أولاً:
موقف الله من قتل ووحشية البشر بعضهم نحو بعض.
- القتل والوحشية هو نوع من الشر والظلم الذي لم يرضَ عنه الله من بدء وجود الإنسان على الأرض، ولم يرضَ به الله يوماً من الأيام ولن يرضى به أبداً، وقد أعلن الله ذلك بقوله لقايين: "... مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِن الأَرْضِ. فَالآَن مَلْعُوٌن أَنتَ مِن الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِن يَدِكَ" (تك٤: ١٠ - ١١).
- سماح الله للبشر بممارسة حرية إرادتهم سواء كانت خيراً أم شراً أو حتى قتلاً، كان ضرورة لحرية الإنسان وإلا يكون الإنسان مجبراً على السلوك حسب مشيئة الله، وحتى إن صنع خيراً أو براً لا يكون لذلك قيمة، لأنه صادر عن كائن يساق كالعبيد ولا حرية له...
مثال ذلك:
أب يسمح لابنه بما يوافق شخصيته فقط؛ فتكون النتيجة أن يكبر الابن ويصير نسخة من أبيه ولكنها نسخة ممسوخة، فأبوه يمكنه أن يفكر ليتصرف حسناً في المواقف المختلفة ويتخذ قراراً يناسب كل موقف، أما الابن المسكين فضعيف جداً في الشخصية وبالتالي ضعيف أيضاً في مقدرته على التفكير وفي الإرادة أيضاً، ولا يمكنه فعل شيء من نفسه دون الرجوع لأبيه في كل موقف، فيكون مصدر الخير ليس منه بل خارجاً عنه. فهل يفرح الأب ويفتخر بذلك الابن؟ بالطبع لا. ولكن الأب الحكيم يترك لابنه مساحة ما من الحرية تمكنه من النضوج مع معرفته التامة أن ابنه سيخطئ حتماً، مع أن تبعية أخطاء ابنه قد تأتي عليه كأب.
إذاً الشر والقتل والوحشية الموجودة في العالم نتيجة لمساحة الحرية الممنوحة من الله للأشرار كبشر.
ثانياً:
ما هو ذنب الأبرياء.
- طبيعة الموت:
احتارت البشرية في هذا العدو اللدود الذي وصفه الكتاب المقدس قائلاً: "آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ" (١كو ١٥ : ٢٦). فقد قهر الموت العظماء سواء كانوا ملوكاً أو قادةً أو رؤساءً. قهر الموت الأبطال الشجعان من رجال الحرب. قهر الحكماء والمفكرين، وأيضاً الفلاسفة. قهر الموت من خَلد التاريخ أسمائهم، بل قهر الأنبياء والقديسين وبالإجمال قهر البشر أجمعين. وهكذا سيطر الموت على البشرية التي أتى منها الرب متجسداً ليقهر الموت بقيامته لحسابها فاتحاً باباً للرجاء في حياة أبدية. والآن لنتعرف من خلال النقاط التالية على طبيعة هذا العدو اللدود أي الموت:
- جميع البشر معرّضون للموت ولابد أن يأتيهم الموت كقول الكتاب: "وَكَمَا وُضِعَ لِلَّناسِ أَن يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنوَنةُ" (عب٩: ٢٧).
- الموت قريب جداً من الإنسان، فالبشر جميعهم معرضون للموت في كل لحظة وفي أي لحظة بسبب ضعف تكوينهم الجسماني، فجسدنا تفارقه الحياة لأسباب كثيرة مثل المرض أو الحريق أو البرد الشديد أو الغرق أو التعرض للعنف بكل صوره أو ... أو ... أو ... وقد وصف الكتاب المقدس ذلك بقوله: "لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْن آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِندَهُ. تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ" (مز١٤٦: ٣-٤)، وقد قصد الله ذلك حتى يدرك البشر زوال هذه الحياة.
- تعدد طرق وأسباب الموت يعبر عن حقيقة هامة أراد الله تأكيدها للبشر، وهي سهولة حدوث الموت وواقعيته، فالموت يحاصر الإنسان من كل جهة وقد أراد الله للإنسان ألا تفارقه تلك الحقيقة على الدوام. ولو افترضنا جدلاً أن الشيخوخة أصبحت هي السبب الوحيد للموت مثلاً، هنا نتوقع ألا يفكر الإنسان في الموت إلا عندما يبلغ سن الشيخوخة. أما عندما يدرك الإنسان أن الموت قريب جداً منه فأنه يتطلع إلى ما بعد هذه الحياة (الحياة الأخرى).
- وقد نشبه ضعف تكوين الإنسان الجسدي بورق الكتابة الذي من السهل فساده سواء ببلل الماء أو بالتمزيق أو بحرقه بالنار أو سهولة تهتكه بمرور الوقت، لكننا نستعمله لفائدته ونحن نعلم أنه لن يعمّر كثيراً. ولهذا سمح الله أيضاً بالموت بطرق تظهر ضعف طبيعة الجسد بل سمح بتعفن وتحلل جثث الموتى لعل البشر يدركون حقيقة ضعف الإنسان في هذه الحياة كقول الكتاب: "هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَاٍن وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَاِنيًّا. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَاِنيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَاِنيٌّ" (١كو١٥: ٤٢ -٤٤).
- أكد الرب يسوع لليهود الصديقيون الذين كانوا لا يؤمنون بقيامة الأموات أن الموت ليس نهاية المطاف، فهناك حياة أبدية بعد الموت قائلاً عن الله: "لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنتُمْ إِذًا تَضِلُّوَن كَثِيرًا!" (مر١٢: ٢٧).
- أكد الكتاب المقدس أيضاً سعادة الملكوت التي تنتظر أبناء الله الذين ظُلموا وماتوا غدراً، لكنهم سينالون عوضاً مضاعفاً لا يقارن بحياة أرضية مؤقتة وزائلة وكل ما أتى عليهم من تعب وضيق لن يقارن بما ينتظرهم بحسب قول الكتاب: "إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِندَ اللهِ أَّن الَّذِيَن يُضَايِقُوَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا، وَإِيَّاكُمُ الَّذِيَن تَتَضَايَقُوَن رَاحَةً مَعَنا، عِندَ اسْتِعْلاَن الرَّبِّ يَسُوعَ مِن السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ" (٢تس١: ٦ -٧). إن الله سيعوض المظلومين بعوض سمائي أبدي وسيجازي الأشرار على شرهم، وسينسى المتألمين حتماً كل هذه الأتعاب والضيقات لأن الله سيمسح دموعهم. ومن لا ينسى المظالم والأحزان مهما كانت شدتها عندما يعوّضه الرب بما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر؟! …
- إن السعادة السماوية المنتظرة عظيمة وأبدية والشقاء وقتي ومحدود وخفيف جداً بالنسبة للسعادة. وهذا يمكن تمثيله بأب قد يأخذ ابنه للطبيب الذي يأمر بحَقْنهِ بمضاد حيوي ليشفى، ولعظم الفائدة يشجع الأب ولده لأن الألم المنتظر تافه جداً، ولا يقاس بالفائدة، ولا وسيلة للشفاء إلا بالعلاج، وهل عندما يشفى الابن من آلامه ويدرك حب أبوه له ألا يشكره على عظم صنيع عمله معه؟!
- ما وراء الموت:
- الموت آتٍ آتٍ لا محالة، فما أعظم أن يفوز الإنسان من خلال موت الجسد الذي يعمل فينا ببطء كل يوم ثم يكمل عمله فينا بانتقالنا من الحياة الأرضية لننعم براحة ومجد أبديين، فلهذا اشتهى الكثيرون هذا الموت الذي سينهي أتعابهم لأجل الحياة الأبدية التي هي أعظم وأنفع. وهذا ما اشتهاه بلعام بن بصور الذي قال: "... لِتَمُتْ نفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُن آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (عد٢٣: ١٠). وقد نشبّه ذلك بشمعة صنعها الصانع لتُضيء وتُنير في الظلام، ولكنها قد تفسد بسبب تعرضها لحرارة المكان الذي تُحفظ فيه، أو قد تتلف وتتحطم إلى أجزاء بسبب عبث الأطفال، أو تتلفُ عموماً بسبب أو آخر.. ولكنها ستتلفُ يوماً ما. فهكذا الإنسان مجده وسموّه في أن يُنهي حياته من أجل الصلاح الذي لأجله خلقه الله، وحينئذ سيفوز بالمجد الأبدي وهو يردد قول معلمنا بولس الرسول "لأَنَّنَاإِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوت فَإِنْعِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبّ نَحن." (رو8:14 ).
- الكثير من العظماء قهروا الموت بدلاً من أن يقهرهم الموت وذلك باختيارهم الموت طواعيةً، وبعدم مهابتهم منه، وقد أعطانا الرب يسوع المسيح أعظم مثال عندما قهر الموت بموته من أجل محبته للبشر ثم قهره مرة أخرى بقيامته، وقد يتشبه البشر بالرب فلا يخشون الموت من أجل الله كالشهداء مثلاً، أو من أجل الحب لأبنائهم أو لأجل الدفاع عن الوطن، أو لأجل الواجب كالطبيب الذي لا يخشى الموت فيصاب بالعدوى من مريضه وهو يؤدي واجبه أو ... أو... ونحن نمجد ذلك الجندي الشهيد من أجل وفاءه للوطن أو ذلك الطبيب... لأجل... أو... أو... ولا نركز على بشاعة وطريقة موته، ولا نسترسل في الحزن عليه بل نمتدح بسالته. فإن كان العالم يمجد من يموت لأجل أهداف بشرية سامية أفلا نُمجد نحن ونقبل أن يموت بعض البشر حباً في الله ولأجله؟!
- لا علاقة بين سبب الموت الجسدي والمصير الأبدي فهابيل أول من مات من البشر قتلاً بل غدرا، وقد شهد عنه الكتاب المقدس بأنه بار، وعلى العكس قد يكون هناك أشرار قد يطول عمرهم على الأرض، ولكن لماذا ننشغل كثيراً بسبب موت الجسد، ولا ننشغل بما بعد موت الجسد؟! لقد علّمنا الرب يسوع ألا نخاف الموت، بل نخاف ما وراء الموت قائلاً: "بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّن تَخَافُوَن: خَافُوا مِن الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَاٌن أَن يُلْقِيَ فِي جَهَّنمَ. َنعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِن هذَا خَافُوا" (لو ١٢ : ٥). فكل من مات غدراً وهو بريء بفعل البشر أو مات في كارثة، لم يخسر كثيراً لأنه كان سيفارق هذه الحياة يوماً ما، أما موته هذا فهو بسماح من الله وتدبيره وبحسب حكمته الفائقة، وبالطبع تنتظره عوضاً مكافأة الله العادلة في السماء.
- التوبة هي أعظم رسالة من وراء الموت بكل صوره، خصوصاً الموت الفجائي، وأيضاً من وراء الموت الرديء الذي يهز مشاعر الناس وهذا ما علمنا به الرب عندما أخبره اليهود عمّن قتلهم هيرودس وهم يقدمون ذبائحهم لله قائلاً: "وَكَاَن حَاضِرًا فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُوَنهُ عَن الْجَلِيلِيِّيَن الَّذِيَن خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَتَظُّنوَن أَّن هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّيَن كَاُنوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِن كُلِّ الْجَلِيلِيِّيَن لأَّنهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِن لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ. (لو ١٣ : ١ -٣).