).
لقد أعلن الله عن ذاته بعدما شق البحر الأحمر، وخلص إسرائيل شعبه وأخرجهم من أرض مصر، وأعطاهم الناموس... وسار بهم أربعين سنة في البرية يضيء لهم ليلاً بعمود نار، ونهاراً يظللهم بعمود سحاب.
أدبهم الله في البرية وأعلن لهم قداسته، وهكذا عُرف الرب من خلال قيادته لشعبه، وعرفت الشعوب قوته وقضاءه بطرد الأشرار بعد أن انتشرت أخبارهم، وأذيعت في الممالك المجاورة. وقد وصف حبقوق النبي مصاحبة الله لبني إسرائيل في خروجهم العظيم من أرض كنعان قائلا: " اَللهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ، وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ. سِلاَهْ. جَلاَلُهُ غَطَّى السَّمَاوَاتِ، وَالأَرْضُ امْتَلأَتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ... قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى. وَقَفَ وَقَاسَ الأَرْضَ. نَظَرَ فَرَجَفَ الأُمَمُ وَدُكَّتِ الْجِبَالُ الدَّهْرِيَّةُ..." (حب٣: ٣- ٦).
إن تلك الأحداث، التي يعتبر البعض أنها تعبر عن صرامة الله، هي في الحقيقة إعلان لازم عن رهبة الله، وقدسيته، وعدم رضاه بالشر إطلاقًا. وقد أظهرت حاجة البشرية لنعمة المخلص الرب يسوع، والتي فاز بها طالبوه.
رابعًا: أسباب تتعلق بالشعوب الشريرة:
- فقدان الرجاء في التوبة والإصلاح:
خضعت وكرست هذه الشعوب (جميع أفرادها) كل طاقتها لخدمة الشر تحت قيادة آلهة شريرة كقول الكتاب: "وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ" (تك٦: ١١- ١٢).
لقد توغلت تلك الشعوب في صنع الشر، حتى صار الشر منهجًا طبيعيًّا لحياتها، ولم تعرف معنى الصلاح. وقد صار وجود تلك الشعوب الشريرة في أرض الأحياء ضررًا، ولا معنى له بسبب فسادهم التام. ومع هذا قبل الله كل من قبله، وآمن به مثل راحاب الزانية وأسرتها. وتُرى ماذا كان سيحدث لو فعل كل سكان أريحا كما فعلت راحاب الزانية، ورفضوا الخضوع لتلك العبادات البغيضة، وآمنوا بإله إسرائيل؟!! بالطبع لنجوا جميعهم كما نجت راحاب هي ومن لها، أما وأنهم قد أصروا على ضلالهم؛ فقد أمر الله بإبادتهم لعل مخافة الله تسود باقي البلاد المحيطة بهم.
- منع عابدي الشر من فرض شريعتهم الفاسدة:
لقد كان سكنى شعب الله مع هذه الشعوب الشريرة دون انتقال عدوى الشر لهم أمرًا مستحيلًا، ولهذا أمر الله شعبه بمحاربتهم لمنعهم من فرض شريعتهم الفاسدة على سكان الأرض. إن محو العبادات الفاسدة من الأرض أمرًا مهمًّا؛ لضمان حياة الناس وخلاصهم.
لقد اهتم الله بقداسة مدينة السامرة حتى بعد سبي أهلها، وقد علم الله الشعوب الغريبة، التي أسكنها ملك أشور السامرة بعدما سبى سكانها وجوب اتقائه، لأنه هو إله الأرض، وله السلطان عليها وعلى سكانها.
وعندما خرجت السباع لتقتلهم بسبب شرورهم؛ أرسلوا رسلًا لملك أشور يقولون له: "...إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ سَبَيْتَهُمْ وَأَسْكَنْتَهُمْ فِي مُدُنِ السَّامِرَةِ، لاَ يَعْرِفُونَ قَضَاءَ إِلهِ الأَرْضِ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمِ السِّبَاعَ فَهِيَ تَقْتُلُهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ قَضَاءَ إِلهِ الأَرْضِ». فَأَمَرَ مَلِكُ أشور قائلًا: «ابْعَثُوا إِلَى هُنَاكَ وَاحِدًا مِنَ الْكَهَنَةِ الَّذِينَ سَبَيْتُمُوهُمْ مِنْ هُنَاكَ فَيَذْهَبَ وَيَسْكُنَ هُنَاكَ، وَيُعَلِّمَهُمْ قَضَاءَ إِلهِ الأَرْضِ». فَأَتَى وَاحِدٌ مِنَ الْكَهَنَةِ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ مِنَ السَّامِرَةِ، وَسَكَنَ فِي بَيْتِ إِيلَ وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَتَّقُونَ الرَّبَّ"(مل١٧: ٢٦- ٢٨).