أولًا: الحرام
1. الكلمة في قواميس اللغة
الحرام في قواميس اللغة العربية هو الممنوع فعله، ولا يحل انتهاكه، وعكسه هو الحلال، وهو أيضًا ما ينهي الله فعله، كقوله: "وَإِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَعَمِلَ وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ، كَانَ مُذْنِبًا وَحَمَلَ ذَنْبَهُ" (لا ٥: ١٧).
حرّم الله في شريعة العهد القديم فعل الخطية، كما حرّم أيضًا شعبه من أكل أطعمة محددة، ومن ارتداء ملابس من نوعية خاصة، وحرّم أيضًا الزواج من أقارب الدرجة الأولى، أو من غير اليهود من الوثنيين من الأمم المحيطة.
2. حكمة الله من تحريم شعبه من أمور معينة
لقد كانت الحكمة من ذلك النهي، أو المنع هو الحفاظ على الشعب من الخطية المميتة، ومن الملاحظ أن الله حرم أشياء وأفعال لم تحرّمها شريعة العهد الجديد، فيما بعد.
ذلك لأن الشعب كان ضعيفًا، ومستعبدًا بشدة للخطية، إذ لم يكن بعد ناضجًا روحيًا، ولهذا أعطاه الله الناموس عونًا، ليحفظه من كل ما قد يؤدي به إلى الشر والخطية، كقوله: "فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ" (غل ٣: ١٩).
3. أمثلة
1. الأطعمة المحرمة، التي منعت شريعة موسى النبي أكلها.
"وَالْوَبْرَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالأَرْنَبَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْخِنْزِيرَ، لأَنَّهُ يَشُقُّ ظِلْفًا وَيَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ، لكِنَّهُ لاَ يَجْتَرُّ، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. مِنْ لَحْمِهَا لاَ تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لاَ تَلْمِسُوا. إِنَّهَا نَجِسَةٌ لَكُمْ" (لا ١١: ٥-٨). "وَهذِهِ تَكْرَهُونَهَا مِنَ الطُّيُورِ. لاَ تُؤْكَلْ. إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ: اَلنَّسْرُ وَالأَنُوقُ وَالْعُقَابُ" (لا ١١: ١٣).
"إِذَا اتَّفَقَ قُدَّامَكَ عُشُّ طَائِرٍ فِي الطَّرِيقِ فِي شَجَرَةٍ مَا أَوْ عَلَى الأَرْضِ، فِيهِ فِرَاخٌ أَوْ بَيْضٌ، وَالأُمُّ حَاضِنَةٌ الْفِرَاخَ أَوِ الْبَيْضَ، فَلاَ تَأْخُذِ الأُمَّ مَعَ الأَوْلاَدِ. أَطْلِقِ الأُمَّ وَخُذْ لِنَفْسِكَ الأَوْلاَدَ، لِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ وَتُطِيلَ الأَيَّامَ" (تث ٢٢: ٦، ٧).
2. الملابس الممنوع لبسها
"لاَ يَكُنْ مَتَاعُ رَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلاَ يَلْبَسْ رَجُلٌ ثَوْبَ امْرَأَةٍ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ذلِكَ مَكْرُوهٌ لَدَى الرَّبِّ إِلهِكَ" (تث ٢٢: ٥).
3. الزواج
"يُسْمَعُ مُطْلَقًا أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى! وَزِنًى هَكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ الأُمَمِ، حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ امْرَأَةُ أَبِيهِ" (١كو ٥: ١).
"لاَ يَقْتَرِبْ إِنْسَانٌ إِلَى قَرِيبِ جَسَدِهِ لِيَكْشِفَ الْعَوْرَةَ. أَنَا الرَّبُّ. عَوْرَةَ أَبِيكَ وَعَوْرَةَ أُمِّكَ لاَ تَكْشِفْ. إِنَّهَا أُمُّكَ لاَ تَكْشِفْ عَوْرَتَهَا" (لا ١٨: ٦، ٧).

ثانيًا: التحريم.. كراهية، ورفض للخطية
4. الحزم والجدية في التعامل مع الخطية
ما حرمته الشريعة عمومًا هو الخطية، وبالأخص عبادة الأوثان، ‏وقد تعاملت الشريعة بحزم مع هذه الخطية، فمنعت كل ما يُسَهل أو يُغري الإنسان على السقوط فيها، وقد تعاملت أيضًا بموضوعية في أمر التحريم والمنع، فحرّمت كل ما يؤدي بالشعب لتلك الخطية، دون النظر للشخص المتسبب سواء كان من الغرباء الوثنيين أو من اليهود من بني إسرائيل، كقوله:
"إِنْ سَمِعْتَ عَنْ إِحْدَى مُدُنِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَسْكُنَ فِيهَا قَوْلاً: قَدْ خَرَجَ أُنَاسٌ بَنُو لَئِيمٍ مِنْ وَسَطِكَ وَطَوَّحُوا سُكَّانَ مَدِينَتِهِمْ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفُوهَا. وَفَحَصْتَ وَفَتَّشْتَ وَسَأَلْتَ جَيِّدًا وَإِذَا الأَمْرُ صَحِيحٌ وَأَكِيدٌ، قَدْ عُمِلَ ذلِكَ الرِّجْسُ فِي وَسَطِكَ، فَضَرْبًا تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ" (تث ١٣: ١٢-١٥).

10 07
ثالثًا: شريعة العهد القديم
5. الشريعة تُحَرَّم، وتُجَرَّم، وتعاقب
حرّمت شريعة موسى النبي الكثير من الأمور، واعتبرت مَن يفعلها متعدٍ على وصايا الله، وقررت في بعض الحالات عقوبة لمن يقترف أحد هذه النواهي، واعتُبِرَ مَن يفعلها مجرمًا في حقِّ الرب بسبب تعديه على وصية الله، وفرضت على مَن يريد التوبة تقديم ذبيحة عن إثمه.
تحريم الممتلكات والأمتعة في العهد القديم
حرص الله على قداسة شعبه، وعدم تمثلهم بالأشرار في عبادتهم الشريرة وخطاياهم، ولهذا تعاملت الشريعة بحزم شديد مع هؤلاء الأشرار، ورفضت مصاهرتهم، أو التعامل معهم، وامتد الأمر للتخلص من ممتلكاتهم وأمتعتهم، كقوله: "وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بِنْتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنْتَهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ" (تث ٧: ٣-٥).
رابعًا: شريعة العهد الجديد
6. ما جئت لأنقض بل لأكمل
استمرت شريعة العهد الجديد في نهي وتحريم، ومنع الخطية بصورة عامة، كقول الرب يسوع المسيح، ولم تكتفِ بهذا بل حرمت أصول الشر من نظرة شريرة، أو غضب، أو ما إلى ذلك من خطأ بسيط يقود إلى شرّ عظيم، كقول الكتاب: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ... «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ" (مت ٥: ١٧، ٢١، ٢٢).
7. ناموس الكمال
نهى الرب يسوع عن النظرة الشريرة، وعن الغضب، وعن أبسط كلمة قد تسبب أذيّة لمشاعر الآخر، وتعامل الرب بحزم مع أبسط الخطايا. لقد نهى الرب عن كل ما يمكن أن يعثر الإنسان، كقوله: "وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ" (مر ٩: ٤٧).
8. الخطية محرمة في شريعة العهد القديم والجديد.
كل الخطايا التي نهت عنها شريعة العهد القديم محرمة في شريعة العهد الجديد، فالقتل والزنا والظلم والغضب والكذب وإهانة الغير و... و... خطايا محرمة في اليهودية، وفي المسيحية أيضًا، وقد أعطانا الوحي الإلهي مثالًا لاتفاق شريعة العهد الجديد مع شريعة العهد القديم، وذلك برفض وحرمان رجل في كنيسة كورنثوس من شركة الكنيسة، لأنه تزوج بزوجة أبيه، كقول معلمنا بولس الرسول: "يُسْمَعُ مُطْلَقًا أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى! وَزِنًى هَكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ الأُمَمِ، حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ امْرَأَةُ أَبِيهِ ... بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (١كو ٥: ١، ٤، ٥).

خامسًا: غنى، وبركات كنيسة العهد الجديد
9. عهد النعمة والحق
إن العهد الجديد هو عهد المعرفة الروحية والاستنارة، وهو أيضًا عهد التمتع بنعم الروح القدس، والامتلاء منه، كقوله: "لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يو١: ١٧).
إنه عهد النضوج الروحي، الذي فيه يسلك المؤمن في القداسة مدفوعًا بمحبة المسيح المنسكبة في قلبه، ولا يحتاج لقيود خارجية تقيده في تعامله مع الأشياء، لكنه بالنعمة التي في داخله، وبالحكمة المعطاة له يمكنه أن يحدد ما هو نافع له، وما هو ضار له. أما خليقة الله فهي كلها طاهرة، كقوله: "لأَنَّ كُلَّ خَلِيقَةِ اللهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ الشُّكْرِ" (١تي ٤: ٤).
10. الروح القدس روح الحرية
روح الله الساكن في أبناء الله يهب المؤمنين بالمسيح حرية، لينطلقوا بالروح، ويحلقوا عاليًا في السماويات، وينعموا بالبركات الروحانية، ولهذا أعطت شريعة العهد الجديد المؤمن حرية في اختيار طعامه أو ثيابه، ولم تفرض عليه قيودًا في الحركة يوم السبت، أو في المناسبات الدينية، كقوله: "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ" (كو ٢: ١٦، ١٧).
سادسًا: التحريم في كنيسة العهد الجديد
11. الخطية في المسيحية مجرمة، ومحرمة كما هو الحال في العهد القديم
فيما يلي بعض الآيات التي وردت في أسفار العهد الجديد، وتؤكد هذه الحقيقة:
"إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ" (١كو ١١: ٢٧).
"لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. لأَنَّ الَّذِي قَالَ: «لاَ تَزْنِ»، قَالَ أَيْضًا: «لاَ تَقْتُلْ». فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ. هكَذَا تَكَلَّمُوا وَهكَذَا افْعَلُوا كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ" (يع ٢: ١٠-١٢).
12. كنيسة الرسل تحَرم المخنوق والدم ونجاسات الأصنام.
استمرت شريعة العهد الجديد في تحريم الخطية والنجاسة، وأيضًا بعض الأمور المحرمة في العهد القديم، كقوله: "لِذلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لاَ يُثَقَّلَ عَلَى الرَّاجِعِينَ إِلَى اللهِ مِنَ الأُمَمِ، بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ الأَصْنَامِ، وَالزِّنَا، وَالْمَخْنُوقِ، وَالدَّمِ" (أع ١٥: ١٩، ٢٠).
13. شريعة الكمال
الرب يسوع المسيح هو مشرع شريعة الكمال، وواضع الناموس الأفضل. وقد ارتقى الرب بالشريعة لتناسب أبناء النعمة، ولذا امتنع المؤمنون المقدسون في المسيح يسوع عن الكثير من أمور هذا العالم بإرادتهم، ولا يوجد مسيحي محب لله لا يمتنع عن ما يسبب له أو لأخيه عثرة، كقول الكتاب: "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (غل ٥: ١٣).
14. السلوك بالتدقيق
حياة التمييز والتدقيق تجنب الإنسان الانحراف، والوقوع في طريق الشر. لقد طالب معلمنا بولس الرسول المؤمنين بالسلوك بالتدقيق، قائلًا: "فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ" (أف ٥: ١٥-١٧).
وطالبهم أيضًا بالامتناع عن كلِّ شبه شر، كقوله: "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ. امْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرّ" (١تس ٥: ٢١، ٢٢).
سابعًا: كل الأشياء تحل لي، لكن ليس كل الأشياء توافقني
ورد هذا المصطلح ضمن رسالة معلمنا بولس الرسول الأولى لأهل كورنثوس، لأن البعض كان يأكل لحم الذبائح، التي ذبحت خلال طقوس العبادة الوثنية بجرأة، غير حاسب تأثير ذلك روحيًا على إخوته من ضعفاء الإيمان والمعرفة، ولهذا كتب لهم الرسول، معلمًا قائلًا: "لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ. أَمْ نُغِيرُ الرَّبَّ؟ أَلَعَلَّنَا أَقْوَى مِنْهُ؟ «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوَافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي. لاَ يَطْلُبْ أَحَدٌ مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا هُوَ لِلآخَرِ" (١كو ١٠: ٢١-٢٤).
15. مفهوم خاطئ
قد يخطئ البعض في فهم كلمة "كل الأشياء تحل لي" فيعتبرون أنه لا يوجد شيء محرم في المسيحية، ويستبدلونها بعبارة "لا يوافقني" أو لا يليق فعله، وبهذا قد يعطون سامعيهم إيحاءً بأن هذه الأمور يجوز فعلها، مع أن الله يرفضها، وقد حَرَّمها، ومنعها تمامًا، لأنها تغضبه، كقوله: "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ" (رو ١: ١٨).
لقد سبقنا وشرحنا عن تحريم الله وغضبه الشديد على فجور الناس وخطاياهم، وأيضًا تجريم الوحي الإلهي لمخالفة وصاياه، ورفض الآباء الرسل في مجمع أورشليم بوحي الروح القدس (الزنا والدم والمخنوق، وما ذبح للأوثان).
إن عبارة لا يوافق، أو لا يليق لا تساوي في معناها عبارة لا يحل لي، أو عبارة محرم من الله، أو ممنوع بأمر شريعة العهد الجديد، فلذلك يجب الدقة في استخدام أمثال هذه المصطلحات. وفيما يلي نوضح ذلك بأكثر تفصيل:
16. كل الأشياء تحل لي
ما يحل لي هو المسموح به من الله، دون أن يغضبه، وهو أيضًا ما لم يمنعه عني، وما لا يحل لي هو ما لا يُسمح لي فعله. لقد استخدم القديس يوحنا المعمدان هذه العبارة، ليعلن لهيرودس أن زواجه من امرأة أخيه محرم من الله، فقال له: "فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»" (مت١٤: ٣، ٤).
إن ما يحل لي هو ما يسمح به الله، وهناك بالطبع أمور وأفعال كثيرة لم يسمح بها الله، أي محرمة، لكن الرسول في هذه الآيات يتكلم عن ما هو مسموح ومحالل من الله، وكمثال لذلك: أكل اللحم بالطبع محالل ومبارك من الله، ومع ذلك يمتنع عنه الرسول أحيانًا بغرض الصوم، لأنه لا يوافقه أن يأكله أثناء الأصوام.
17. ليس كل الأشياء توافق
ما يوافقني قد لا يوافق غيري، لأني مختلف عن الآخر، لأن ما يوافق قد يكون مسموح به من الله ومحالل، لكنه لا يوافقني أنا بالذات، لأنني قررت أن أحيا بطريقة مختلفة عن الآخرين من أجل الله، وكمثال لذلك لا يوافق الآباء الرهبان أن يتزوجوا، لأنهم نذروا البتولية مع أن الزواج مقدس وطاهر من الله، كقوله: "لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ كَمَا أَنَا. لكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مَوْهِبَتُهُ الْخَاصَّةُ مِنَ اللهِ. الْوَاحِدُ هكَذَا وَالآخَرُ هكَذَا. وَلكِنْ أَقُولُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجِينَ وَلِلأَرَامِلِ، إِنَّهُ حَسَنٌ لَهُمْ إِذَا لَبِثُوا كَمَا أَنَا" (١كو ٧: ٧، ٨).
18. أسباب عدم موافقة ما يحل لي
لقد نما حرص المسيحي تجاه الخطية والشر بسبب بنوته وحبه لله، ونموه في المعرفة الروحية، فامتنع بإرادته واقتناعه عن أشياء حسنة سمح الله بها، ولكنها قد لا توافقه، فيما يلي نذكر أسباب امتناع أولاد الله عن ما قد حلله الله.
19. العثرة
يمتنع أولاد الله عن كل ما هو قد يعثرهم، أو يعثر إخوتهم، وقد عَلم القديس بولس الرسول بعدم الأكل في محال الأطعمة، التي تقدم فيها اللحوم المذبوحة للأوثان، ومع أن أكل اللحم لم يحرمه الله، لكنه خشى أن يتجرأ بعض الضعفاء من المؤمنين، ويذهبون لتلك الأماكن، ويشاركون الوثنيين عبادتهم للأوثان، كما ذكرنا سابقًا.
20. ما لا يبني
أعطى الله نعمة موهبة النطق للإنسان، لكي يعبر عن نفسه، ويبارك بها الآخرين، ومع أن الإنسان له الحرية أن يتكلم بما يريد، لكن الرسول طالب المؤمنين أن يمتنعوا عن ما هو غير نافع من الكلام، ويلتزموا بما يبني نفوسهم ونفوس الآخرين، قائلًا: "لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ" (أف ٤: ٢٩).
21. ما لا يتسلط عليَّ
المادة طاهرة، لأن الله لم يخلق شيئًا غير طاهر، لكن الاستعمال السيئ للمادة قد يتسبب في استعباد المادة للإنسان، وتحكمها فيه ومن أشهر الأمثلة على ذلك استعباد، وتحكم المكيفات والخمور والمسكرات في البعض. لقد وضع معلمنا بولس الرسول قاعدة ذهبية، بقوله: "كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ. الأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَالْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ، وَاللهُ سَيُبِيدُ هذَا وَتِلْكَ. وَلكِنَّ الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ" (١ كو ٦: ١٢، ١٣).
الاستنتاج
الحرام هو ما يُغضب الله، وقد نهى الله عن فعله في العهد القديم والعهد الجديد أيضًا، وقد أيدنا ذلك بأدلة من الكتاب المقدس.
أما بالنسبة لبعض الطقوس الناموسية، التي التزم بها اليهود فقد تحررنا منها في العهد الجديد، لأن شريعة العهد الجديد هي شريعة النعمة، التي تعمل في قلب الإنسان وداخله بالحب والشوق للقداسة، وتنفيذ مشيئة الله بالروح القدس، ولهذا يمتنع من أجل بنيان نفسه وإخوته، بإرادته الحرة عن ما لا يبني حياته، وأيضًا عن كل عثرة أو كل ما يتسلط عليه، لأنه لا يليق بالمسيحي فعل شيء غير نافع أو ضار.