يسمح الله

  • لماذا يسمح الله لأطفال أبرياء بالموت بطريقة بشعة، أو للأبرياء من النساء أو الشيوخ بموت رديء سواء كان بفعل البشر كما في الحروب أو بفعل الكوارث الطبيعة المدمرة؟

    أولاً:

    موقف الله من قتل ووحشية البشر بعضهم نحو بعض.

    • القتل والوحشية هو نوع من الشر والظلم الذي لم يرضَ عنه الله من بدء وجود الإنسان على الأرض، ولم يرضَ به الله يوماً من الأيام ولن يرضى به أبداً، وقد أعلن الله ذلك بقوله لقايين: "... مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِن الأَرْضِ. فَالآَن مَلْعُوٌن أَنتَ مِن الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِن يَدِكَ" (تك٤: ١٠ - ١١).
    • سماح الله للبشر بممارسة حرية إرادتهم سواء كانت خيراً أم شراً أو حتى قتلاً، كان ضرورة لحرية الإنسان وإلا يكون الإنسان مجبراً على السلوك حسب مشيئة الله، وحتى إن صنع خيراً أو براً لا يكون لذلك قيمة، لأنه صادر عن كائن يساق كالعبيد ولا حرية له...

    مثال ذلك:

    أب يسمح لابنه بما يوافق شخصيته فقط؛ فتكون النتيجة أن يكبر الابن ويصير نسخة من أبيه ولكنها نسخة ممسوخة، فأبوه يمكنه أن يفكر ليتصرف حسناً في المواقف المختلفة ويتخذ قراراً يناسب كل موقف، أما الابن المسكين فضعيف جداً في الشخصية وبالتالي ضعيف أيضاً في مقدرته على التفكير وفي الإرادة أيضاً، ولا يمكنه فعل شيء من نفسه دون الرجوع لأبيه في كل موقف، فيكون مصدر الخير ليس منه بل خارجاً عنه. فهل يفرح الأب ويفتخر بذلك الابن؟ بالطبع لا. ولكن الأب الحكيم يترك لابنه مساحة ما من الحرية تمكنه من النضوج مع معرفته التامة أن ابنه سيخطئ حتماً، مع أن تبعية أخطاء ابنه قد تأتي عليه كأب.

    إذاً الشر والقتل والوحشية الموجودة في العالم نتيجة لمساحة الحرية الممنوحة من الله للأشرار كبشر.

    ثانياً:

    ما هو ذنب الأبرياء.

    1. طبيعة الموت:

    احتارت البشرية في هذا العدو اللدود الذي وصفه الكتاب المقدس قائلاً: "آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ" (١كو ١٥ : ٢٦). فقد قهر الموت العظماء سواء كانوا ملوكاً أو قادةً أو رؤساءً. قهر الموت الأبطال الشجعان من رجال الحرب. قهر الحكماء والمفكرين، وأيضاً الفلاسفة. قهر الموت من خَلد التاريخ أسمائهم، بل قهر الأنبياء والقديسين وبالإجمال قهر البشر أجمعين. وهكذا سيطر الموت على البشرية التي أتى منها الرب متجسداً ليقهر الموت بقيامته لحسابها فاتحاً باباً للرجاء في حياة أبدية. والآن لنتعرف من خلال النقاط التالية على طبيعة هذا العدو اللدود أي الموت:

    • جميع البشر معرّضون للموت ولابد أن يأتيهم الموت كقول الكتاب: "وَكَمَا وُضِعَ لِلَّناسِ أَن يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنوَنةُ" (عب٩: ٢٧).
    • الموت قريب جداً من الإنسان، فالبشر جميعهم معرضون للموت في كل لحظة وفي أي لحظة بسبب ضعف تكوينهم الجسماني، فجسدنا تفارقه الحياة لأسباب كثيرة مثل المرض أو الحريق أو البرد الشديد أو الغرق أو التعرض للعنف بكل صوره أو... أو... أو... وقد وصف الكتاب المقدس ذلك بقوله: "لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْن آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِندَهُ. تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ" (مز١٤٦: ٣-٤)، وقد قصد الله ذلك حتى يدرك البشر زوال هذه الحياة.
    • تعدد طرق وأسباب الموت يعبر عن حقيقة هامة أراد الله تأكيدها للبشر، وهي سهولة حدوث الموت وواقعيته، فالموت يحاصر الإنسان من كل جهة وقد أراد الله للإنسان ألا تفارقه تلك الحقيقة على الدوام. ولو افترضنا جدلاً أن الشيخوخة أصبحت هي السبب الوحيد للموت مثلاً، هنا نتوقع ألا يفكر الإنسان في الموت إلا عندما يبلغ سن الشيخوخة. أما عندما يدرك الإنسان أن الموت قريب جداً منه فأنه يتطلع إلى ما بعد هذه الحياة (الحياة الأخرى).
    • وقد نشبه ضعف تكوين الإنسان الجسدي بورق الكتابة الذي من السهل فساده سواء ببلل الماء أو بالتمزيق أو بحرقه بالنار أو سهولة تهتكه بمرور الوقت، لكننا نستعمله لفائدته ونحن نعلم أنه لن يعمّر كثيراً. ولهذا سمح الله أيضاً بالموت بطرق تظهر ضعف طبيعة الجسد بل سمح بتعفن وتحلل جثث الموتى لعل البشر يدركون حقيقة ضعف الإنسان في هذه الحياة كقول الكتاب: "هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَاٍن وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَاِنيًّا. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَاِنيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَاِنيٌّ" (١كو١٥: ٤٢ -٤٤).
    • أكد الرب يسوع لليهود الصديقيون الذين كانوا لا يؤمنون بقيامة الأموات أن الموت ليس نهاية المطاف، فهناك حياة أبدية بعد الموت قائلاً عن الله: "لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنتُمْ إِذًا تَضِلُّوَن كَثِيرًا!" (مر١٢: ٢٧).
    • أكد الكتاب المقدس أيضاً سعادة الملكوت التي تنتظر أبناء الله الذين ظُلموا وماتوا غدراً، لكنهم سينالون عوضاً مضاعفاً لا يقارن بحياة أرضية مؤقتة وزائلة وكل ما أتى عليهم من تعب وضيق لن يقارن بما ينتظرهم بحسب قول الكتاب: "إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِندَ اللهِ أَّن الَّذِيَن يُضَايِقُوَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا، وَإِيَّاكُمُ الَّذِيَن تَتَضَايَقُوَن رَاحَةً مَعَنا، عِندَ اسْتِعْلاَن الرَّبِّ يَسُوعَ مِن السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ" (٢تس١: ٦ -٧). إن الله سيعوض المظلومين بعوض سمائي أبدي وسيجازي الأشرار على شرهم، وسينسى المتألمين حتماً كل هذه الأتعاب والضيقات لأن الله سيمسح دموعهم. ومن لا ينسى المظالم والأحزان مهما كانت شدتها عندما يعوّضه الرب بما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر؟!
    • إن السعادة السماوية المنتظرة عظيمة وأبدية والشقاء وقتي ومحدود وخفيف جداً بالنسبة للسعادة. وهذا يمكن تمثيله بأب قد يأخذ ابنه للطبيب الذي يأمر بحَقْنهِ بمضاد حيوي ليشفى، ولعظم الفائدة يشجع الأب ولده لأن الألم المنتظر تافه جداً، ولا يقاس بالفائدة، ولا وسيلة للشفاء إلا بالعلاج، وهل عندما يشفى الابن من آلامه ويدرك حب أبوه له ألا يشكره على عظم صنيع عمله معه؟!
    1. ما وراء الموت:
    • الموت آتٍ آتٍ لا محالة، فما أعظم أن يفوز الإنسان من خلال موت الجسد الذي يعمل فينا ببطء كل يوم ثم يكمل عمله فينا بانتقالنا من الحياة الأرضية لننعم براحة ومجد أبديين، فلهذا اشتهى الكثيرون هذا الموت الذي سينهي أتعابهم لأجل الحياة الأبدية التي هي أعظم وأنفع. وهذا ما اشتهاه بلعام بن بصور الذي قال: "... لِتَمُتْ نفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُن آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (عد٢٣: ١٠). وقد نشبّه ذلك بشمعة صنعها الصانع لتُضيء وتُنير في الظلام، ولكنها قد تفسد بسبب تعرضها لحرارة المكان الذي تُحفظ فيه، أو قد تتلف وتتحطم إلى أجزاء بسبب عبث الأطفال، أو تتلفُ عموماً بسبب أو آخر.. ولكنها ستتلفُ يوماً ما. فهكذا الإنسان مجده وسموّه في أن يُنهي حياته من أجل الصلاح الذي لأجله خلقه الله، وحينئذ سيفوز بالمجد الأبدي وهو يردد قول معلمنا بولس الرسول "لأَنَّنَاإِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوت فَإِنْعِشْنَا  وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبّ نَحن." (رو8:14 ).
    • الكثير من العظماء قهروا الموت بدلاً من أن يقهرهم الموت وذلك باختيارهم الموت طواعيةً، وبعدم مهابتهم منه، وقد أعطانا الرب يسوع المسيح أعظم مثال عندما قهر الموت بموته من أجل محبته للبشر ثم قهره مرة أخرى بقيامته، وقد يتشبه البشر بالرب فلا يخشون الموت من أجل الله كالشهداء مثلاً، أو من أجل الحب لأبنائهم أو لأجل الدفاع عن الوطن، أو لأجل الواجب كالطبيب الذي لا يخشى الموت فيصاب بالعدوى من مريضه وهو يؤدي واجبه أو... أو... ونحن نمجد ذلك الجندي الشهيد من أجل وفاءه للوطن أو ذلك الطبيب... لأجل... أو... أو... ولا نركز على بشاعة وطريقة موته، ولا نسترسل في الحزن عليه بل نمتدح بسالته. فإن كان العالم يمجد من يموت لأجل أهداف بشرية سامية أفلا نُمجد نحن ونقبل أن يموت بعض البشر حباً في الله ولأجله؟!
    • لا علاقة بين سبب الموت الجسدي والمصير الأبدي فهابيل أول من مات من البشر قتلاً بل غدرا، وقد شهد عنه الكتاب المقدس بأنه بار، وعلى العكس قد يكون هناك أشرار قد يطول عمرهم على الأرض، ولكن لماذا ننشغل كثيراً بسبب موت الجسد، ولا ننشغل بما بعد موت الجسد؟! لقد علّمنا الرب يسوع ألا نخاف الموت، بل نخاف ما وراء الموت قائلاً: "بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّن تَخَافُوَن: خَافُوا مِن الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَاٌن أَن يُلْقِيَ فِي جَهَّنمَ. َنعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِن هذَا خَافُوا" (لو ١٢ : ٥). فكل من مات غدراً وهو بريء بفعل البشر أو مات في كارثة، لم يخسر كثيراً لأنه كان سيفارق هذه الحياة يوماً ما، أما موته هذا فهو بسماح من الله وتدبيره وبحسب حكمته الفائقة، وبالطبع تنتظره عوضاً مكافأة الله العادلة في السماء.
    • التوبة هي أعظم رسالة من وراء الموت بكل صوره، خصوصاً الموت الفجائي، وأيضاً من وراء الموت الرديء الذي يهز مشاعر الناس وهذا ما علمنا به الرب عندما أخبره اليهود عمّن قتلهم هيرودس وهم يقدمون ذبائحهم لله قائلاً: "وَكَاَن حَاضِرًا فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُوَنهُ عَن الْجَلِيلِيِّيَن الَّذِيَن خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَتَظُّنوَن أَّن هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّيَن كَاُنوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِن كُلِّ الْجَلِيلِيِّيَن لأَّنهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِن لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ. (لو ١٣ : ١ -٣).30
  • هل يمكن أن يسمح الله كأب حنون بعذاب الجحيم القاسي للأشرار؟ وهل لا يتعارض ذلك مع أبوته الحانية؟.

    يرفض الأشرار حب الله وأبوته لهم. هم لا يعتبرون وجوده في حياتهم، فلا يخضعون لوصاياه، ولذلك يفصلون أنفسهم عنه وَيُصِرون على ذلك، وبالتالي يفقدون علاقتهم بالله تماماً فلا يصيرون أبناء له، بل يعادونه ويقومون عليه، ولذلك هم يستحقون قضاء الله العادل. إنهم في ذلك يشبهون الغصن الذي انفصل عن الكرمة فَذَبُلَ ومات، ولا مفر من حرقه كقول الكتاب : "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ". (يو15: 6).

    لقد أختار هؤلاء الأشرار – بإرادتهم الحرة – على مدى سنوات عمرهم، وحتى النفس الأخير الخروج خارج دائرة حب الله ورعايته، وأحبوا الظلمة أكثر من النور؛ فتأهلوا لهذا العذاب القاسي بجدارة، وفيما يلي نشرح ذلك تفصيلاً:

    أولا:  الله هو الأب الحقيقي، ولكنه ليس أباً للأشرار:

    ليست البنوة علاقة نسب جسدية فقط ولكنها أسمى من هذا بكثير. وفيما يلي بعض لمحات عن هذه العلاقة العجيبة:

    • هي علاقة ورباط ووحدة الأب بابنه: يرى الأب نفسه في ابنه؛ لأنه هو ذريته، وامتداده الطبيعي، ولهذا فهو يقبله كنفسه، ويفرح به. إن أعظم حب يمكن أن يدركه البشر هو حب الأب لابنه (أو ابنته).  لقد أعلن  الأب في مثل الابن الضال لابنه الأكبر - المتذمر عليه - عن ذلك حينما نسب لابنه كل ما له قائلاً: "فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ." (لو١٥: ٣١).  
    • توافق الابن مع أبيه ضرورة استمرارية هذه العلاقة السامية: يجتمع الأب والابن معاً ليس في صفات وراثية فقط، ولا في بيت مشترك يضمهما معا،ً ولكنهما بالأولى يجتمعان في صفات ومبادئ وطباع كثيرة تُوَحِدُ بينهما. لقد اتخذ الكتاب المقدس من شركتنا مع الله (في خيره وصلاحه) دليلاً على بنوتنا لله بحسب قول الوحي الإلهي: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ... فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. " (مت٥: ٤٤- 48). مما سبق يتضح أن من لا يشاء الاحتفاظ بصفات وطباع أبيه معتزاً به لا يستحق التمتع بأبوته الغالية.
    • البنوة قبول، واعتراف: إن معاملة البنين تختلف تماماً عن معاملة العبيد، الذين يُقهرون،11 ويُذلون ليخضعوا لسادتهم صاغرين. أما معاملة الأبناء  فتختلف تماماً عن ذلك، فليس من الحب أن يقهر الأب  ابنه، بل ينصحه ويبذل أقصى جهد ليبعده عن ضرر نفسه، لكنه في ذات الوقت يحترم حريته. أما الابن فيجب عليه قبول أبوة والده، والاعتزاز بانتمائه له، وأيضاً الخضوع له في حب.  لقد حكى الرب لنا في مثل الابن الضال عن ابنٍ عاص ومعاند، ومع ذلك لم يقهره أبوه بل احترم حريته، لم يمنع الأب عطاياه عن ابنه في هذا المثل كقول الرب بفمه المبارك: "... إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ.  فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ" (لو١٥: ١١- ١٣).
    • مخاطر تهدد كيان البنوة: كلما قبل الابن طبيعة وشخصية أبيه وتوافق معه، واعتز به كلما اعتز الأب بابنه، وتقرب إليه وارتبطا ببعضهما البعض، والعكس صحيح كلما رفض الابن طبيعة وشخصية أبيه كلما تألم الأب، وأحس بتغرب ابنه عنه، وذلك كقول الرب عن عدم انتماء الأشرار من بني  إسرائيل لإبراهيم أب الآباء "... لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!.. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَق..."(يو8: 39- 44).  
    • انفصال الابن عن أبيه هو موت من حياته:يأتي وقت ينشق ويقوم  فيه الابن على أبيه نتيجة لإصراره على المخالفة، والعصيان، فينفصل عنه، ويموت من حياته كما ينفصل العضو الميت من الجسد الحي فيبكي أبوه عليه بمرارة قلب، ولكنه لا يقدر أن يضم ذلك العضو الميت له كما وصف الأب حال ابنه بعد رجوعه في مثل الابن الضال قائلاً عنه: " لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ..." (لو١٥: ٢٤).
    • استحالة قبول الابن الشرير: إن اعتراف الأب بابنه وضمه إليه وهو مصرٌ على عصيانه وشره هو تنازل عن الحق، ومشاركة وقبول للفساد الذي يحيا فيه الابن، وهذا هو المستحيل بعينه بالنسبة للآباء الأبرار، وبالأحرى لله القدوس، الذي لا ولن يتخلى عن قداسته أبداً كقول الكتاب: "... إِنْ كُنَّا نُنْكِرُهُ فَهُوَ أَيْضًا سَيُنْكِرُنَا. إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ." (٢تي٢: ١٢- ١٣).
    • النتيجة الحتمية: إن الابن الشرير يتغرب عن أبيه، ويموت عنه، فيلفظه أبوه ولا يعترف به كابن، وهذا ما سيسمعه الأشرار في اليوم الأخير من فم الرب القائل: "...  أَقُولُ لَكُمْ: لاَأَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ، تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ!" (لو١٣:  ٢٧).

    إن هذا يشبه ماهو حادث مع البشر في حياتهم المادية، فالآباء يحتملون أبناءهم كثيراً، ولكن مع استمرارية رفض الأبناء الخضوع لآبائهم، وعصيانهم لهم باستمرار يأتي وقت يصرخ فيه الآباء في وجوه أبنائهم قائلين " لا أنت ابني ولا أعرفك". إنه ليس بأمر هين على الأب  أن يفعل ذلك، ولكنه اختيار وقرار وإصرار الابن على الموت من حياة أبيه. إن مثال ذلك لفظ جهاز المناعة  في الجسد البشري لعضو زرعه الأطباء، ولكنه لا يتوافق مع خلايا الجسد. إن لفظ الأشرار من بنوتهم لله أمراً واقعاً لا يمكن تفاديه، ما داموا لا يقبلون أبوة آبائهم، وهذا ما قرره الله على فم معلمنا بولس بقوله لأهل كورنثوس: "لا تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟" (٢كو٦: ١٤- ١٥). فكيف يقبلهم الله ويضمهم إليه وهم أشرار؟!!!

    • ملاحظة:

    لفظ الأشرار وانفصالهم عن الله مصدر الحياة هو عينه فقدانهم للملكوت وأيضاً هلاكهم الأبدي بعذابه القاسي (كما شرحنا ذلك في السؤال السابق نرجو الرجوع إليه).

    ثانياً: تطبيق عملي:

    سجل لنا الكتاب المقدس في سفر صموئيل الثاني من الفصل الثالث عشر وحتى السابع عشر أحداث شر، وهلاك أبشالوم ابن الملك داود، والذي قام على أبيه، وأراد قتله. إنه من المفيد جداً أن نستعرض هذه القصة المؤسفة، والتي من خلالها يتضح جلياً ما يلي:

    • أضمر أبشالوم شراً، وخطط بمكر لقتل أخيه أمنون: لقد استأذن أبشالوم الملك أباه في دعوة كل إخوته بما فيهم أمنون لوليمة قد أعدها،  ثم أوصى عبيده بقتل أخيه أمنون، ثم هرب بعد ذلك خارج أرض إسرائيل.
    • أبشالوم يسيء لصديقه يوآب قائد الجيش: فقد توسط يوآب لرجوع أبشالوم من غربته وللعفو عنه وبالفعل عفا عنه أبوه، ولكنه اشترط عليه ألا يأتي إلى القصر الملكي، ولكن أبشالوم بعد فترة من الزمن بعث ليوآب لكي يتوسط له في عودته للقاء أبيه الملك، ولما تأخر يوآب في المجيء إليه كافئه عن معروفه له بحرق حقله. وبالفعل عاد يوآب وتوسط له في لقاءه أبيه ومسامحة أبيه له.
    • أبشالوم يستخدم والمكر والالتواء أداة لشره: استخدم أبشالوم المكر لاستمالة الشعب له، وتأليب نفوسهم على أبيه الملك داود. لقد أحاط  نفسه بمظاهر العظمة الخارجية لكي يبدو في أعين الشعب أعظم من أبيه الملك؛ فاتخذ لنفسه مركبة تجرها خيول وخمسون رجلاً يجرون أمامه. كان أبشالوم يقف كل يوم مستقبلاً رعايا الملك، الذين يأتون ليفصل لهم أبوه الملك في شكواهم وقضاياهم، فيٌظهر اهتمامه الكاذب بهم قائلاً لكل من له شكوى: "...انْظُرْ. أُمُورُكَ صَالِحَةٌ وَمُسْتَقِيمَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ مَنْ يَسْمَعُ لَكَ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ». ثُمَّ يَقُولُ أَبْشَالُومُ: «مَنْ يَجْعَلُنِي قَاضِيًا فِي الأَرْضِ فَيَأْتِيَ إِلَيَّ كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى فَأُنْصِفَهُ؟". (2صم15: 3-4).
    • أبشالوم العاصي والمخالف: ظل أبشالوم يعلق قلوب الشعب به، وعندما أطمأن لاستمالة عدد كبير من الشعب أعلن العصيان على أبيه بل العداء له. لقد كون جيشاً وأعلن  نفسه ملكاً مكان أبيه.
    • أبشالوم الشرير يظهر شره ودنسه: اعتدى على زوجات (سراري) أبيه علانية ليؤكد عداءه الشديد لأبيه فتتشدد قلوب تابعيه معه ضد أبيه.
    • أبشالوم القاتل يطلب القضاء على أبيه: قرر وشرع في قتل أبيه، وحاول أيضاً إبادة الشعب المخلص المرافق لأبيه، والذين كان قد تركوا مدينة أورشليم في سلام، تجنباً لإراقة الدماء، وتفادياً للشر الذي كان أبشالوم مصمماً عليه.

    محبة داود لأبشالوم، والتي لم تسقط أبداً:

    لقد تمسك داود بمحبته لابنه أبشالوم إلى النهاية، وذلك يتضح مما يلي:

    ١. غفران  داود لأبشالوم، وقبول رجوعه بعد قتله لأخيه، وهربه ثم قبول وساطة يوآب برفع الحظر عن مجيئه للملك.

    ٢. ترك له أبوه حرية ليتصرف حسبما شاء، ولكنه استغلها بمكر لتأليب نفوس الرعية على أبيه.

    ٣  هرب الملك وترك أورشليم مدينة الملك لابنه طالباً سلامة ابنه أبشالوم، ومن معه.

    ٤. عندما تتبع أبشالوم أباه طالباً أذيته أوصى قواد جيشه، لكي لا يمد أحد يده بسوء لابنه قائلاً في تأثر شديد: "... تَرَفَّقُوا لِي بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ». وَسَمِعَ جَمِيعُ الشَّعْبِ حِينَ أَوْصَى الْمَلِكُ جَمِيعَ الرُّؤَسَاءِ بِأَبْشَالُومَ." (٢صم ١٨: ٥).

    ٥. بكى الملك بشدة في تأثر بالغ على ابنه الذي كان يطلب قتله عندما عرف خبر موته.

    حتمية هلاك أبشالوم:

    أخيراً كان هلاك أبشالوم أمراً حتمياً لا مفر منه، لأنه قام على الحق، وعلى أبيه، وعلى مملكة أبيه. أراد أبوه نجاته من الهلاك المحقق، لكن أوان النجاة كان قد مضى بإقامته من نفسه عدواً للحق، الذي كان لا مفر من انتصاره. لقد كان لابد أن يتم أمر من اثنين وهما: إما انتصار الشر الذي أضمره الشرير أبشالوم،  وذلك بإبادة المملكة البارة، وعلى رأسها هذا الملك البار، أو انتصار الحق بهلاك الشرير بشره، وبالطبع كان لابد أن تكون النصرة في جانب الحق؛ لأنه الأقوى، ولا وجه للمقارنة.

    الخلاصة:

    إن أبشالوم يمثل كل معاند شرير يقوم على الله أبيه معلناً العداء له، ولكن الحق لابد أن ينتصر، وسيباد كل شرير من مملكة الله؛ لأنها مملكة الحق الذي لاشر فيه.